تتعدد المؤشرات التي تدل على أن شهر ديسمبر قد لا يمر بخير في
تونس. فالأزمة السياسية لا تزال مفتوحة على جميع الاحتمالات، وذلك بعد أن أعلنت المنظمات الأربعة الراعية للحوار الوطني قبل أيام عن عدم توصلها لإقناع الأحزاب المتصارعة بالتوافق على رئيس حكومة جديد. وجاء ذلك على لسان الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، الذي أكد أن
الرباعي أمهل الأطراف السياسية - وذلك بطلب منها - عشرة أيام إضافية عسى أن تتوصل إلى حل في عشية الذكرى الثالثة لاندلاع الثورة التونسية، وتحديدا يوم السبت القادم في منتصف النهار. ولم يكتف بذلك، بل وجه السيد حسين العباسي إنذارا لهذه الأحزاب عندما كشف بأن البلاد تتجه نحو خريف ساخن، في إشارة إلى حالة الاحتقان الاجتماعي الذي تشهده تونس، وذلك بعد أن أقدمت قبل أسبوعين مجموعة من المحافظات على تنظيم سلسلة من الإضرابات الجماعية المتتالية، وخاصة في كل من القصرين وقفصة وسليانة وقابس وتوزر. وهي من بين المحافظات المهمشة، والتي يشكو سكانها من انعدام التنمية.
لقد فشل
الحوار الوطني حتى كتابة هذا المقال في التوصل إلى تقريب وجهات نظر أحزاب
الترويكا من جهة وأحزاب المعارضة من جهة أخرى حول شخصية يتم تفويضها لقيادة البلاد خلال الأشهر القادمة في انتظار تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية تضع حدا لحالة المؤقت التي تعيشها البلاد منذ ثلاث سنوات. ويعود هذا التعطل إلى استمرار كل طرف في التمسك بمرشحه لرئاسة الحكومة القادمة. وفي اللحظة التي تنازلت فيها حركة
النهضة عن ترشيح المعارض القديم للرئيس بورقيبة أحمد المستيري الذي يبلغ من العمر 86 عاما، وقبلت بوزير المالية السابق جلول عياد، جاء الاعتراض من الجبهة الشعبية ذات التوجه اليساري، وأيدها في ذلك حزب
نداء تونس الذي يقوده الباجي قايد السبسي. وهكذا بقي الحوار الوطني معلقا لفترة قاربت الآن الخمسة أسابيع.
تونس لم تعد تتحمل مزيدا من إضاعة الجهود في جدل دائري فقد الكثير من أهميته ومصداقيته. وبالرغم من أن الحوار الوطني كان ينظر إليه باعتباره الطريق الوحيد لتقريب التونسيين من بعضهم البعض، فإذا به يفقد بريقه، ولم يعد محل اهتمام المواطنين الذين يسكنهم حاليا الخوف من المستقبل.
وبالرغم من أن الحكومة الحالية قد أعلنت استعدادها للاستقالة والتزامها بذلك، إلا أن رئيسها السيد علي العريض قد نفى مؤخرا وجود فراغ في الدولة، وذلك في ظرف عبرت فيه مؤسسات عالمية وسفراء الاتحاد الأوروبي عن انشغالهم باستمرار الأزمة السياسية في تونس. ويعود استعمال مصطلح الفراغ نتيجة الخوف من أن يفشل الحوار في هذا الظرف المعقد، حيث يتساءل الكثيرون عن النتائج السياسية التي ستترتب عن ذلك.
ثلاث تحديات ستفرض نفسها بقوة خلال الأسابيع القليلة القادمة :
أولا : يعتبر شهر جانفي / يناير من أصعب أشهر السنة في تونس، فأهم الأحداث ذات الطابع الاحتجاجي التي عاشتها البلاد منذ قيام دولة الاستقلال حصلت في مثل هذا الشهر. ولهذا كانت الحكومات المتعاقبة تخشى هذه المحطة الزمنية، وتستعد لها حتى لا تفاجئها الأحداث وتدفع بها إلى السقوط في هوة عميقة. فعلى سبيل المثال تشكل أحداث 26 جانفي 1978 خطا فاصلا، وذلك حين حصل الصدام الكبير بين نظام بورقيبة والاتحاد العام التونسي للشغل، وانتهى بقتل عدد كبير من المواطنين في يوم مشهود تم الإعلان فيه عن الإضراب العام. وأعلنت على إثره حالة الطوارئ، وشكل ذلك الحدث بداية ترسيخ استقلالية الحركة النقابية عن هيمنة الحزب الدستوري الحاكم. كما اندلعت ثورة الخبز في 3 جانفي 1984 بسبب إعلان حكومة المزالي عن مضاعفة سعر الرغيف، ففجر بذلك أزمة حادة كادت أن تسقط النظام. ونظرا لتفاقم الأوضاع الاجتماعية حاليا نتيجة قلة إمكانيات الحكومات التي توالت بعد الثورة، فإن قدرة المواطنين الشرائية قد تراجعت بشكل خطير، وهو ما وفر ظروفا ملائمة لاحتمال وقوع صدامات، خاصة في الجهات المحرومة.
ثانيا : تراجع نسق التنمية والاستثمار في تونس بشكل لافت. ومما زاد في حجم المخاوف تكرر التخفيض من الترقيم السيادي لتونس، وذلك من قبل مؤسسات أمريكية ودولية، وهو ما وجه رسائل سلبية للمستثمرين الأجانب، وشكك في قدرة الاقتصاد الوطني على استعادة وضعه الطبيعي في وقت قريب. وبعد أن كانت التوقعات الرسمية بتحقيق نسبة نمو قد تصل إلى أربعة ونصف، أعلن محافظ البنك المركزي مؤخرا أن النسبة الحقيقية قد لا تبلغ حجم 3 بالمائة. وبالتالي فإن التحدي الاقتصادي من شأنه أن يزيد من إثارة القلق والخوف لدى أصحاب القرار.
ثالثا : تم الإعلان رسميا عن توفر معلومات استخباراتية تحدثت عن احتمال قيام الخلايا الإرهابية النائمة بعمليات بالغة الخطورة مع نهاية السنة الميلادية، وهو ما اشعر التونسيين بأن خطر العنف السياسي لا يزال قائما. وتكاد المعلومات والأخبار المتعلقة بملف الارهاب تصبح الخبز اليومي للمواطنين.
في مثل هذه الأجواء غير الطبيعية، تصبح الإخفاقات السياسية، وتصاعد وتيرة المشاحنات الحزبية مجالا خصبا لنمو المخاطر وإرباك مؤسسات الدولة وإضعافها. لهذه الأسباب تحديدا، اقتنع جزء هام من الكوادر القيادية لحركة النهضة بأن بقاءهم في السلطة قد فقد جدواه، وأن أفضل الحلول للخروج من هذا المأزق هو الانسحاب من الحكومة، ونقل المعركة إلى فضاء المجلس التأسيسي باعتباره مصدر السلطة العليا في هذه المرحلة. لكن هناك في المعارضة من يحرص على أن يبقى الإسلاميون مدة أخرى في الحكم لتتضاعف أزمتهم، ويفقدوا المزيد من مصداقيتهم؟