تجنبت
تونس الأسوأ عندما أعلنت المنظمات الراعية للحوار الوطني عن اسم رئيس الحكومة الجديد الذي اختارته أغلبية الأحزاب التي شاركت في التصويت. صحيح أن أحزابا رئيسية في المعارضة قد احتجت على هذه النتيجة، وشككت في استقلالية شخصية مهدي جمعة، وهناك من طعن في كفاءته لقيادة البلاد في هذه المرحلة الصعبة بحجة عدم انخراطه في العمل السياسي، ولم يتحمل في سيرته سوى مسؤولية وزارة الصناعة في الحكومة الحالية للترويكا، لكن مع أهمية الجهات المعترضة، إلا أن البديل عن هذه النتيجة كان دفع
الحوار نحو الفشل، ودخول تونس في وضع يصعب التكهن بنتائجه وتداعياته.
من المستبعد أن يلجأ المحتجون إلى التصعيد الميداني، لأن ذلك من شأنه أن يظهرهم في صورة غير جيدة أمام الرأي العام، ويوقعهم في حرج شديد. فالتونسيون، وإن كانت معرفتهم معدومة برئيس حكومتهم الجديد إلا أنهم تقبلوه بتفاؤل حذر، واعتبروا أن "نصف اتفاق خير من عدم اتفاق" كما جاء على لسان رئيس حزب معارض يؤيد المسار الحالي. أي أن المعارضة بشقيها الراديكالي والمتعاون ستعمل خلال الأيام القليلة القادمة على رفع سقفها وممارسة الضغط السياسي حتى تدفع برئيس الحكومة الجديد نحو اختيار مساعديه من أوساط الخبراء غير المتحزبين أو الموالين لحركة
النهضة. ويعتبرون ذلك شرطا أساسيا لاستكمال بقية الفترة الانتقالية في ظروف ملائمة لتنظيم انتخابات نزيهة وديمقراطية.
في هذا السياق، تجد المعارضة نفسها، بعد أن أخفقت في تزكية شخصية سياسية تكون قوية، وتستطيع أن تلف حولها الجميع، مضطرة إلى تقييم أدائها بعد خمسة أشهر من التصعيد والاحتجاج.
وإذ تعتبر حركة النهضة، في محاولة منها لتخفيف خسارتها السياسية، أن المعارضة قد فشلت في تحقيق أهدافها، إلا أن ذلك ليس صحيحا في المطلق، حيث أنه لولا الجهود التي بذلتها هذه المعارضة طيلة المرحلة الماضية، لما قررت الترويكا الحاكمة مغادرة السلطة التنفيذية بهذه الطريقة. لقد أصرت معظم قيادات حركة النهضة عدم مغادرة الحكومة، وذلك بالرغم من تدهور أدائها، وتعثر جهودها، وتراجع شعبيتها. وبالرغم من أن أمينها العام السيد حمادي الجبالي قد بذل جهودا ضخمة من أجل إقناع إخوانه - بعد عملية اغتيال المعارض شكري بلعيد - بأن مصلحة الحركة تفرض عليها أن تنسحب من الحكومة، وأن تترك له فرصة أن يشكل فريقا وزاريا جديدا من تكنقراط، إلا أن جماعته رفضت ذلك ومارست عليه ضغوطا دفعته إلى أن يخرج هو من الحلبة، وهو ما حصل فعليا حين استقال لتواصل النهضة قيادة البلاد. لكن ما أن تم الاغتيال السياسي الثاني ممثلا في تصفية المعارض الناصري محمد البراهمي، حتى عادت العاصفة من جديد لتنتهي بإجبار حركة النهضة على القبول بما رفضته سابقا، بل وبشروط أسوء، لأن الحكومة الجديدة لن يكون بها وزير نهضاوي واحد، في حين أن الجبالي – الأمين العام لحركة النهضة - كان سيبقى قبل أشهر رئيسا للحكومة.
ومع أهمية هذه النتيجة التي حصلت عليها المعارضة، إلا أنها في المقابل وجدت نفسها منهكة في بعض المحطات. لقد وحدت صفوفها في مرحلة التعبئة ضد حركة النهضة، لكنها قبل انتهاء الربع ساعة الأخير من الحوار الوطني بدا عليها الضعف، وحصل تصدع في صفوفها بسبب اختلاف وجهات النظر، خاصة بين الحزب الجمهوري الذي يقوده نجيب الشابي وبين حزب
نداء تونس من جهة، والجبهة الشعبية ذات التوجه اليساري من جهة أخرى. وهو ما أشر فعليا على ضرورة التوقف لمراجعة الرؤية وأساليب التحرك في صفوف المعارضة.
لم تكن الاختلافات الأيديولوجية عائقا أمام وضع آليات للتنسيق بين مختلف مكونات المعارضة، لكن بالرغم من ذلك فإن اليساريين بقوا أكثر التصاقا بخلفياتهم النظرية والسياسية مما جعلهم في غالب المحطات والمواقف يقفون في أقصى اليسار. في حين أن حلفاءهم المرحليين من ليبراليين واشتراكيين بقوا أكثر مرونة، ويعطون الأولوية لحسهم البرغماتي عند تحديد المواقف، ويسعون إلى تحقيق الحد الأقصى من مصالحهم الحزبية.
إن المراهنة على تعبئة الشارع للوصول إلى تحقيق سقف أعلى في مستوى المطالب السياسية ليس دائما الوسيلة الأفضل. فالشارع متذبذب، وأحيانا ينقلب على المراهنين عليه إذا أطالوا في مدة التنازع، ولم يأخذوا بعين الاعتبار تأثير العامل الزمني على الجماهير الواسعة. وكلما طالت فترة الصراع السياسي إلا وأثر ذلك على المواطنين الذين تحكمهم في الغالب اعتبارات أخرى بعيدة من منطق الأحزاب. فالتونسيون ككل شعوب العالم، يعطون الأولوية للاستقرار واستتباب الأمن وحماية قدرتهم الشرائية. إنهم ليسوا كمّا ضائعا في خدمة هذا الحزب أو ذاك. ولهذا عندما تتغير المعطيات، يمكن أن يتغير مزاج الرأي العام.
لا يعني ذلك أن أغلب التونسيين عادوا ليميلوا من جديد نحو حركة النهضة وحلفائها، وإنما قدروا بأن التوصل إلى تعيين رئيس جديد لحكومة بديلة قد يشكل فرصة لإعادة ترتيب أوضاع البلاد في اتجاه أفضل. ولهذا عبروا عن ارتياحهم رغم تشكيك المعارضة فيه واحتجاجها على تعيينه.
والأهم من ذلك أن الناشطين في الحقل السياسي المنظم عليهم أن يأخذوا بعين الاعتبار التراجع المتواصل في استطلاعات الرأي لمدى ثقة التونسيين في الأحزاب وقياداتها. إنها لعبة مزدوجة، من لم يحسن استعمالها والتحكم فيها قد يصاب بخيمة أمل كبرى.