لا أعرف إلى أى مدى يمكن أن نأخذ على محمل الجد حكاية لجنة تعديل
الدستور المصرى، لأن المطاعن كثيرة فى مبدأ اختيارها وتشكيلها ومهمتها. إلا أننى لم أستطع مقاومة مناقشة زاوية واحدة فى ملفها، تتعلق بالنموذج الذى قدمته فى إهدار
القانون. شجعنى على ذلك أن رئيس الجمهورية عدلى منصور امتدح دور اللجنة التى كنت أظن أن خبرته باعتباره رئيسا سابقا للمحكمة الدستورية العليا ستمكنه من أن يلاحظ العوار فى موقفها القانونى. وزاد من حماسى للتطرق إلى الموضوع ما قرأته قبل أيام على لسان المستشار السياسى للرئيس الدكتور مصطفى حجازى حين علق على تظاهرة الشباب أمام مجلس الشورى قائلا إن المشاركين فيها لا يريدون لدولة القانون أن تقوم، لمجرد أنهم احتجوا على صدور قانون التظاهر ورفضوا النص فى الدستور على محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.
الاستخفاف والازدراء تجلى فى تعامل اللجنة مع نصوص الإعلان الدستورى الذى أنشأها وحدد آجال مهمتها. إذ نصت المادة 28 منه على تشكيل لجنة خبراء من عشرة حددت صفاتهم، تختص باقتراح التعديلات على دستور 2012 المعطل. على أن تنتهى من مهمتها خلال ثلاثين يوما من تاريخ تشكيلها. والنص واضح وصريح على أن مهمتها مقصورة على إدخال تعديلات على النصوص المختلف عليها فى الدستور الذى تم تعطيله فقط ولم يشر إلى إلغائه. وأجل الثلاثين يوما الذى أعطى لها قرينة على محدودية المواد التى كان متوقعا تعديلها، التى قيل وقتذاك إنها فى حدود 15 مادة.
المادة 29 من الإعلان الدستورى نصت على إحالة مقترح التعديلات إلى لجنة من خمسين عضوا (حددت مواصفاتهم) ثم قررت ما يلى: يتعين أن تنتهى اللجنة من إعداد المشروع النهائى للتعديلات الدستورية خلال ستين يوما على الأكثر من ورود المقترح عليها، على أن تلتزم خلالها بطرحه على الحوار المجتمعى.. وتحدد اللجنة القواعد المنظمة لها والإجراءات الكفيلة بضمان الحوار الوطنى حول التعديلات.
هذه النصوص الواضحة تعاملت معها لجنة الخمسين باعتبارها «كلام جرايد» لا إلزام فيه، فضلا عن أنها تحتمل التلاعب والعبث، فلا هى احترمت حدود الولاية التى قررها لها الإعلان الدستورى، ولا هى التزمت بالمواعيد المقررة فى نصوصه وتحايلت عليها على نحو لا يليق بمقام المهمة التى أنيطت بها. وهو ما يسوغ لى أن أقول إنها أهانت الإعلان الدستورى وابتذلته. ويبدو أن اللجنة استندت إلى ما ورد فى نهاية المادة 29 التى خولتها تحديد القواعد المنظمة لها، واعتبرت أنها تطلق يدها فى أن تطيح بكل الحدود والمواعيد التى تضمنتها بقية المواد، فارتأت أن تنشئ دستورا جديدا من عندياتها. وحين وسعت نطاق مهمتها وأدركت أن الستين يوما التى حددها الإعلان الدستورى لا تكفى لإنجاز الدستور الجديد المراد إعداده، فإنها لم تتردد فى الإطاحة بالمواعيد المقررة. وهو ما يفتح واسعا باب الطعن ببطلان عملها من وجهين على النحو التالى:
< من ناحية لأن ولايتها تقتصر بموجب الإعلان الدستورى المنشئ لها على تعديل دستور معطل وليس إلغاء ذلك الدستور وإنشاء دستور جديد تدبجه من العدم. خاصة إذا لاحظنا أنها مشكلة بقرار إدارى وليست منتخبة من الشعب.
< من ناحية ثانية لأن المواعيد القانونية أمرها محسوم ولا تتحمل الاجتهاد. وإنما هى من مسائل القانون الصارمة. إذ حين يقرر المشروع أنه «يتعين» على اللجنة أن تنتهى من التعديلات ومن الحوار المجتمعى حولها خلال 60 يوما، فإن الموعد المنصوص عليه يصبح حتميا ولا يجوز التلاعب فيه تحت أى ذريعة (كأن يقال إن المقصود 60 يومَ عمل وهو ما حدث). ذلك أنه فى هذه الحالة يعد من المواعيد الناقصة التى يتعين أن يتم الإجراء خلالها. وهى تنقضى بانقضاء اليوم الأخير منها، ولا تمتد إلا فى حالة واحدة هى أن يوافق اليوم الأخير عطلة رسمية. وفى هذه الحالة فإن أصل الميعاد يمتد إلى أول يوم عمل.
حين يحدث ذلك فإننا لا نستطيع أن نستقبل امتداح المستشار عدلى منصور لعمل اللجنة إلا بحسبانه تغليبا للحسابات السياسية على ما يعرفه وينبغى أن يحرسه رئيس المحكمة الدستورية الذى كانه الرجل، كما أننا لا نستطيع أن نفسر كلام مستشاره السياسى عن إرساء دولة القانون إلا بحسبانه كلام جرايد يفتقد إلى الصدقية والمسئولية.
إذا قال قائل بأن هذا الذى أشرت إليه تأخر كثيرا، ثم انه نقطة فى بحر، وأن حجم التجاوزات التى تجرى أكبر بكثير وأشد جسامة، فإنه سوف يفحمنى ويدفعنى إلى الاعتذار له راجيا منه أن يمسحها فىّ، بحيث يعتبرها «فشَّة خُلق» من شخص تعلم القانون يوما ما، ولايزال يحتفظ بحنينه إليه وغيرته عليه.
(عن الشروق
المصرية)