أحيت المشاهد المبهجة الأسبوع الماضي في دمشق آمال الحرية في مختلف أنحاء العالم العربي، لكنها تعيد إلى الأذهان ذكريات مؤلمة أيضا من بغداد وتونس والقاهرة وطرابلس وصنعاء والخرطوم؛ نظرا لأن صورا مماثلة ظهرت في عواصم عربية أخرى على مدى العقدين الماضيين، ولكن حتى الآن لم تنته أي من هذه القصص على خير.
وقال الصحفي ديفيد كيركباتريك في مقال نشرته مجلة "
نيويوركر"؛ إن "الاحتمالات القاتمة للهروب من الاستبداد أو الحرب الأهلية لا تقتصر على العالم العربي، ذلك أن عصر نهاية التاريخ السعيد، السنوات التي أعقبت الحرب الباردة عندما بدا ذات يوم أن مسيرة الديمقراطية الليبرالية إلى الأمام لا يمكن إيقافها، انتهى تقريبا في وقت الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003".
وأضاف كيركباتريك، أنه منذ ذلك الحين، أصبح عدد الديمقراطيات في مختلف أنحاء العالم ـ ذات المؤسسات الحاكمة الدائمة، والتناوب السلمي للسلطة، وبعض مظاهر القانون ـ ثابتا تقريبا، والواقع أن التحولات الديمقراطية الناجحة، وخاصة بعد فترات من الصراع المسلح، أصبحت نادرة للغاية.
وأوضح أنه "قبل ما يقرب من عقد من الزمان، ومع انزلاق ثورة
الربيع العربي في
سوريا إلى حرب أهلية طائفية، قدم توماس كاروثرز، وهو باحث أمريكي بارز في التحولات السياسية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، تفسيرا لسبب توقف الاضطرابات السياسية في جميع أنحاء العالم عن الاتجاه نحو الديمقراطية".
وذكر: "لا يزال صناع السياسات في
الولايات المتحدة يصورون أنفسهم وحلفاءهم الغربيين؛ باعتبارهم الجهات الفاعلة الرئيسية التي قد تمد يدها من الخارج لتشكيل مستقبل البلدان المضطربة، للأفضل أو الأسوأ، لكن الكثير من اللاعبين الآخرين دخلوا اللعبة؛ دول أصغر وأقل قوة على ما يبدو، التي تسعى إلى تعزيز مصالحها الخاصة من خلال رعاية الفصائل السياسية أو الجماعات المسلحة داخل هذه البلدان. كان بعض هؤلاء المتدخلين أعداء، مثل إيران في العراق بعد الغزو، أو روسيا في الاتحاد السوفييتي السابق".
إظهار أخبار متعلقة
وبين: "لكن العديد منهم كانوا عملاء أو حلفاء أمريكيين ظاهريين، مثل ممالك الخليج ، التي مارست نفوذها عبر البحرين ومصر وليبيا وأماكن أخرى، في بعض الأحيان بالقوة العسكرية المباشرة، ولكن في الوقت نفسه، كانت هناك دول أخرى ينظر إليها صناع السياسات الغربيون عادة باعتبارها حالات خيرية أو مشاريع لتعزيز الديمقراطية، على النقيض من المفسدين الذين كانوا منخرطين في الوقت نفسه، في مؤامرات خفية لتقويض التحولات الديمقراطية خارج حدودهم، كما فعلت باكستان في أفغانستان، أو كما فعلت مصر في ليبيا والسودان".
وأشار إلى أنه "لم يكن أي من هؤلاء المتطفلين الجدد يضاهي قدرات أو موارد الولايات المتحدة، لكنهم كانوا يهتمون كثيرا، أكثر كثيرا من أي شخص في
واشنطن، بأهداف تدخلهم، وفي هذا العصر الجديد، كتب كاروثرز، مع مؤلفه المشارك أورين ساميت مارام: "لا ينبغي تأطير المناقشات حول الدور الذي ينبغي للغرب أن يؤديه في بلد معين على النحو التالي: هل ينبغي لنا أن ندعم الديمقراطية؟ وكأن الاختيار بين مشاركة الدول الغربية أو تقدم البلد المعني سياسيا بمفرده". والسؤال الأكثر ملاءمة هو: "ما إذا كان ينبغي للغرب أن يشارك، أو بدلا من ذلك يترك المجال خاليا للجهات الفاعلة الخارجية الأخرى؟".
وأكد أن "سوريا هي الحالة النموذجية، ومنذ بداية ثورات الربيع العربي في أوائل عام 2011، كانت الحركة من أجل الديمقراطية في سوريا من بين أقل الحركات نجاحا، فقد كان الأمر صعبا بما يكفي، لدرجة أن قرونا من الاستعمار وعقودا من الدكتاتورية الوحشية، تركت عداء عميقا بين مجموعاتها العرقية وطوائفها الدينية العديدة، ولكن الأسوأ من ذلك، أن سوريا كانت أيضا محاطة بقوى خارجية مفترسة؛ بما في ذلك إيران، والممالك العربية في الخليج وروسيا وتركيا وإسرائيل، وكانت جميعها مستعدة لاستغلال هذه الانقسامات، من خلال دعم وكلاء داخليين في معركة ضد بعضهم بعضا، أو حتى التدخل بالقوة العسكرية".
وقال؛ إنه "على الرغم من بعض الخطابات النبيلة للرئيس باراك أوباما حول حقوق الإنسان والخطوط الحمراء، ظلت الولايات المتحدة بعيدة عن الأمر إلى حدّ كبير، تاركة سوريا تحت رحمة دول أخرى في المنطقة، واندلع أكثر من عقد من الفوضى. ومؤخرا، قال كاروثرز؛ إنه يرى سوريا "حالة شديدة الخطورة" من تدويل الصراع المدني الذي وصفه قبل ما يقرب من عشر سنوات. ولكن من الممكن أيضا أن يكون ذلك "مثالا واضحا على ما سيصبح عليه العالم"، عندما تصبح أي نقطة ساخنة مهمة مركزا لصراع دولي متعدد الأطراف".
كان روبرت فورد، السفير الأمريكي في سوريا في بداية الربيع العربي، من بين أولئك الذين توقعوا المتاعب القادمة، وبحلول بداية عام 2014، بعد عامين من بدء الانتفاضة السورية ــ في البداية كموقف سلمي من أجل الديمقراطية ــ، ألقت إيران بثقلها خلف رئيس النظام بشار الأسد، في حين كانت دول الخليج الغنية بالنفط "تقدم الشيكات للجهاديين السنة بين معارضيه، بغض النظر عن طائفيتهم أو تطرفهم".
وقال كيركباتريك؛ إنه "في الوقت نفسه، اقتصرت الولايات المتحدة على توفير أسلحة وتدريب محدودين لقوة صغيرة فقط من الألوية المتمردة الليبرالية إلى حد ما، التي تم فحصها بعناية، وفي شباط/ فبراير من ذلك العام، استقال فورد بسبب إحباطه من الفتور وعدم فعالية السياسة الأمريكية، وفي العاشر من حزيران/ يونيو، حذر في مقال رأي في صحيفة نيويورك تايمز، من أن "المزيد من التردد وعدم الرغبة في الالتزام بتمكين مقاتلي المعارضة المعتدلة من محاربة الجهاديين والنظام بشكل أكثر فعالية، من شأنه ببساطة أن يعجل باليوم الذي يتعين فيه على القوات الأمريكية التدخل ضد تنظيم القاعدة في سوريا".
وبعد تسعة عشر يوما، استولى تنظيم "داعش" على جزء كبير من سوريا، وأعلن عن "خلافة" جديدة تمتد عبر الحدود إلى العراق، وفي آب/ أغسطس، بدأت القوات الأمريكية في قصف مقاتلي داعش في سوريا، كما توقع فورد، ويبقى حوالي تسعمائة جندي أمريكي في سوريا لمنع عودة التنظيم.
وفي عام 2012، بادر فورد، بصفته سفيرا، إلى تصنيف فصيل مرتبط بالقاعدة كان يُعرف آنذاك باسم جبهة النصرة كـ"إرهابي"، وفي مقابلة أجريت معه الأسبوع الماضي، قال؛ إنه كان لدى الولايات المتحدة "معلومات استخباراتية جيدة" حول "الروابط العضوية للمجموعة مع القاعدة في العراق، وأردنا أن نقطع علاقة المعارضة السورية بجبهة النصرة في مهدها".
ومع ذلك، قال؛ إن القضاء على جبهة النصرة أصبح "أحد إخفاقاتنا العديدة"، والمجموعة نفسها، التي انفصلت علنا عن القاعدة في عام 2017، اندمجت في نهاية المطاف مع مجموعات أخرى لتشكيل هيئة تحرير الشام. وتساءل كيركباتريك: "لكن، هل كان هذا هو الحال؟ لقد سيطرت الهيئة إلى حد ما على محافظة إدلب السورية على مدى السنوات العديدة الماضية، وفي الأيام الأخيرة قادت عملية الاستيلاء الخاطفة على حلب وحماة وحمص ودمشق التي أطاحت بالأسد".
إظهار أخبار متعلقة
ومع ذلك، قال فورد، الذي يعرف مثل أي شخص آخر إخفاقات السياسة الأمريكية في سوريا والربيع العربي، أنه كان يأمل في أن تتمكن الولايات المتحدة، من خلال التعلم من تلك الأخطاء، من مساعدة السوريين على الحصول على فرصة جيدة للحكم الذاتي المستقر.
وزعم أن انهيار الأسد المفاجئ قد فتح فرصة نادرة، "عندما يكون للمقاربة الدبلوماسية أكبر الأثر"، ولكن هل من الممكن أن يكون الدبلوماسيون الغربيون قادرين على توجيه السوريين على الأرض؟ يقول فورد؛ إن الدبلوماسيين الغربيين لن يكونوا "موجهين" للسوريين على الأرض، ولكنهم مع ذلك قادرون على لفت انتباه الثوار الذين يديرون دمشق الآن، إلى أمثلة لما نجح وما لم ينجح في التحولات السياسية الأخرى.
ويرى فورد أن على أمريكا أن تخبر حلفاءها الأكراد بأن "الأمور تغيرت، وأن هذا هو الوقت الذي تحتاج فيه إلى تقديم بعض التنازلات"، مضيفا: "من المعقول أن نطلب من الحكومة الجديدة في دمشق تقديم بعض التنازلات في المقابل، وأن نطلب من الأتراك تقديم بعض التنازلات، ولكنهم بحاجة إلى الانخراط في المساومة، وبناء الإجماع".
وأكد فورد، أن على الدبلوماسيين الأمريكيين البدء في التحدث إلى العديد من اللاعبين الآخرين الجالسين على الطاولة؛ من الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، إلى الفصائل الصغيرة مثل الجيش السوري الحر في درعا، إلى قادة هيئة تحرير الشام، أقوى القوات المسلحة العديدة العاملة الآن في سوريا.
والسبت الماضي، قال وزير الخارجية، أنتوني بلينكين؛ إن "الولايات المتحدة أجرت اتصالات مع هيئة تحرير الشام، مما يشير إلى أن إدارة بايدن قد تختبر البراغماتية التي أبدتها الهيئة".
وحذر فورد من أن الولايات المتحدة، في "فتح الاتصالات مع مختلف الجهات الفاعلة السورية غير المرغوب فيها، يجب أن تتعلم من تجربتها في العراق، من خلال تبني توقعات واقعية ومطالب بالمساءلة، وعندما ترتكب قوات الأمن فظائع -وهو ما أعتقد أنه أمر مؤكد تقريبا في حالة سوريا-، يجب ألا نقول فقط: لا، لقد قلنا لهم ألا يفعلوا ذلك! نحن بحاجة إلى أن نقول للقادة".
وأكد: "هذا غير مقبول.. متى ستكون المحاكمة ومتى ستعلن عنها؟' وبالطبع ستكون علنية، لذلك هناك عنصر من التسمية والتشهير، وإذا كان التاريخ مؤشرا، فإن العديد من زعماء المليشيات المتمردة، ربما يركزون الآن على مناصب رسمية في الحكومة الجديدة؛ كوزراء، أو أعضاء في البرلمان، أو سفراء، مما يعطيهم مصلحة في تعزيز مصداقيتهم".
ومع ذلك، أقر فورد بأن العقبة الأكبر قد تكون خارج حدود سوريا: "التدخل من جانب القوى الإقليمية، وخاصة تلك التي رعت بالفعل فصائل داخلية أو نفذت عمليات عسكرية، تلك التي غذت أكثر من عقد من الحرب، وإن كبح جماح مثل هذا التدخل الخارجي هو الخطوة الثالثة الضرورية".
وأشار فورد إلى أن "إيران وروسيا، الخصمين الواضحين للولايات المتحدة اللذين شاركا في سوريا، يبدو أنهما تراجعا، مما أدى إلى إزالة العوائق المحتملة أمام المساهمة الأمريكية. ومن الواضح أن الجارتين الأكثر نفوذا هما تركيا التي دعمت هيئة تحرير الشام، وإسرائيل التي ساعدت بشكل غير مباشر في دفع الأسد عن السلطة؛ من خلال شل حلفائه المدعومين من إيران. وقد أجرت إسرائيل بالفعل عمليات عسكرية لتدمير الكثير من الجيش السوري المتبقي، واحتلال ما كان بمنزلة منطقة عازلة في مرتفعات الجولان".
إظهار أخبار متعلقة
وذكر أنه "في البداية، برر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هذه الإجراءات باعتبارها ضربة استباقية لإبقاء الأسلحة والأراضي بعيدة عن أيدي المتطرفين الإسلاميين، ثم أصدر بيانا منتصرا من أعلى جبل الشيخ، في الأراضي السورية التي تم الاستيلاء عليها حديثا، مشيرا إلى أن إسرائيل تنوي إنشاء قاعدة هناك، وهي الخطوة التي من المؤكد أنها ستثير ردود فعل عنيفة في دمشق وأنقرة. كما تعاونت إسرائيل تاريخيا مع القوات الكردية في العراق، مما أثار الشكوك في دمشق، بأن إسرائيل قد تعقد الآن تحالفا ملائما مع الأكراد السوريين".
وقال فورد؛ إن تركيا وإسرائيل، "القوتين الصاعدتين" على جانبي سوريا، "تعملان انطلاقا من شعور عميق بالتفوق الأخلاقي والشرعية التاريخية، ولكن أيضا الخوف الحاد. ولتحقيق الاستقرار، يجب على أي حكومة سورية جديدة، ضمان أمن إسرائيل من الهجمات عبر الحدود من قبل المقاتلين الإسلاميين، وضمان أمن تركيا وسلامة أراضيها ضد الانفصاليين الأكراد. لكن تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، وإسرائيل حليفتان للولايات المتحدة، مما يضع الولايات المتحدة في موقف يسمح لها بالتوسط في المفاوضات والحث على ضبط النفس".
وجاء في نهاية المقال؛ إنه "من بين كل المفسدين الإقليميين المحتملين، يرى فورد أن أول من يجب التحدث معهم، هم الأتراك والإسرائيليون. يجب عليك أيضا التحدث مع الإماراتيين، وعليك التحدث مع السعوديين والأردنيين والعراقيين والروس. وستكون المحادثات مع الإيرانيين مفيدة أيضا، ولكنها تتطلب وسيطا، ربما من خلال العراق".