عندما يكتب عن تجربة قاسية من عاينها وعاش معمعانها
بالتأكيد ستختلف عن كتابة من سمع عن التجربة، وعندما يكتب أيضا من يملك قدرا كافيا
من زمام اللغة القادرة على أن تحمل على جناحيها دقّة المعاني وبراعة التصوير فهذا
أمر عظيم، وإذا أضفنا إلى ذلك الحسَّ الإنساني المرهف الذي يمتلكه إنسان هو طبيب
عيون قائم على صحّة البصر بروح بصيرة عالية؛ فهذا يزيد النصّ روعة وقوّة وبراعة.
هذا ما اجترحه الدكتور فاروق عاشور من تجربته ليخرج
لنا نصّا بديعا يجيد فيه تصوير عالم السجن بما حوى من مشاهد مريعة، بوفاء تامّ
لإخوانه
المعتقلين وليوصل رسالتهم بصورة تفي بالغرض، وترسم وثيقة شاهدة على ما
يجري هناك من جرائم في حق الإنسانيّة التي ألقيت رقبتها على مذبح الحريّة بكلّ
قسوة وخسّة ونذالة لم تعرفها البشرية من قبل.
وقد أبدع النص كثيرا في الوصف والسرد ونجح في إدخال
القارئ بسلاسة في عالم السجن، وكأن المَشاهد شاخصة رأي العين، إضافة إلى ضخّ الروح
بحيث تشترك مشاعر وأفكار وكلّ مكوّنات القارئ مع ما تريد أن تصل إليه فقرات الكتاب
وفصوله. لم يكن نصّا جافّا ذهنيا مجرّدا، بل كانت فيه روح تسري وقدرة عالية على
نقل الحالة الشعورية بين الكاتب والمتلقّي، فكانت اللغة الأدبية المؤثّرة سيدة
الموقف رغم قساوة المشهدية المظلّلة للنصّ.
سيعتبر الكتاب شهادة قانونيّة ووثيقة تعتمد لتوثيق
الجريمة بأبعادها المتعدّدة، وفي نفس الوقت سيعتبر رسالة إنسانيّة استطاعت نقل
المعاناة الصعبة والألم النازف والتعبير عن المعذّبين تعبيرا صادقا موحيا بحقيقة
ما يحدث هناك، وسيعتبر أيضا نصّا أدبيّا رائقا حلّق عاليا في عالم الأدب ونجح في
رسم الحدث بلغة جميلة راقية.
أصّل عاشور بداية لموضع
السجون وعذاباته، وذهب إلى
المنحى الفلسفي والتاريخي لفكرة السجون، ودخل إلى انطباعاته الشخصيّة النفسيّة
بإحساسه المرهف ليعبر بذلك من عالم الحريّة إلى عالم عتمة السجون وعذاباتها، ثم
ليعقد مقارناته بين السجون قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وما طرّا عليها من
انقلاب هائل بعد ذلك.
ثم شرع برؤية طبيب عيون حاذق يرينا كل الجوانب المعتمة
في دهاليز السجن، القمع والتنكيل بأشكاله المختلفة؛ الإهانات والتحقير والسحق
المعنوي والنفسي، وتعرّض للقيود والتضييقات المعيشيّة والإهمال الطبّي المتعمّد
والعنف المفرط غير المبرّر، والتفنّن في صناعة الألم وضرب الاستقرار المعيشي
والنّفسي، وذهب بنا إلى المهازل التي تسمّى محاكم ورحلة القمع وطريق الالام في
البوسطة.. الخ، وتعرّض لما تقوم به إدارة السجن من إثارة للفتن والدسائس وضرب
البنية الاجتماعية للمعتقلين.
وفي المقابل، شرح عن مجتمع السجن وعوامل قوّته وصموده،
ودور أصحاب الهمم في رفع الروح المعنوية للمعتقلين والعمل على رفع القدرة
الاستيعابية والاستفادة من وقت السجن قدر الاستطاعة، بالاستثمار في الحالة الإيمانية
والاهتمامات الإيجابية بحفظ القرآن وتفسيره وإتقان تلاوته، والانشغال في التحليل
السياسي والمناقشات الفكرية، والتغلّب على منع الرياضة بممارستها بطرق بعيدة عن
عين السجان داخل الغرف، وشرح عن الحالة الصحيّة والحرمان من الأدوية.
وختم بالتعرض لبعض السلبيات بطريقة موضوعية مع تجليات
شدة البلاء بإيجابيات عظيمة عزّزت البناء النفسي وأخرجت قوة ومناعة وعنفوان. وكان
أن يفرد ليوم الحرية بعد هذا السفر الطويل على مدار عشرة أشهر نصا جميلا يعبّر فيه
عن مظاهر الوفاء والاستقبال الحافل من أهله ومجتمعه، وأن يرسل سلامه لمن بقوا في
السجون:
"سلاما لأرواحكم المعلّقة بقناديل النّجوم تناجي
ربها بخشوع، سلاما لأنّات اشتياقكم تناغي صور أطفالكم ترتسم في وميض القمر أو شعاع
الشمس، سلاما عليكم آل الصبر وأنتم تجتازون المحن".