أفكَار

وثيقة "العدل والإحسان" السياسية باعتبارها مشروعا تنمويا وطنيا (2/2)

الوثيقة من حيث عنوانها وصدورها عن الدائرة السياسية للجماعة تمثل نموذجا تنمويا مبنيا على التزام سياسي أمام الفاعلين والنخبة والشعب.
الوثيقة من حيث عنوانها وصدورها عن الدائرة السياسية للجماعة تمثل نموذجا تنمويا مبنيا على التزام سياسي أمام الفاعلين والنخبة والشعب.
6 ـ التنمية وطبيعة النظام الاقتصادي

رغم غنى الوثيقة السياسية من حيث المقترحات الخاصة بالتنمية الاقتصادية، فإن عدم التصريح النصي بطبيعة النظام الاقتصادي الذي تقترحه الجماعة جعل البعض في موقف ملتبس منها، ولعل الوثيقة من حيث المنطلقات التأسيسية للاقتصاد المنشود، تنحو منحى نظام اقتصادي مندمج أو مختلط، وهو خط ثالث يجمع بين المبادرة الحرة والتدخل الحكومي، ليس بغرض إحداث التوازن فقط، ولكن بغرض تكامل الأدوار التي تتطلب حماية الكد والسعي والتطوير الذاتي للموطنين باعتبارهم أشخاصا ذاتيين أو معنويين، وواجب حماية مقومات الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية للأمة والدولة الوطنية.

وحيث لا يُتوقع التفصيل في النظام الاقتصادي المقترح بطبيعة البعد السياسي للوثيقة، فإنه يلزم الرجوع إلى المنطلقات لاستيضاح موقع الاقتصاد من مشروع العمران الأخوي العام، أو إلى أمهات المشروع، خاصة في كتب الأستاذ عبد السلام ياسين رحمة الله عليه. ويبدو أنه من الأهمية بمكان، العودة إلى التوضيحات المنهاجية بشأن المِلْكية، باعتبارها المحدد لطبيعة النظام الاقتصادي في علاقته بالدولة وبالمبادرة الخاصة، وفي هذا كلام كثير للإمام المجدد يضيق المقام بعرضه مفصلا، ومنه: "تطوق الاشتراكية رأس المال إذ تجعله وقفا على الدولة، فتصبح الدولة هي رأس الاحتكار. وفي الإسلام القاعدة النبوية "لا ضرر ولا ضرار". وهي قاعدة تقضي ألا يضار المالك ولا العامل، وألا يتضار المنتجون فيما بينهم بالمنافسة غير الشريفة. ومما يساعد على تطبيق هذه القاعدة وجود وجهين للملكية في الإسلام: ملكية الأفراد وملكية الجماعة، هذه توازن تلك وتضبطها وتحد من غَلْوائها. وقد اضطر المذهبان الماديان، الرأسمالية والاشتراكية، للاعتراف بالملكية المزدوجة، استثناء من قاعدة كل منهما. فالملكية الجماعية استثناء من الملكية الفردية في المذهب الرأسمالي، والملكية الفردية استثناء من قاعدة التملك الجماعي الاشتراكي. وهو اعتراف فرضته ضرورة الإدارة المتوازنة للمال عليهم. وفي الإسلام تكون الملكية المزدوجة أصلا، والتوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة فرعا عنها، ناظرا إلى قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، مطبقا لها" .

تتجاوز الوثيقة منهجية تجميع المقترحات القطاعية والبرامج الجزئية، إذ تعرض بشكل مركز وواضح خيارات التحول وأهم الأوراش الاستراتيجية الموجهة لعملية التنمية، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمجتمعية، وتجعل منها ضوءا كاشفا لحلحلة باقي الإشكالات الجزئية والقطاعية.
بقيت ملاحظة أخيرة في الموضوع، تتعلق باقتصاد المعرفة، لأن كل المشاريع الحالية تتبنى هذا المقترح. ونرى في موقعها من الوثيقة رمزية تفوق شيئية المعرفة إلى وظيفتها، إذ يخترق المقترح المتضمن في الوثيقة أشكال المعرفة واستعمالاتها (التكنولوجيا) إلى مثالية مفهوم المعرفة وسموه، إذ نجد هذا في كل مقترحات الفكر النقدي، الذي يعيد نقاش أهمية العلم في المجتمع الحر، ليس من الناحية المدرسية والربح المالي من مخرجات العلوم، ولكن من المدخل الإبستيمولوجي (فلسفة العلم) الذي يؤسس لتعددية ثقافية خارج البعد الأحادي للثقافة الغربية الغالبة، كما أوضحنا سلفا، والتي لا ترى معرفة ولا فلسفة ولا ثقافة خارج ما تفكر فيه وما تنتجه وما تسوقه من فهم جامد حول جدلية سياق الكشف وسياق التبرير . لذلك نجد اقتصاد المعرفة هو سادس مرتكزات الوثيقة وأحد مؤطراتها، منسجم بين مطلب الأخلاق والعدل والمسؤولية من جهة، وبين الانفتاح والتنافسية من جهة أخرى.

7 ـ مأسسة الدولة الاجتماعية في سياق بواعث الحق والواجب

تتأسس الدولة الاجتماعية في تصور الوثيقة على مفهوم العدالة والمساواة في التنمية، ويستطيع الباحث في الوثيقة أن يقف، دون عناء، على ما يستبطنه المقترح من وعي بالسياق التاريخي للمفاهيم، لأن التشخيص والمقترح تجاوز الخوض في مضامين وبرامج الحماية والرعاية الاجتماعية في المدخل، إلى العناصر المؤسِّسة لتنفيذ التعاقد الاجتماعي، وهي إحدى مهام الدولة التي يُتوقع فيها القيام بمسؤولية الرعاية من منطلق الهوية ومن منطلق التعاقد السياسي.

وفي هذا السياق تدعو الوثيقة إلى الالتزام برعاية المواطنين من منطلق الكرامة الإنسانية أولا، باعتبارها واجبا شرعيا "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" . وتعترف الوثيقة بكون المساواة المطلقة التي تدعو إليها بعض النداءات النشاز، هي من قبيل المطالب المستحيلة (مطالب المزايدات السياسية)، شأنها شأن العديد من المطالب التي تحولت بحكم الواقع إلى شعارات، لأنها تناقض طبيعة الاجتماع البشري، الذي يختلف فيه البشر حسب إراداتهم واجتهادهم، لكن واجب المساواة الاجتماعية يجب أن يحمل الدولة على تحقيق الضروريات، وتوفير شروط المساواة في الحظوظ والفرص والإمكانات، والحق في الترافع عنها والنضال من أجلها، والحق في التفكير الجماعي من أجلها، وأن تتبنى الدولة، إن اقتضى الأمر، بعض أشكال التمييز الإيجابي الذي يمنح حقوقا إضافية، بمثابة تعويض وجبر الضرر، لصالح شرائح اجتماعية كانت ولا تزال ضحية سياسات عمومية مغرقة في التمييز.

وتؤكد الوثيقة على أن تحقيق هذه المساواة التأسيسية ممكنة، لكن ذلك مرتبط بتحقيق الإقلاع باعتباره استحقاقا مجتمعيا، والخروج من حالة الجمود وتكريس الفوارق في السياسات والبرامج والتوجهات، ما حول المطالب والحقوق الاجتماعية إلى عطايا ومنح تتباها بها تقارير مؤسسات الدولة وبعض رموزها، ويجتهد المسؤولون في تنميق الخطابات عنها.

بناء على ذلك، تقترح الوثيقة مدخلا مهيكلا للتحول الاجتماعي، يتمثل في إصدار ميثاق اجتماعي وطني، يحمي الحقوق الاجتماعية ويضمن أمان مسالك التمتع بها، ويحدد الأهداف الاجتماعية الآنية والمرحلية ووسائل تحقيقها وفق مبادئ الشمولية (التكامل) والتضامن والمأسسة والاستدامة وباعث الحق والواجب .

8 ـ هل المشروع التنموي المقترح قابل للتنزيل؟ وما هي مسارات هذا التنزيل؟

لا يخلو مجال حيوي من المجالات التي حددتها الوثيقة من مقترحات تفصيلية عملية وممكنة، ما رفع عدد المقترحات إلى رقم قياسي بامتياز (777)، وسنشير هنا إلى الأهمية التي أولتها الوثيقة لرسم مسارات التنزيل في القضايا المهيكلة للمقترحات (الدستور والعلاقات الدولية وبناء المؤسسات)، وسنقتصر على عرض القضايا الرئيسة من كل محور.

تؤكد الوثيقة على ضرورة الصبر والتدرج، مقابل القطع مع المنهجية الضبطية المعتمدة في النماذج التنموية الرسمية، حيث تأسيس اللجن وإحداث القوانين الاستثنائية خارج المسؤولية الديمقراطية (مسؤولية المؤسسات المنتخبة)، وتعلن ضرورة تحمل الدولة بكل مؤسساتها، وفق الميثاق التأسيسي للتنمية والتغيير، مسؤولية إنجاح النموذج، وذلك حسب الاختصاص.
ـ اهتمت الوثيقة بقضية صياغة الدستور لأهميتها في التأسيس القانوني والمرجعي لطبيعة الدولة، فحددت المسار الديمقراطي المقترح لإنجاح التأسيس الدستوري للدولة، بدء بصياغة الميثاق الجامع وفق الحوار والتوافق، مرورا بعرض لوائح المرشحين والمرشحات على الانتخاب العام، وإجراء انتخابات الهيئة التأسيسية، وإدماج المقترحات الشعبية، انتهاء بعرض الدستور على الاستفتاء.

وبحكم ارتباط استدامة تفعيل الدستور بالمحكمة الدستورية وتقعيد مهامها، فقد فصلت الوثيقة المقترحات، بمثابة ضمانات الممارسة العادلة للسيادة الدستورية لهذه المؤسسة .

ـ بخصوص اللامركزية التي تعد النموذج المثالي للتدبير العمومي، فقد حددت الوثيقة جملة من الإجراءات العملية للتأسيس لنظام لا مركزي قوي، يحقق الندية وشريك تنموي للسلطات المركزية يمكن الرجوع إليها مفصلة في الوثيقة، يتجاوز عددها 16 مقترحا مفصلا .

ـ أمام الجمود المستدام، الحاصل في الإدارة العمومية، ونظرا لأهميتها في تصور الدولة الديمقراطية، رسمت الوثيقة مسارا إداريا بديلا، يتأسس على ما يزيد عن 17 مقترحا لتجاوز الاختلالات، وتحقيق الإدارة الناجحة .

ـ في العلاقات الخارجية، اعتمدت الوثيقة منهجية اقتراح مداخل معالجة الاختلالات الكبرى، واقترحت لذلك مسارا مكونا من 12 مقترحا مؤسِّسا، سمتها الوثيقة بالتوجهات والمبادئ، لتنتقل بعد ذلك إلى المقترحات التفصيلية لتفعيل المبادئ، وعددها يفوق 10 مقترحات متكاملة.

ـ وفي بناء مؤسسات الدولة وضمان فعاليتها واستقلاليتها، حددت الوثيقة كيفية إعادة تأسيها لتضطلع بالمهام المنوطة بها في الدولة الديمقراطية. ومنها السلطة التشريعية (البرلمان) الذي خصته الوثيقة ب 19 مقترحا تفصيليا ، يشمل كيفية انتخابه وفق نظام انتخابي تشاركي، ثم تحديد مهامه الأصيلة وتقعيد الارتباطات المؤسساتية، وتحديد شروط الفعالية والشفافية في مراقبة الحكومة والرقابة عليها، وضمان مصالح المواطنين، ومراقبة سلوك البرلمانيين. أما السلطة القضائية، فقد اقترحت الوثيقة لمعالجتها مقترحات تفصيلية، وفق المبادئ الخمسة: الاستقلالية (06 مقترحات) والاستقامة والنزاهة (08 مقترحات) والنجاعة والفعالية (17 مقترحا) .

9 ـ في الختام: هل يصح اعتبار الوثيقة نموذجا تنمويا؟

مهما يكن من نقص محتمل فيها، فإن ثمة خصائص عديدة تجعل من الوثيقة نموذجا تنمويا بامتياز، وأهمها:

ـ الوثيقة من حيث عنوانها وصدورها عن الدائرة السياسية للجماعة، تمثل نموذجا تنمويا مبنيا على التزام سياسي أمام الفاعلين والنخبة والشعب.

ـ يعكس حفل تقديم الوثيقة جدية المشروع، ومسؤولية تاريخية لقيادة الجماعة (الأمانة العامة للدائرة السياسية)، باعتبارها حاملة المشروع والمسؤولة عن مضامينه، واستعدادها لتحمل مسؤولية الدفاع عنه وتنفيذ مقترحاته على أرض الواقع إذا سمحت الظروف وارتفعت القيود.

ـ تحديد إطار زمني للإصلاح والتنمية في عشر سنوات يعكس إلمام خبراء الجماعة بمناهج إعداد البرامج والمشاريع والنماذج التنموية في أبعادها الوطنية والكونية.

ـ بخلاف بعض الوثائق السابقة، اعتمدت الوثيقة لغة مشتركة ومفاهيم متداولة، ومقترحات قابلة للتنفيذ، غير أنها توقفت مع بعض المفاهيم التي تقتضي توضيحا في المضمون والسياق، وهذا ينبئ بوعي ثقافي ومعرفي وحس تواصلي رفيع في صياغة المشاريع التنموية.

ـ تعرض الوثيقة مسارات الانعتاق وكيفية الوصول إلى الأهداف التنموية المقترحة، وفق مرجعية جديدة (التنمية المركبة)، ومحددات تنظيمية وقانونية شديدة الوضوح.

ـ تتوزع مضامين الوثيقة على أربعة محاور متراتبة ومتكاملة؛ وهي المنطلقات والأفق، أو بتعبير آخر "المبادئ السيادية" وما فوق السياسة والشأن العام، تمثل الإطار المرجعي الموجِه للمقترح في كل تفاصيله، ثم المحور السياسي باعتباره مدخلا للإصلاح، ثم المحور الاقتصادي والاجتماعي كمخرج للمدخل السياسي، وأخيرا المحور المجتمعي، الذي يحدد طبيعة المجتمع المطلوب المحتضن للنموذج.

ـ تتصدر الوثيقة مقدمة رصينة تعبر عن ماهيتها ومطالبها وجدواها في العاجل والآجل، وتحدد منهجية صياغتها للتوافق مع القارئ والمتتبع.

ـ من حيث المرتكزات التحليلية: مستفيدة من تجربتها وقدرات خبرائها، اعتمدت الجماعة في الوثيقة منهجية الانطلاق من التشخيص الدقيق حسب المتاح من البيانات في كل مجال، معرجة على التطلعات الشعبية والتوقعات المنتظرة وفق حاجيات المجتمع وما يعبر عنه في كل فرصة، ووفق المستجدات والتحولات الوطنية والدولية وما تتطلبه من وعي بالمرحلة، لتختم بعرض المقترحات باعتبارها عناصر مؤسسة لاستشراف مستقبل مغرب 2035.

ـ تؤكد الوثيقة على الظرفية الحرجة التي يمر منها المغرب، وضرورة المبادرة قبل فوات الأوان، وتبذل في ذلك جهدا مقدرا وتعلن تنازلا واضحا -في حدود المتاح- لإخراج المغرب من حالة الركود التنموي التي تعيشها جل طبقاته الاجتماعية.

ـ تتجاوز الوثيقة منهجية تجميع المقترحات القطاعية والبرامج الجزئية، إذ تعرض بشكل مركز وواضح خيارات التحول وأهم الأوراش الاستراتيجية الموجهة لعملية التنمية، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمجتمعية، وتجعل منها ضوءا كاشفا لحلحلة باقي الإشكالات الجزئية والقطاعية.

ـ تركز الوثيقة على الإمكانات المتوفرة والمتاحة والممكنة، وتجعل منها منطلقا لصناعة التنمية المطلوبة.

ـ وعيا منها بجسامة المهمة، تبين الوثيقة كيفية ضمان التمويل المستدام للعملية التنموية، وكيفية تنفيذه عند إطلاق المشروع وخلال مراحل إنجازه، وتوضح مسؤولية كل المتدخلين في ذلك.

ـ من حيث آلية التنزيل، تؤكد الوثيقة على ضرورة الصبر والتدرج، مقابل القطع مع المنهجية الضبطية المعتمدة في النماذج التنموية الرسمية، حيث تأسيس اللجن وإحداث القوانين الاستثنائية خارج المسؤولية الديمقراطية (مسؤولية المؤسسات المنتخبة)، وتعلن ضرورة تحمل الدولة بكل مؤسساتها، وفق الميثاق التأسيسي للتنمية والتغيير، مسؤولية إنجاح النموذج، وذلك حسب الاختصاص. 

اقرأ أيضا: وثيقة "العدل والإحسان" السياسية باعتبارها مشروعا تنمويا وطنيا (1 من2) 
التعليقات (0)

خبر عاجل