تطالع المرء مقالةٌ مسهبة بعنوان «ما هو الخطر الفعلي الذي يتهدد حرّية التعبير داخل الحرم الجامعي؟» ينشرها موقع أمريكي يزعم اعتناق الفلسفة الليبرالية، ويوقعها
فرنسيس فوكوياما دون سواه؛ صاحب النظرية الأشهر حول نهاية التاريخ عقب انهيار جدار برلين، وأحد أبرز أدمغة اليمين الأمريكي المعاصر.
هو أيضاً، كما يقتضي التنويه الضروري، أحد كبار الموقّعين على النصّ الشهير «مشروع القرن الأمريكي الجديد» الذي نُشر سنة 1997 بتوقيع صقور عجائز من أمثال ديك تشيني ودونالد رمسفيلد وبول ولفوفيتز وجيب بوش وريشارد بيرل وريشارد أرميتاج وزلماي خليلزاد؛ وهو النصّ الذي لا يتردّد الكثيرون اليوم في القول إنه كان المسوّدة الأولى التي مهّدت لغزو العراق.
فما الذي يعثر عليه المرء بعد قراءة المقال المطوّل؟ خلاصة أولى تسير هكذا: حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، والتي يتجاهلها فوكوياما تماماً وكأنها ليست قائمة وجرائم الحرب فيها لا تنتقل من توحش همجي إلى آخر، ليست هي سبب الاعتصامات الطلابية.
أمّا الأسباب الأعمق فيردّها إلى فذلكة أخرى حول إشكاليات حرّية التعبير في المجتمع الأمريكي، الذي يعتبره «أكثر المجتمعات حرّية على امتداد تجارب التاريخ الإنساني». وإذْ يدين أصوات اليسار والـ»ووك» الأكاديمية التي تندب تغييب حقوق التعبير داخل الحرم الجامعي، فإنه في الآن ذاته يغمز من قناة نظرائهم الليبراليين ممّن يبالغون في تشخيص الأخطار ويستسهلون استدعاء الشرطة وكسر حصانة الجامعات.
وفي شرح الإشكالية كما يراها، يشير فوكوياما إلى أنّ التعديل الأوّل، الدستوري، يحظر فرض الحدود والقيود على حرّية التعبير من جانب الحكومة، لكنه فعلياً يصون حقّ «المجموعات الفردية» في السيطرة على أشكال التعبير لدى أفرادها؛ وبهذا المعنى فإنّ صحيفة مثل «نيويورك تايمز» أو جامعة مثل برنستون، لها الحقّ كلّ الحقّ في مراقبة ما يُنشر على صفحاتها في مثال الصحافة، أو ما يُدرّس في قاعاتها بالنسبة إلى الجامعات. في المقابل، ليس من حقّ الدولة أن تفرض على صحيفة ما سياسة تحريرية أو تراقبها، أو أن تُلزم جامعة ما بمناهج محددة.
فأيّ ممارسة للحرّيات هذه، إذا كانت تقتصر على تدخّل الدولة وليس المؤسسات أو الجماعات أو الأفراد؟ وما مفهوم «الدولة» أصلاً، وفي هذا المقام الليبرالي أو النيو ــ ليبرالي أو الرأسمالي، أو الأمريكي باختصار؟ وبأيّ معنى يمتلك امرؤ، موظف في وزارة الخارجية الأمريكية، الحقّ في التظاهر أمام مبنى الوزارة، احتجاجاً على السياسة الخارجية الأمريكية إزاء حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، أو أيّ موضوع داخلي اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي؟ وكيف، والحال هذه، تظلّ أمريكا «أكثر المجتمعات حرّية على امتداد تجارب التاريخ الإنساني»؟
في سياق قراءاته حول «الربيع العربي» لم يشأ فوكوياما أن يتباكى على أي نظام آخر أكثر من النظام السوري!
على قارئ مقال فوكوياما التأكد من أنّ كاتب هذه الخلاصات هو نفسه صاحب المقال الشهير الذي نُشر في أيلول (سبتمبر) من العام 1989، واحتوى على تشييع التاريخ إلى مثواه الأخير، على يد «الإنسان الأخير». أهذا هو نفسه صاحب الأطروحة التي قالت ما معناه: التاريخ لعبة كراسٍ موسيقية بين الإيديولوجيات (الأنوار، الرأسمالية، الليبرالية، الشيوعية، الإسلام، القِيَم الآسيوية، ما بعد الحداثة…)؛ وقد انتهى التاريخ، وانتهت اللعبة، لأنّ الموسيقى توقفت تماماً (انتهاء الحرب الباردة) أو لأنّ الموسيقى الوحيدة التي تُعزف الآن هي تلك القائمة على سلّم موسيقي وحيد خطّته الرأسمالية والليبرالية واقتصاد السوق؟
فإذا تأكد القارئ أنّ هذا هو فوكوياما، دون سواه؛ فإنّ مستوى لاحقاً من الحيرة سوف يعصف به، أمام سؤال يقول: فهل هو فوكوياما الذي، في سنة 1999، احتفل باليوبيل العاشر لمقال نهاية التاريخ إياه؛ فنشر البشرى بأنّ مرور عقد كامل لم يشهد أيّ تبديل على الأطروحة، لا في شؤون السياسة الدولية، ولا في الاقتصاد الكوني، ولا في استمرار القِيَم الليبرالية واقتصاد السوق في إحراز الانتصارات؟ لا شيء تغيّر، لا الحروب الإقليمية، ولا الأشباح الإثنية التي استيقظت وتستيقظ من سبات قرون طويلة، ولا انهيار الاقتصادات الآسيوية العتيدة أو انفجار التكنولوجيا الصينية، ولا صعود قوى اليمين المتطرف والفاشي هنا وهناك في أوروبا، ولا حروب الصومال أو مذابح رواندا أو انفجار البلقان أو تعطّل عملية السلام في الشرق الأوسط وصعود النازية الإسرائيلية… لا شيء، حرفياً!
بل إنه، إلى هذا وذاك، فوكوياما نفسه الذي، في كتابه «الهوية: طلب الكرامة وسياسة السخط» 2022، تراجع قليلاً (والبعض لم يتردد في الشماتة به، لأنه انقلب رأساً على عقب!)؛ حين سلّم بأنّ موجة الديمقراطية آخذة في الانحسار على صعيد عالمي: في سنة 1970، كانت هناك 35 ديمقراطية انتخابية؛ وازداد العدد خلال ثلاثة عقود حتى بلغ 120 نظاماً، خاصة خلال سنوات 1989 ــ 1991 مع تفكك المعسكر الاشتراكي؛ ولكن، ومنذ أواسط 2000، انكمش الاتجاه وانحسر، وباتت البلدان «التسلطية» الأوتوريتارية وفق تعبيره، أكثر ثقة وتمكناً. ولقد طمأن العالم إلى أنه لا يرى مفاجأة في عجز «الديمقراطية الليبرالية» عن التجذّر في بلدان مثل أفغانستان والعراق، رغم التدخل العسكري الأمريكي المباشر؛ ورأى باعثاً على الخيبة، في المقابل، أن ترتدّ روسيا إلى التقاليد الأوتوريتارية.
لكنّ فوكوياما هو فوكوياما الذي تنبه، بعد مرور سنوات 10 و33 و35 على أطروحته الإنهائية، إذا جاز التعبير؛ إلى أنّ الناس أساءت فهم مفردة التاريخ، التي عنى بها المفهوم الهيغلي ـ الماركسي للتطوّر والتحديث؛ وأنه لم يقصد بالمفردة الثانية، End، معنى النهاية، بقدر الغاية والهدف! تفصيل ثالث أساء الناس فهمه، ويتنبه إليه فوكوياما بعد تلك السنوات والتواريخ: أنه لم يفترض نهاية النزعة القومية أو الدين، لأنه أصلاً عاب على الفلسفة الليبرالية عجزها عن ملاقاة حاجات البشر الروحية وطموحاتهم إلى الكرامة، وما تفرزه هذه من مظاهر غضب وسخط ونقمة. كذلك أقر، بتواضع العالم/ العرّاف/ الزائف، أنّ أطروحته حول الدولة الليبرالية الحديثة بوصفها «الصيغة السياسية التي تتوّج التاريخ» كانت «خاطئة تماماً»؛ وذلك «لأنّ التاريخ لا يمكن أن ينتهي، ما دامت علوم الطبيعة المعاصرة لم تبلغ نهايتها بعد».
وكيف لا تغيب حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة عن «تفكيك» فوكوياما للاعتصامات على امتداد الجامعات الأمريكية، إذا كان منذ العام 2012، في سياق قراءاته حول «الربيع العربي» لم يشأ أن يتباكى على أي نظام آخر أكثر من… النظام السوري! «الدولة هي الجهة التي تحتكر العنف المشروع» بدأ بالافتراض، ثم انتقل إلى الاستخلاص: «لكنّ سوريا سوف تواجه مشكلة كبيرة إذا سقط الأسد، لأنّ الدولة سوف تتفكك» وبالتالي سوف تنهار «ركيزة» بناء الديمقراطية! تعساً للسوريين إذن، طبقاً لمخطط فوكوياما، لأنهم لن يفلحوا أبداً في تحقيق مطالبهم المشروعة: لا ديمقراطية من دون دولة قوية ومكينة (يمثّلها نظام بشار الأسد، الذي يتولى امتياز الدولة) ولا سبيل إلى ديمقراطية حقة إلا بإسقاط هذا النظام؛ فما العمل، إزاء وضع كافكاوي عالق، مغلَق وممتنع؟ الأحرى القول إنه وضع فوكويامي، قبل أن يكون كافكاوياً، يحيل إلى سلسلة الأطروحات السالفة التي ظلت تقود الرجل من تناقض إلى آخر.
وليس حجب حقّ التعبير، بوصفه امتيازاً للجامعات الأمريكية يسوّغ استدعاء الشرطة وتفكيك المخيمات واعتقال الطلاب والأساتذة؛ سوى أحدث الأفانين الفوكويامية، في مسلسل مستدام طويل الحلقات.