في أوج المعارك الدائرة بغزة، ثمة معارك أخرى داخل دولة
الاحتلال، ليست بين نتنياهو ومعارضيه تعمق
الأزمة التي يعيشها، بل
صراع داخلي يضرب الفكرة الدينية التي قامت على أساسها "إسرائيل".
ويرفض اليهود الأرثوذكس "
الحريديم" الذين يشكلون 13بالمئة من نسبة الإسرائيليين،
التجنيد، كونهم يرون أن حياة المتدين تتعارض بالكامل مع الأعراف العسكرية.
ويرى حاخامات الحريديم الكبار، أن الجيش مؤسسة علمانية بعيدة عن التعاليم اليهودية التوراتية، ولذلك من المحرم عليهم الخدمة فيه.
أساس الأزمة
ومنذ قيام النكبة عام 1948، واجهت الدولة قضية انخراط اليهود المتدينين بالجيش، حيث خصهم أول رئيس وزراء ديفيد بن غوريون بمعاملة خاصة، وعزا ذلك بأنهم يضمنون استمرار دراسة تعاليم الديانة اليهودية، وللحفاظ على نمط الحياة اليهودية التقليدية، ولممارسة طقوسهم وعباداتهم في مجتمعاتهم الخاصة، وفقا لتشريعات التوراة.
وفي عام 2018 أبطلت المحكمة العليا قانون إعفائهم من الخدمة العسكرية، عملا بمبدأ المساواة، ولم تفلح مساعي البرلمان في التوصل إلى قواعد جديدة، وينتهي سريان أمر أصدرته الحكومة بتعليق التجنيد الإلزامي للمتشددين الشهر المقبل.
وفشل ساسة الاحتلال منذ ذلك الوقت في صياغة قانون في الكنيست، يلزمهم بالخدمة العسكرية، واستمر في تمديد القانون القديم لإعفائهم لحين الوصول إلى توافق.
وأمهلت المحكمة العليا، الحكومة لغاية نهاية آذار/ مارس المقبل، لتقديم مشروع قانون وإبلاغ المحكمة، وإلا فإن فرض التجنيد عليهم سيفرض بالقوة.
وطلب نتنياهو من المحكمة العليا الخميس تمديد المهلة المتاحة للحكومة لوضع خطة جديدة للتجنيد الإلزامي، من شأنها معالجة الغضب السائد إزاء الإعفاءات الممنوحة لليهود المتدينين، الذين يعرفون بالحريديم.
إظهار أخبار متعلقة
رفض التجنيد
يعارض الحريديم التجنيد الإجباري، ويطالبون بالحق في الدراسة بالمعاهد اللاهوتية، بدلا من الخدمة بالزي العسكري خلال السنوات الثلاث.
ويعد كبار الحريديم أن مهمتهم تقتصر على دراسة التوراة، تلك الحجة التي يمتنع بها الشبان عن الخدمة العسكرية.
ويعد الحريديم آلية العمل في الجيش معارضة لتعاليمهم الدينية، من ناحية الاختلاط والتزام "السبت" المخصص لزيارة الكنيس وقراءة التوراة.
التهديد بالهجرة
في التاسع من الشهر الجاري، تسببت تصريحات لكبير حاخامات السفارديم بخصوص رفض التجنيد العسكري في جيش الاحتلال، بعاصفة من ردود الأفعال الغاضبة.
وقال الحاخام الأكبر لليهود السفارديم "اليهود الشرقيون" يتسحاق يوسف؛ إنه في حال أُجبر المتدينون على الخدمة العسكرية، فإنهم سيسافرون جميعا إلى الخارج.
ونقلت القناة 12 العبرية عن يوسف قوله: "إذا أجبرونا على الالتحاق بالجيش، فسنسافر جميعا إلى خارج البلاد، نشتري التذاكر ونذهب".
وأضاف مستنكرا: "لا يوجد شيء من هذا القبيل، إن العلمانيين يضعون الدولة على المحك، ويجب أن يفهموا هذا، كل العلمانيين الذين لا يفهمون هذا الأمر".
يوجد في دولة الاحتلال حاخامان رئيسيان، أحدهما يمثل السفارديم "الشرقيين" والآخر يمثل طائفة الأشكناز "الغربيين"، ويطلق عليهما الحاخامان الأكبران، ويتولى كل منهما منصبه لـ10 سنوات.
ووصف غانتس حينها تصريحات يوسف بأنها "تمثل ضررا أخلاقيا على الدولة والمجتمع الإسرائيلي".
كما اتهم رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان الحاخام يتسحاق، بتعريض أمن إسرائيل للخطر.
صراع أطراف مأزومة
يقول الكاتب "الإسرائيلي" أنشيل فيفر في مقال نشرته "هآرتس"؛ "إن هناك صراعا حقيقيا يجري داخل اليهود المتشددين على مستوى السلطات المحلية، حيث يشي نَهَم أحزابهم للظفر بكل مقعد انتخابي بتضعضع نفوذ الحاخامات، وبتمرد شباب الحريديم على قيادتهم".
وأضاف فيفر، "أن الحرب في غزة لا يبدو أنها تعني الحريديم، لكن هذه المجموعة السكانية سعيدة بالتعبئة من أجل انتخابات محلية، وتجد في نفسها، ومن دون كل الشرائح السكانية، الحماسة الكافية للتنافس على منصب عمدة أو عضوية مجلس بلدي".
وأردف فيفر، "أن الأمر لم يعد يقتصر على الصراع التقليدي بين مكونات اليهود المتدينين "الليثوانيين والسفارديم"، بل تعداه إلى انشقاقات داخل المكون الواحد.
وتابع، "أنه بعد 10 سنوات على وفاة الحاخام عوفاديا يوسف، لم يعد يوجد سلطة واحدة داخل مجتمع الحريديم، وإن سيطرة الحاخامات على مئات الآلاف من شباب هذه المجموعة آخذة في التضعضع".
وختم الكاتب، "بأن آثار الحرب الدامية بينهم محليا تتغلغل إلى مستويات أعلى، وتشي بما سيحدث مستقبلا عندما لا يستطيعون الاختباء وراء نتنياهو، لا سيما أن مجتمع الحريديم بالعيش في عالم مواز خال من الحرب والقتلى والجرحى، ومن أشهر الخدمات العسكرية الطويلة".
الحاجة للجنود
كما تسببت معركة طوفان الأقصى بزلزال سياسي في دولة الاحتلال، فإن ما تلاها حاضرا ولاحقا، حطم مفهوم الأمن للاحتلال، كما هشم صورة الجيش الذي لا يقهر.
وباتت أخبار خسائر الاحتلال المتتالية وانسحابات ألوية النخبة من غزة، أمرا مألوفا في الحرب المستمرة منذ ستة أشهر، لذا بدا قادة الاحتلال العسكريون محاولات تعويض النقص بالمجندين الجدد.
يقول موقع "والا" العسكري العبري؛ إن قادة الجيش أبلغوا وزير الحرب يوآف غالانت، أنهم بحاجة إلى تجنيد حوالي 20 ألف جندي إضافي، كي يتمكن الجيش من القيام بالمهام الروتينية والعمليات الحربية في ميادين مختلفة".
ونقل الموقع عن كبار قادة الجيش تأكيدهم ضرورة هذا التجنيد الإضافي، في ضوء التهديدات المتزايدة وتقديرات الاستخبارات بشأن الجبهة الشمالية مع لبنان.
وأشار الموقع إلى الحاجة لتغيير أنماط تجنيد اليهود المتدينين (الحريديم)، من حيث تعديل قواعد التدريب، ومراعاة قواعد الأكل الحلال، والفصل بين النساء والرجال في الوحدات العسكرية.
ويطالب وزراء بينهم عضو مجلس الحرب بيني غانتس ووزير الدفاع يوآف غالانت وزعيم المعارضة يائير لبيد، بوضع حد لإعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية.
وقال الوزير في حكومة الحرب، بيني غانتس، الأسبوع الماضي؛ إن الأمر المؤقت الصادر عن المحكمة بتجميد الدعم لطلاب المدارس الدينية، سببه حاجة البلاد للجنود في أوقات الحرب الصعبة.
وأضاف: "القضية ليست محكمة العدل العليا أو المدعية العامة التي تقوم بعملها بإخلاص، ولكن حاجتنا للجنود في أوقات الحرب الصعبة، وحاجة مجتمعنا لمشاركة الجميع في الواجب في خدمة الدولة".
وقضت المحكمة العليا، بتجميد الدعم لطلاب المدارس الدينية الذين يجب عليهم الالتحاق بالتجنيد، اعتبارا من 1 نيسان/أبريل.
إظهار أخبار متعلقة
الأزمة تتوسع
لم يستطيع نتنياهو وقف كرة اللهب من التدحرج خصوصا داخل الحكومة، فهو بين كماشتين؛ إما الموافقة على تجنيدهم وهذا سيثير جنون الأحزاب الدينية، أو المضي بالإعفاء ما يفجر أزمة بين حلفائه وصولا لقادة الجيش.
ووصل الأمر إلى حد أن طالبت المستشارة القضائية لحكومة الاحتلال غالي بهراف ميارا، بالبدء بتجنيد الحريديم.
وكشفت صحيفة هآرتس العبرية عن فحوى رسالة بعثتها ميارا إلى المحكمة العليا، تؤكد ضرورة البدء بتجنيد المتدينين الحريديم من بداية الشهر المقبل.
وذكرت ميارا في الرسالة، "بأنه يتعين على سلطات التجنيد التصرف فيما يتعلق بإجراءات التجنيد، لمن تم تأجيل الخدمة المقدمة لهم بموجب القانون، أو من بلغ سن التجنيد من الحريديم مع ترك طريقة التنفيذ لاحقا".
وأكدت ميارا أن الحكومة لن تتمكن من تحويل أموال الموازنة لمراكز ومدارس المتدينين، لمن لا ترسل طلب التجنيد ومن هم غير المتجندين.
وسبق أن مكتب النائب العام كان قد عارض محاولة حكومة نتنياهو تمديد الموعد النهائي لمشروع قانون تجنيد اليهود المتزمتين الحريديم.
وكان ديوان المظالم قد طالب بتمديد تقديم الطلب حتى ظهر اليوم الخميس، وهو ما اعتبرته الصحيفة صفعة من المستشارة القضائية لرئيس الحكومة.
تفكك الائتلاف
نقلت هيئة البث العبرية عن قادة الأحزاب الحريدية قولهم خلال لقاء مع نتنياهو؛ إن المطالب بوضع حد لإعفاء المتدينين من الخدمة العسكرية تتعارض مع اتفاق تشكيل الائتلاف.
وأضاف قادة الحريديم أن هناك خشية من أن يطلب منهم الحاخامات الانسحاب من الحكومة في حال تم إقرار قانون جديد يلغي الإعفاء.
في المقابل، كشف عضو حكومة الحرب، بيني غانتس، عن تفاصيل مفاوضاته مع الحريديم، التي فشلت بإقناعهم بالانضمام للجيش.
وقال غانتس وفقا لصحيفة "معاريف" العبرية: "حاولنا أن نوضح أنه بعد 7 أكتوبر، يجب على المجتمع الحريدي أيضا أن يفهم أن شيئا ما قد تغير، وأن لدينا فرصة للتصحيح التاريخي، وهو ما سيعززنا أيضا الآن في الحرب".
وأضاف: "لسوء الحظ، لم نتمكن من التوصل إلى اتفاقات بيننا وسد الفجوات، وما زلت آمل ألا يكون الأوان قد فات".
تفكك مجتمع
وتتعدى أزمة تجنيد "الحريديم" فحواها العسكرية والسياسية، إلى صدع يوضح هشاشة دولة الاحتلال مجتمعيا، وهذا ما يكشفه مقال للكاتب "الإسرائيلي" نيهيميا شتراسلر في صحيفة "هآرتس" العبرية.
يقول شتراسلر؛ "إن على الإسرائيليين العلمانيين أن يدركوا أن الأرثوذكس المتطرفين، لا يحترمونهم، ويعلمون أطفالهم أن يحتقروهم، فهم لا يعترفون بالدولة، ومعادون للصهيونية، وبالنسبة لهم، نحن ببساطة احتياط مالي يجب سرقته".
وأضاف، "أن الحريديم ينظرون إلى الحكومة العلمانية على أنها حكومة أجنبية، يجب استغلالها وخداعها والكذب عليها وابتزاز أكبر قدر ممكن من المال منها. إنهم لا يرون الدولة على أنها بداية الخلاص، بل على أنها استمرار مباشر للنفي التوراتي".
وتابع شتراسلر، "أن الحكومة لدى الحريديم هي مثل مالك الأرض غير اليهودي الذي كان يعمل معه اليهود في أوروبا الشرقية، وكان عليهم التعايش معه، ولهذا السبب ليست لديهم مشكلة في عدم الوفاء بأي واجب مدني: تدريس المناهج الأساسية، والعمل، والخدمة في الجيش".
وأردف: "يمكننا التعرف على الموقف الحريدي تجاه الجنود الإسرائيليين من تصريحات اثنين من القادة البارزين في التيار الأرثوذكسي، أحدهم الحاخام دوف لانداو، الذي ينصح طلاب المدارس الدينية بعدم حضور الجنازات العسكرية، أو حتى القيام بزيارات المستشفى للجنود الجرحى. ويقول: دعهم يموتون في سلام، ماذا يهم؟ والآخر هو الحاخام يسرائيل بونيم شرايبر، الذي يقول؛ إن جنود الجيش الإسرائيلي هم مثل رجال القمامة، ولا يهمنا من قُتلوا، ليس لديهم أي صلة بنا، فهم ليسوا إخواننا".
وخلص الكاتب: "لقد حان الوقت لأن ندرك أن السبب الحقيقي لتهرب الحريديم هو الرغبة الصريحة والمباشرة في حماية حياة أبنائهم، فحتى المشرعون الحريديم يتم انتخابهم وفقا لالتزامهم بتعاليم المذهب".
إظهار أخبار متعلقة
من هم الحريديم
الحريدي، هو الشخص "الورع" وفقا للتعريف اليهودي، وتأتي من العزلة والاعتكاف عن الناس، خاصة وأن هذه الطائفة من اليهود، يلتزمون بدراسة التوراة في المعاهد الدينية الخاصة بهم، بعيدا عن المدارس والنظام الاجتماعي لدى الاحتلال.
ويعد الحريديم من الطوائف المتشددة في مجتمع الاحتلال، وتهتم في أدق التفاصيل الدينية التوراتية، فضلا عن الأزياء الموحدة للرجال، وكذلك للنساء.
ويغلب على زيهم المعطف الأسود الطويل، والقبعة السوداء الأوروبية الكبيرة، والشال الأبيض ذو الخطوط الزرقاء "التاليت" لأداء الصلوات التوراتية، وعلى صعيد الجسد، يمتازون بتربية خصلات شعر من رأسهم بجانب آذانهم وتشكيلها بطريقة ملتوية.
ويرى الحريديم أن اللغة العبرية مقدسة، لدرجة أنهم يقللون التحدث بها، ويلجةون للغة تدعى الإيدش، التي كانت سائدة بين يهود أوروبا، وهي خليط من عدة كلمات لدول أوروبية فضلا عن العبرية.
ويعتكف اليهود الحريديم، وهم من أتباع الشريعة الأرثوذكسية، ويشكلون نحو 13 بالمئة، من مجمل الإسرائيليين، في مدارس دينية تدعى بالعبرية "اليشيفات"، وتخصص للعلوم الدينية والشريعة اليهودية فقط، والقليل من العلوم الدنيوية، بما يحتاجونه فقط، سواء لتنمية نشاطهم الاقتصادي أو الطب، وهناك علوم محرمة عليهم مثل الأدب والفلسفة.
وتصل درجة التزامهم بالتعاليم اليهودية، إلى تضييق استخدام التكنولوجيا، ويشترطون أن تكون الهواتف المحمولة "كوشر" (حلال)، بحيث لا تحتوي على كاميرا أو محركات تصفح، وتستخدم فقط لمراجعة الكتب الدينية التوراتية، أو للاتصال المسموع، بعيدا عن برامج المحادثة حتى لا تلهيهم عن التعليم الديني.
وتعد مدينة بني براك، القريبة من تل أبيب، بؤرة للحريديم، وأغلبية سكانها منهم، فضلا عن استيلائهم على مناطق واسعة في القدس المحتلة، ومنها حارة ميئه شعاريم.
والحريديم ليسوا جسما واحدا، فهم مكونون من أصول مختلفة، شرقيين وغربيين، ولديهم تيارات وأحزاب مختلفة، وأبرزها الأشكناز "اليهود الغربيون"، ويمثلهم كتلة يهودات هتوراه. والسفارديم "اليهود الشرقيون"، ويمثلهم حزب شاس المتطرف.