ربما الأمر العلمائي لم يعد يتعلق بإعادة تعريف مفهوم
العالِم أو الفقيه المجتهد أو مصادر تكوينه، ولكن الأمر انتقل إلى قضية أكبر ألا
وهي حال العالِم والعلم الشرعي والفقيه في الدولة القومية، فقد صارت الأمور على
أرض الواقع تتحرك في إطار تنازع المساحات التي كان فيها نشاط الفقيه، سواء أكانت
مساحات تقليدية تتعلق بتكوينه العلمي أو مساحات تتعلق بمكانته لدى الناس والجماهير
فيما يتعلق بمساحة الفعل والأحداث التاريخية.
هنا برزت الدولة القومية بنشأتها المشوهة التي ولدت وفي
بطنها المركزية والاستبداد فرأت تهميش ومحاصرة هذا الدور الذي يتعلق بالعالم
والفقيه؛ وقد قررت ضمن خياراتها أن يتآكل أو يحجم هذا الدور بشكل من الأشكال،
وشكلت مجال الإفتاء على نحو يتوافق مع تصوراتها تلك؛ فطرأ تحول كبير على دور
العالم والفقيه في المؤسسة الإفتائية بعد أن كان لها دور لا يستهان به كمؤسسة أمة
في الخبرة الإسلامية.
انحشر الفقيه والعالم في الزاوية يمارس
الفقه المتعلق
بالشخصي والخاص، وظل دوره في السياسي والحضاري دورا مشبوها ومشوها، فهو إما مستبعد
منه أو يقوم بدور المبرر والمحلل فيه. هذا الدور جعل الفقيه أكثر انحشارا في
الزاوية وبدا المجال العام والمجال السياسي تدخله فئات كثيرة تزاحمت عليه، وبرزت
صنوف أخرى زاحمت الفقيه تبعده بأكتافها حتى انزوى في خلفية المشهد، يجلس للفتوى في
قضايا بعينها؛ قانعا بهذا الدور الهامشي.
ظل الفقيه يقوم بدور محدود للغاية لم يكن فيه أحسن حالا من الأشخاص العاديين في المجتمع، فوقف مشدوها أمام تغيرات كبرى ومفصلية في حركة الواقع ونظم الاتصال وثورات التقنية، وأحدث ذلك إشكالات غاية في الخطورة على طبيعة دور الفقيه وعلى مساراته في هذا السياق. وظل الفقيه يمارس هذا الدور الهامشي؛ رغم مرور الأمة بأيام فارقة وأحداث كاشفة
وبرز أيضا الفقيه الذي احتمى برؤية فقهية يتحدث فيها
مؤثرا السلامة عما تحت الأرض وعما فوق الأرض أي في السماء، ولم يتحدث عن الخلق ممن
هم على الأرض، ذلك أن السلطان المستبد وجد أن هؤلاء إنما يمثلون بضاعته يحتكر
شأنهم وشأن التعامل معهم بلا مشاركة من آخرين إلا أن يوزع عليهم السكوت والكلام
والأفعال، وبدا هؤلاء يتحدثون في أمور لا تتعلق بواقع الناس ومعاشهم، وتصدر عنهم
فتاوى مستهلكة أتوا بها من بطون الكتب؛ انشغل بها القاصي والداني من دون أن تكون
معالجة لقضايا الحياة وتحدياتها، وفقه الحياة ومقتضياته
ودين لواقع يجب أن ينهض به وينهض بمن ينتمون إليه.
في هذا المقام ظل الفقيه يقوم بدور محدود للغاية لم يكن
فيه أحسن حالا من الأشخاص العاديين في المجتمع، فوقف مشدوها أمام تغيرات كبرى
ومفصلية في حركة الواقع ونظم الاتصال وثورات التقنية، وأحدث ذلك إشكالات غاية في
الخطورة على طبيعة دور الفقيه وعلى مساراته في هذا السياق. وظل الفقيه يمارس هذا
الدور الهامشي؛ رغم مرور الأمة بأيام فارقة وأحداث كاشفة؛ وأطلت على الجميع فتاوى الأمة تفرض على الجميع الاهتمام بها، ذلك أن الأمة تفزع إلى علمائها
تلتمس لديهم جوابا كافيا شافيا، جامعا للأمة، مانعا من فرقتها.
إن هذه الأمة تحتاج إلى عقل استراتيجي مادته أهل الفكر
وأهل العلم وأهل الاجتهاد؛ وكذلك الخبراء من المتخصصين يجمع بينهم ناظم الإرادة ومقام
الإدارة. وفي هذا المقام يحسن أن نعود إلى هذا لتشييد رؤية قادرة على التفكير والتدبير
والتغيير والتأثير؛ وحتى يمكنها تحقيق ذلك فعليها أن تتعرف على حجم الإشكالات وتبصر
كافة التحديات وكذلك عليها أن تتعرف على مساحة المتطلبات وقدرات الاستجابات، إلا أن
الحاضنة المهمة التي تشكل سندا لهذا العقل الاستراتيجي إنما تتعلق بالتيار الرئيس للأمة؛
الذي يحسن إدارة الصراع والقدرة التدافعية وإدارة الأزمات وإدارة الفرص؛ مما يؤسس المعنى
الذي يتعلق بساحات الحركة وإمكانات التغيير وأصول الفاعلية؛ خاصة مع ما يحيط بهذه الأمة
من مخاطر وما يتولد من جوفها من فرص.
يتشكل هذا العقل الاستراتيجي من طاقات علمائية متنوعة؛ في كيان شبكي فاعل
يسير على هدي بصيرة استراتيجية تضع أولويات أزمات الحاضر وترسم الأهداف الصلبة للمستقبل
القريب والبعيد؛ يقوم هذا الكيان بدوره من خلال تفعيل رؤى البصيرة الاستراتيجية وتحويلها
لخطط استراتيجية قبل الدفع بها إلى دوائر التدبير والحركة، ويقوم فيه
العلماء
بدورهم الريادي كطليعة في عمليات التغيير؛ من خلال مجمع اجتهادي لا يقتصر على
المكون الفقهي والشرعي.
وفي سياق تأكيدنا على أهمية هذا العقل الاستراتيجي نذكر أن
جوهر وظيفة العالم السياسية هي وظيفة كفاحية لا تعرف الالتواء أو التحريف، ولا يجوز
التخلي عنها لأي سبب كان، ذلك أن هذه الوظيفة ترتبط بأهم وظائف العلماء في وراثة النبوة
(البلاغ والتبيين)، ومن ثم كان كتمان العلم خطيئة وتحريفه إثما، والهجوم عليه بلا مكنة
معصية، واستخدامه في غير موضعه إنما يعد فسادا كبيرا. إن كفاحية العالم في الرؤية الإسلامية
تتمثل في مهمة العالم العامل وواجبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل
مسلم، متحليا بالصبر وجريئا في الصدع بالحق، منجزا مسؤوليته الكبرى من أجل إقامة حكم
الله شرعة ومنهاجا في الأرض.
إن من أهم الشروط الأساسية لقيام العالم بوظيفته استشعار
المسؤولية في الفتوى، وكراهة التجرؤ عليها دون مكنة أو الإفاضة في الفتاوى الفردية
أو السكوت عن فتاوى الأمة والفتاوى ذات الطبيعة السياسية والذي يعد من كتمان العلم،
خاصة أن فتاوى الأمة يتصدّر لها من غير سائل عنها على خلاف الفتاوى الفردية.
فإذا كانت تلك هي خطورة دور المفتي وأهمية الفتوى بطبيعتها،
فإن الجرأة على الفتوى من العلماء أمر جد خطير يُخرج العالم عن حد العلم. وكذا كراهة
الدخول على السلطان والدنو منه، حيث يعد ذلك أهم الشروط للقيام بـ"وظيفة العالم
الكفاحية السياسية"، حتى لا يكون هناك مجال من الناحية الشرعية لهؤلاء الذين يزينون
لصاحب السلطة سوء عمله، ويأتون بالمبررات لفساد رأيه بلا أدنى تحرج أو مراقبة لحق الله
وحقيقة شرعه، ممن سُمّوا بفقهاء السلطان.
فليس من وظيفة العالم المدح والتبرير للسلطة، بل وظيفته الأساسية
مراقبة شرع الله وتحقيقه، وهذا من الشهادة لله والحفاظ على شرعه. وهو في سبيل ذلك يتجنب
كل ما يفتنه أو يصرفه عن جوهر وظيفته الكفاحية سواء حيال السلطة برقابتها، أو بتأكيد
وعي الرعية بتعليمها وإفتائها شرعا، بما يحقق نوعا من التطابق بين سلوكهم وجوهر المثالية
الإسلامية. فطاعة الشرع هي محصلة الشرطين السابقين، وهي أهم الشروط التي تحدد حركة
العالم ووظيفته الإيمانية.
في ضوء هذه المعاني المهمة كلها تأتي فكرة المقاومة
الحضارية والتي تترافق مع مفهوم علماء الأمة الذين يمثلون الأمة والتزام شرعتها؛ فعين
علماء الأمة على الشرع ومراقبة الشرعية؛ وعين أخرى على عموم الناس في الأمة
والحفاظ على ضرورات حياتهم. وتقترن بذلك عملية تأسيس راسخة تتمثل في ضرورات تأسيس
مؤسسة علمائية تضمن استمرارية الدور وضمان تأثيره وفاعليته، وتشكل حماية من شطط
الاجتهاد الفردي وتؤسس مهمتها ضمن حالة اجتهادية وشورية واسعة؛ ترى كل ذلك ضمن
مفهوم أهل الذكر الجامع لأصول الفقه الحضاري الناظم بين أهل الاجتهاد وأهل التخصص
والخبرة. والجامع بين المستويات الثلاثة في العملية الاجتهادية فقه الأحكام، وفقه
الواقع، وفقه التنزيل؛ ليشكل بذلك رؤية ممتدة بحيث تتواصل وتتصل هذه المستويات
الثلاثة، وتتداخل وتتكافل فيها الأدوار والوظائف؛ لا تُختزل بأي حال في فقه الأحكام
والنصوص والأدلة، ولكنها تمتد لفقهي الواقع والتنزيل؛ وتجعل من الفتاوى الحضارية
والاستراتيجية المتعلقة بالأمة ميدانا وإعمالا لهذه الرؤية الكلية والمتكاملة.
ومن أهم ما كشفت عنه معركة الطوفان أنها أشّرت وبشكل
واضح لا لبس فيه إلى أن المقاومة تعد خيارا استراتيجيا ليس فقط لها ولكن للأمة
بأسرها، والتمييز بين مسارين حيال مقاومة الأمة؛ علماء الطوفان ومسار آخر
يمثله علماء السلطان ولكل مواصفات ومواقف.
من أهم ما كشفت عنه معركة الطوفان أنها أشّرت وبشكل واضح لا لبس فيه إلى أن المقاومة تعد خيارا استراتيجيا ليس فقط لها ولكن للأمة بأسرها، والتمييز بين مسارين حيال مقاومة الأمة؛ علماء الطوفان ومسار آخر يمثله علماء السلطان ولكل مواصفات ومواقف
إن علماء الطوفان يطوفون بنا في
خبرة المسلمين في ذاكرتها التاريخية والحضارية، ويكشفون عن دور العلماء في
المقاومة الحضارية للأمة، وجوهر وظيفتهم الكفاحية. العالم الحق اجتهاد وجهاد؛ ينظر
للفتوى فيما يخص الأمة وتحدياتها الحاضرة لا باعتبارها فتاوى استراتيجية وحضارية
فحسب بل هي جهاد بالفتوى؛ يمكّن للمقاومة فيها، بل يعد العلم فيها في طليعة
المقاومة والجهاد؛ مستلهمة أدوار الإمام ابن تيمية الجهادية وأدوار العز بن عبد
السلام "سلطان العلماء".
إنهم العلماء الحق بما يمثلون حاضنة علمية ومعرفية
اجتهادا وجهادا ومقاومة حضارية، وبما تؤكد عليه الحالة العلمائية المجاهدة والمقاومة
من وظيفة كعقل علمائي استراتيجي للأمة؛ يتبنى الثقافة الجهادية وتفعيل أصول الفقه
الحضاري، ضمن حالة مؤسسية مستدامة بتأسيس مجمع اجتهادي وحضاري لا يتكون من الإمكانات
الفقهية وحدها بل يتأسس على قاعدة التقوى الحضارية الشاملة الجامعة؛ من متخصصين
وخبراء وعلماء يحملون الأمة بمنظومة من فتاوى الاستنفار والإنذار، وفتاوى
استراتيجية لتحرير الأمة ونهوضها؛ يواجهون علماء الشيطان والسلطان ويردونهم؛ هؤلاء
المرجفون الذين يصدرون خطاب التخذيل والتضليل؛ ويتجرؤون على الفتوى بفتاوى التطويع
والتمييع والتطبيع ويلحقونها وأسفاه بفتاوى رفض المقاومة وتحقير وتهوين المقاطعة؛ إنها
فتاوى الأمة ومقاومة الأمة حينما تكون بين نجدين؛ علماء الطوفان والإيمان وعلماء
الشيطان والسلطان.
twitter.com/Saif_abdelfatah