الذاكرة السياسية

صور من البطولات النادرة في جهاد الجزائر الثائرة.. شهادات للتاريخ (2)

الكاتب الجزائري أحمد بن نعمان يؤرخ لبطولات الثوار الجزائريين في مواجهة الاستعمار الفرنسي..
الكاتب الجزائري أحمد بن نعمان يؤرخ لبطولات الثوار الجزائريين في مواجهة الاستعمار الفرنسي..
"إذا كان الزمان غير الزمان، فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى  يوم  الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم، تجعل دوام الحال من المحال، ولو دامت  للأولين لما دانت للآخرين! وإن الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف، هو سبب كل الخلل في المعايير والموازين وهذا الدمار المبين.
وفي تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى، دروس للمعتبرين، وإن الذكرى قد تنفع حتى البغاة  والعصاة والطغاة، فضلا عن المؤمنين!!

وبمناسبة إحياء الجزائر للذكرى  التاسعة والستين لثورة القرن العشرين دون منازع في الفاتح  من  تشرين  الثاني (نوفمبر 1954)، وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية  في الساحة والساعة الدولية، عرفنا إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد، نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي، الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا"، لما يزيد عن السبع سنين، مماثلة لما يراه العالم  على  المباشر  يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل، في معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية، والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على المحسنين والمسيئين، والظلمة والمجرمين، وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين، وتلك هي سنة الله في الأولين  والآخرين.

تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة في الوقت ذاته، وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك  الثورة الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها، حتى توقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال. وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات، التي اعترضت مسيرتها الطويلة إلى النصر المبين!

ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962، كان هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830، مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال، كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال؛ إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع  الحال.

وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانا مع ما يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين، وخاصة من جهة  نوعية  الاستيطان  وفصيلة المستوطنين أنفسهم  خلفا عن سلف، والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء  المغرب العربي الكبير  المدفونين  في القدس الشريف على مر التاريخ  الإسلامي للأمة، عندما كانت أمة حرة  حتى  تحت الاحتلال الأجنبي  الخارجي (الأرحم  مع  الأسف  من  الاستحلال الداخلي  الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000  مجاهد سنة 1948، ودخلوا  من أرض الكنانة سابقا  لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة، التي لم تتغير في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة واليد القصيرة، على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا  إلى داكار ونواكشوط  والرباط وتطوان، مرورا بقسنطينة ووهران!؟!

وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو حال غزة وفلسطين هذه الأيام؛ لما بين الثورتين من تطابق  وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الأولى، مقارنة بما نراه على المباشر في  الثورة الفلسطينية  العظيمة  الثانية، التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.

وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات ومعارك التحرير، التي يخوضها الأشقاء  الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون انقطاع)،  في مواجهة  أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال يلتف حوله  قادة  العالم الغربي الاستعماري كله، ويدعمونه انتقاما  من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة.

كنا نعتقد، وإن بعض الظن  ليس إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة، قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة حقوق الإنسان الفلسطيني خارج  حقوق الإنسان، التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم  الواجم.

إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.

وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين، لا يثير القلق  فقط حول مصير البشرية في هذا العالم (وحيد القرن)، وإنما يعيد السؤال أيضا وبإلحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة، تتراجع إلى ما تحت الصفر كما نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة والإنسانية، التي تحتضر في مستشفياتها المنكوبة كلها  اليوم  والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق الإنسان (الحجري)، وليس الإنسان  البشري  المتحضر المتعلم  والمتقدم"!!

وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة  الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء  في الجزائر الثانية (فلسطين  الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ والاتعاظ به وأخذ العبرة منه.

نماذج بطولية نادرة

عن الأعمال البطولية النادرة التي كان يقوم بها بعض المجندين الجزائريين في صفوف العدو، يقول المجاهد مختار زعبار: "لم نكن لنستطيع الدخول إلى ثكنة عسكرية بها قرابة المائة جندي، لولا مساعدون متسللون إليها، تجندوا على أنهم خونة، لكي يمكنونا من اقتحامها في الوقت المناسب، وقد تمت العملية بنجاح، رغم الصعوبات التي واجهت مُنفذيها، حيث زرع المسؤول العسكري جنودا في ثكنة الكورس ببريكة التي كان بها الخونة، وفعلا ذهبوا إلى عين توتة، مكثوا حوالي الـ7 أشهر، أرسلوا فيها  الرصاص، والمعلومات، واللباس، وغيرها من الخدمات التي  نفعت الثوّار، ونبهتهم إلى عمليات التمشيط  المفاجئة التي كانت تقوم بها فرنسا، وفي الثكنة كانت الحراسة تتم بالمناوبة، وفي مرّة من المرّات كان دور الثلاثة المُسرّبين من طرف جيش التحرير لكي يضمنوا الحراسة طيلة الليلة، فأرسلوا عجوزا إلى أحد المسؤولين ليُعلموه بأنّ الثكنة ستكون تحت حراستهم في الليل، وأنّ بإمكانهم أن يسهلوا لهم طريق اقتحامها، وأن يقدموا حوالي الساعة الحادية عشرة ليلا وينتظروا الإشارة ليدخلوا.

وهذا ما حدث بالفعل حيث جاء المسؤول، ونادى على 35 جنديا أن يتهيؤوا لعملية (لم يعلمهم بطبيعتها حفاظا على السرية)، ثم قال لهم؛ إن الوجهة ستكون بريكة، وعلى الساعة منتصف الليل إلا عشرين دقيقة جاءت الإشارة، في الوقت الذي كان فيها جنودنا رابضين غير بعيد عن الثكنة، ويتقدمهم العريف عبدي، هذا الأخير، أذكر أنه كان في الجيش الفرنسي قبل أن يلتحق بالثورة، وكان مخلصا إلى أقصى درجة، وعندما دخلوا تطوّع ليدخل على الملازم الفرنسي المسؤول عن الثكنة، وحرص على أن يكون الفرنسيون الثلاثة الموجودون في الثكنة تحت قبضتهم، على أن يتم النظر فيما بعد في أمر الـ 75 حركيا، وهو ما حدث إذ دخل بنفسه إلى غرفة الملازم، أيقظه، فأجابه أن الوقت لا يزال مبكرا، قال له العريف عبدي؛ إنّه يتحدث مع جيش التحرير، حاول الملازم أن يتذرع بأنه مجند ولا علاقة له بهذه الحرب، ثم وضع يده على الوسادة، غير أنّ العريف عبدي كان يعلم أنه يبحث عن سلاحه فسبقه إليها، وقال له؛ إنّ فرنسا هي التي كونته، ويعلم مثل هذه الحيل. فقتل في هذه العملية 75 حركيا، ولم يبق منهم ولا واحد حيا، كما صفّى الفرنسيون الثلاثة" .

ـ وعن بطولات بعض هؤلاء الجزائريين في الجيش الفرنسي، يقول الضابط رزقي بوهراوة (الذي كان مسؤولا سياسيا وعسكريا) في مذكراته: "فاتّصلتْ بي العجوز في الحين، بعد أن فهمت من كلام المجند (وكان لقبه فيما أذكر حمدي)، بأنه يريد أن يحدثها عنا بغرض التعاون معنا وكانت متوجسة، فقلتُ لها: لا تخافي منه، إنّه صادق، سنقيم معه العلاقة، وعندما تم لنا ذلك معه بكل سرية وحيطة، بدأ يشتغل معنا بالفعل، وبرهن على وطنيّته الفذة وإخلاصه، بما وفّرَه لنا منْ أسلحة وذخائر، بل إنّه رغبَ في الالتحاق بالجهاد، فرجوتُهُ أنْ يبقى في موقعه، إلى أن تحين ساعة الصفر التي سنخطط لها بدقة.

وهكذا انتظرت حتى اقتربت نهاية عام 1960م، ولما حانت ساعة الصفر، اصطحبتُ معي ثلّة من المجاهدين، في هذا اليوم الخامس والعشرين من شهر كانون الأول/ديسمبر، واتّجهتُ ليْلا شطر المركز، وبقيْنا متربصّين ومختبئين وراء السّياج، منتظرين السّاعة المعلومة، وقد كنّا نسمع أغانيَهم وقهقهاتهم، ولما دقّتْ ساعة منتصف الليْل، تأهّبْنا. وإذا بصاحبنا (المجاهد المنتظر) يتراءى لنا عبْر الأضواء الخافتة، إنّه يقترب منّا بحذر شديد. وصل إليْنا، فحيّانا تحيّة خفيفة، ثمّ أمرَنا بالدّخول إلى المركز، منْ مدخل آمِن كان قد خطط له سلفا. فقادنا مباشرة إلى مخزن الأسلحة. قلتُ لأصحابي: هيّا اصطفّوا، ولا تتباعدوا، سنُخرج الأسلحة قطعة قطعة، كلٌّ واحد يُمدُّها لصاحبه الذي في جنبه، حتّى تصل إلى خارج المركز في الوقت ذاته بالتتابع من البداية إلى النهاية. بعد أنْ أخذنا كل ما يُمكن حمله من السّلاح والذخيرة، خرجْنا من المركز بسلام إلى ميزرانة ومعنا المجاهد الجديد".

لم نكن لنستطيع الدخول إلى ثكنة عسكرية بها قرابة المائة جندي، لولا مساعدون متسللون إليها، تجندوا على أنهم خونة، لكي يمكنونا من اقتحامها في الوقت المناسب، وقد تمت العملية بنجاح، رغم الصعوبات التي واجهت مُنفذيها.
ـ وعن أحد المواقف البطولية التي حدثت له إثر عملية فدائية في العاصمة، يقول المجاهد حميد دالي: "في ليلة رأس سنة 1956 ذهبت مجموعة من الفدائيين للقيام بعملية في "روفيغو"، وعندما هربوا أخطأ سائقهم الطريق، فحاصرتهم قوات العدو بالقرب من ساحة الأمير عبد القادر (الحالية) فخرج لوني ارزقي، فأصيب وقُبض عليه. أمّا أحمد بن نبي، فاتّجه إلى شارع (طنجة)، وذهب إلى بائع الحلويات "الخفافجي" التونسي، الذي أخفى سلاحه، ومسح عنه آثار الدماء.

فجاءني أحمد مباشرة، وقصّ عليّ ما حدث له، فأخذته إلى المخبأ، ثمّ جاءني علي عمارة، وعُمر الصغير، بأمر من ياسف سعدي، يطلب مني أن أستعيد السلاح، وكنت على معرفة ببائع الحلويات فذهبت إليه، وعندما تأكدت من خلو المكان دخلت، وبعد أن جلست قليلا، طلبت منه أن يعطيني السلاح فاستغرب؛ لأنه لم يكن على علم أنني مُجاهد على صغر سني، فالناس لم يكونوا يعلمون أنّ الأطفال والمراهقين كذلك كانوا يُشاركون في الثورة وفي حمل السلاح" .

ويروي الضابط مراد كريمي بطولات نادرة للشعب الجزائري مع الثورة فيقول: "كان الجميع يدعوه بعبد القادر التيارتي، وغالب الظن أنّ ذلك يرجع لكونه قدم المنطقة من نواحي مدينة تيارت، فلصق به هذا اللقب، وأعتقد أن لا أحد فكّر يوما أن يسأل عن لقبه الحقيقي.

وكانت المزرعة التي اتخذ فيها التيارتي منزله، غير بعيدة عن مركز العدو، وهي في وسط طريق يمتد من الدوار ويتوغّل في الغابة، ولهذا كان المنزل محطّة لكل مجاهد نازل من الجبل إلى الدوار، أو صاعد من الدوار إلى الجبل.

وحين قدمت المنطقة، في أيامي الأولى وعرفت عبد القادر التيارتي، ساورني الكثير من الشكوك حوله.
فقررت ضرب مراقبة شديدة عليه لنثبت خيانته، ونريح الثورة من خطره... غير أنه لم تمض إلا أيام قليلة، حتى شاء الله أن أكون على موعد مع مرض، ما عرفت مثل شدته من قبل، فقد خارت كلّ قواي مرّة واحدة، ولم أعد أقدر على القيام بأي حركة.

فتكفل بي طوال الفترة التي ظللت فيها على هذه الحال، اثنان من المجاهدين، وهما محمد خرخار (المعروف وقتها بـ "قفز")، و سي العيد، وفي إحدى الليالي، علمنا أن العدو قادم في عملية تمشيط كبيرة في الجهة التي كنا فيها... فلم يجد مرافقاي بدا من أخذي إلى دوار بوراشد لوضعي في مكان آمن، غير أن هذا المكان الذي وقع عليه اختيارهما، لم يكن سوى بيت سي عبد القادر التيارتي الذي كنت أشك فيه وقد حذرت المجاهدين من الاقتراب منه!!

فطرق الأخوان، وهما يحملانني، باب سي عبد القادر، وقد بلغ الليل ساعاته المتأخرة، فلما فتح لهما ورأى الحالة التي كنت عليها عند الباب، رأيت منه الذي أشعرني بعظمة إثم الظن الذي كنت قد ظننته فيه.

فقد ارتسمت على وجهه في برهة آثار تأثره بمصابي، وراح يشرع الباب على مصراعيه ليمكننا من دخول الدار، ومن ثم راح وزوجته ينكشان بأيديهما في فنائه، مكشفين لنا عن فتحة المخبأ، لمثل ظرفنا هذا.

لقد كان المخبأ غاية في الإتقان، فهو يمتد في ممر إلى داخل البيت، ويفتح على المكان الذي توقد فيه النار (الكانون)، حيث يُطهى الطعام، وبهذا تتمكن الزوجة من تمرير الطعام والماء للمختبئين.

دخلنا المخبأ وأوصدت علينا فتحته قرابة الفجر، وحين طلع النهار، كانت قوات العدو تدك بأقدامها الأرض التي فوقنا، فلهذا كان أول ما أقدم عليه هؤلاء المجرمون، هو استنطاق صاحب البيت وزوجته، مصاحبين استنطاقهم بعمليات تعذيب رهيبة، ومع ذلك لم يبوحا لهم بأي شيء!

وظللنا في المخبأ أربعة أيام وثلاث ليال، لم يصل إلينا فيه نحن الثلاثة خلال هذه الفترة، من الطعام إلا القليل مما مررته لنا تلك المرأة البطلة من الفتحة الموجودة بجانب الكانون، وهي الفتحة التي ظلت مصدرنا الوحيد إلى الهواء"!

ـ يذكر المجاهد رزقي بوهراوة في مذكراته قوله: "لما ألقوا القبض على عمي بلقاسم، بصقَ على وجه النّقيب الفرنسي، استفزازا له ليقتله فنجح في استفزازه بالفعل، حيث بادر في الحين إلى إعدامه دون تردد!! أمّا الأسير الثاني، المجاهد السعيد تادمايت، فقد ربطوه إلى سيّارة عسكريّة صغيرة، وجرّوه عبر الطرقات في مدينة ذراع بن خدة بلا رحمة، إلى أنْ سلّم روحَه لبارئها رحمه الله في الخالدين!".

ـ قدم حَسَن ڤندريش (الأسير الّذي تحوّل إلى عميل القوّات الفرنسيّة) عنوان المنزل الذي كان يوجد فيه سي رامل (عثمان حاجي) مسؤول الأفواج المسلَّحة، وأخوه نور الدّين والشّريف دَبّيح وزاهية حميطوش، فاستقبل المجاهدون الفِرَق المحاصِرة الّتي يقودها العقيد Bigeard بطلقات ناريّة؛ استُشهِد في تبادل إطلاق النّار نور الدّين حاجّيّ وزهيّة حميطوش؛ وعندها طلب سي رامل (تحايُلاً) أن يسلّم للعدو وثائق وأسلحة، ولكن عِوَض ذلك أرسل قنبلة في قفّة حضّرها شريف دَبّيح فقتلت عددا من جنود العدوّ منهم النّقيب Chabanne وجرحت عددا آخر؛ وبعد ذلك، خرج البطل سي رامل إلى الشارع وأخذ يطلق النّار على جنود العدو حتى سقط شهيدا، وكذلك فعل زميله الشريف دبيح.

ـ توجّهت قوّات العدُوّ إلى العنوان الّذي أعطاه الخائن حَسَن ڤندريش؛ وكان يوجد في ذلك العنوان عليّ عمار المدعوّ "عليّ لابوانت" وحسيبة بن بوعليّ (طالبة عمرها 19 سنة) ومحمود بوحميديّ وعُمَر ياسف المدعوّ (عمر الصغير) وعمره 12 سنة. وتجنّبا لتكرار ما وقع مع سي رامل وسي مراد، طلبت القوّات الفرنسيّة من المجاهدين المحاصرين بأحد المنازل بحي القصبة أن يستسلموا؛ وبعد رفضهم فُجَّر المنزل عليهم ليستشهدوا جميعا رحمهم الله في الخالدين!

ـ ويروي الضابط مراد كريمي (مسؤول المنطقة الخامسة بالولاية الرابعة) قصة من البطولات النادرة فيقول: "في ظهيرة ذلك اليوم، جاءنا أحد مناضلي المنطقة وأخبرنا بأن أحد المتعاونين معه في مدينة الأصنام (الشلف حاليا)، أنه يريد لقاء أحد مسؤولي جيش التحرير، ويفضل أن يكون هذا المسؤول "سي مراد"، وأن يكون اللقاء في يوم الغد.

طلبنا من المناضل أن يعود في الحال إلى الرجل، ويعلمه أننا نوافق على لقائه، وأننا ننتظره غدا في المكان كذا، على الساعة كذا.

وفي الوقت المحدد، جاء المناضل المذكور برفقة زوجته ومعهما فتاة، وأعلمنا أنه طلب لقاءنا لأجل أن يلاقينا بهذه الفتاة، التي تريد أن تحدثنا في شيء مهم ففسحنا لها المجال، فانطلقت مباشرة فقالت: "أنا اسمي تماني بطاش وعمري عشرون سنة، أعمل بـ "لابريفكتور" بمدينة الأصنام، وعندي صديقة فرنسية تعمل سكرتيرة للجنرال "بولانجي" قائد القوات الفرنسية لناحية الأصنام، الذي يقع مكتبه بمقر لابريفكتور، وصداقتي بهذه الفرنسية متينة، لدرجة أنها لا تخفي عني أدق أسرارها الشخصية والمهنية، وأنها كثيرا ما تدعوني إلى مكتب الجنرال، وأن هذا الأخير لا يمانع زيارتي لسكرتيرته، بعد أن أطلعته عن حميمية علاقتي بها.

إن علاقتي بصديقتي هذه ليست وليدة اليوم، أما الذي دعاني يلقائكم هذا اليوم ومحادثتكم في موضوع صداقتني، فهو الذي كان منها مساء أول أمس، فقد نادتني إلى مكتبها والفرحة بادية عليها، وأرتني قصاصة برقية مستعجلة "تليغرام"، موضوعة على المكتب، فلما حملقت فيها رأيت عليها أمرا للجنرال بتجميع كل قواته لمحاصرة قوة للمجاهدين كُشف مكان تمركزها بجبال الونشريس.".

وواصلت تماني سرد ما عندها، (ونحن نسمع مشدوهين) فقالت: "تظاهرت بمبادلة صديقتي الفرح بخبر قرب القضاء على هؤلاء "الفلاڤة"، وبقيت عندها بمكتبها أتحين فرصة لتركها له لبعض الوقت، تقضي فيه بعض ما هو من ضمن أشغالها، حتى كان لي ذلك فأسرعت أستنسخ البرقية على جهاز نسخ موجود هناك، وها هي نسخة عن هذا "التليغرام" أمامكم، لتصدقوا كل ما أقوله لكم.".

وأدخلت يدها في حقيبة يدها تخرج منها صورة البرقية، ومدتها إلي... امتلأنا إعجابا بهذه الفتاة الوطنية النادرة المثال، التي يضم اسمها بكل جدارة واستحقاق إلى كل بطلات الجزائر الغاليات.

ودعنا ضيوفنا شاكرين لهم نضالهم،  وانتقلت لفوري إلى مركز الاتصالات، لأعطي أوامر مستعجلة إلى جميع النواحي والأقسام، بضرورة إخلاء أماكن معينة في أسرع وقت، وهو الذي حدث بالفعل، وتمت بذلك والحمد لله نجاة كل مجاهدينا" .

ـ التحقت المجاهدة زهرة أحمد السايح بجيش التّحرير الوطنيّ، برفقة زوجها سي مراد (عبد الرّحمان كريميّ) في بني حوّاء ناحية تنس، وفي أحد الأيام وقع حصار شامل للمنطقة فتفرقّت النّساء هَرَبا من القصف، وبقيت السّيّدة زهرة وحدها في الغابة، فولدت ولم يكتشفها جنود العدوّ، إلا عندما سمعوا بكاء الرّضيعة "نورة". فنَقَلَها الجيش الفرنسيّ إلى مُستَشفَى تنس، حيث عولجت دون أن يكتشفوا حقيقتها؛ وبعد علاجها وشفائها، تنكرت في هيئة ممرضة بالبلوزة اختلستها ولبستها، فاستطاعت أن تغادر المستشفى برفقة ابنتها وتلتحق بجيش التّحرير الوطني من جديد! (وهي ما تزال على قيد الحياة).

اقرأ أيضا: صور من البطولات النادرة في جهاد الجزائر الثائرة.. شهادات للتاريخ (1)
التعليقات (0)