أفكَار

تأملات فكرية وسياسية في مجريات ومسارات حراك "20 فبراير" المغربي

 النظام المغربي تعامل مع هذا الحراك ببراغماتية عالية، حيث أحدث بعض التغييرات في الواجهة من أجل امتصاص الغضب الشعبي، بعد أن ضمن "بطُرقه الخاصة"، عدم اتساع رقعة الاحتجاجات.. الأناضول
النظام المغربي تعامل مع هذا الحراك ببراغماتية عالية، حيث أحدث بعض التغييرات في الواجهة من أجل امتصاص الغضب الشعبي، بعد أن ضمن "بطُرقه الخاصة"، عدم اتساع رقعة الاحتجاجات.. الأناضول
الحلقة الأولى

تحلّ اليوم الذكرى الثالثة عشرة لحراك 20 فبراير التي كانت قد انفجرت في المغرب في سياق الربيع العربي الذي أسقط رؤساء دون أن تُغيّر أنظمة، لأن الفاعلين السياسيين يومها كان نفَسُهم غارقا في الإصلاحية المقيتة، وهو ما كان فيه حتفهم.

وكان النظام المغربي قد تعامل مع هذا الحراك ببراغماتية عالية، حيث أحدث بعض التغييرات في الواجهة من أجل امتصاص الغضب الشعبي، بعد أن ضمن "بطُرقه الخاصة"، عدم اتساع رقعة الاحتجاجات لتبقى محدودة جغرافيا وقطاعيا ومطلبيا. فجمّل الدستور، وفتح الطريق أمام بعض الإسلاميين ليصلوا إلى "قيادة" الحكومة، ووزّع السوريين ـ بعد ذلك ـ بالتساوي على كل المدن المغربية، وجعلهم يقفون متسوّلين في تقاطع الطرقات ليشاهد المغاربة مأساتهم، ويحمدوا الله تعالى الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. ليرفع رأسه عاليا أمام باقي الأنظمة العربية لكونه استطاع أن يَعْبُرَ بالبلد بشكل آمن مطبات سقط فيها الكثير وجعلتهم يتوغّلون في اقتتال داخلي خرّب البلاد والعباد، وعاد بها قرونا إلى الوراء.

ولكنه ما إن أحس باستتباب الأمور حتى عاد وزحف بسرعة على كل ما بدا بأنه قد تخلّى عنه زمن الأزمة والضغط..

 البارحة، طَرَدَ الإسلاميين شر طردة، بعد أن دنّسهم تدنيسا قبيحا، وأكل بفمهم الشوك، كما يقول المثل الشعبي، وجعل تجربتهم فصلا من فصول التاريخ يقرؤه كل فاعل سياسي له عقل وإرادة ويتدبّره. واليوم، ونحن في ظروف إقليمية ودولية محفّزة، أطلق النظام "كلتا رجليه" يحرث الأرض التي يريد، دون أن يأبه بأي صوت، وبأية معارضة؛ فردية كانت أم منظمة، حتّى أنه ضيّق على المغاربة البسطاء في مواردهم القليلة التي بالكاد تُقيم أودهم دون أن يطرف له جفن لحد الساعة. لقد كمش على الجميع حتى ما عاد هناك من عرق ينبض.. أو هكذا يعتقد.

الحلقة الثانية

حراك 20 فبراير كان بحق مناسبةً من ذهبٍ لفَـتْـل حَبل الحوار بين الفرقاء السياسيين المغاربة في المعارضة من أجل إيجاد مسالك للاتفاق على تفاهمات حَدّ أدنى في العمل المشترك. كانت الأجواء مواتية للدفع في اتجاه نيل بعض من الثقة المتبادلة، وهذا هو العنصر الأساس في أي عمل تشاركي بين فرقاء يجمعهم الميدان وتُفرّقهم الأفكار والأيديولوجيا. لكن ـ للأسف ـ هناك من كان قصير النظر، وكان يصرّ على أمور إما ليست من شأنه ولا من صلاحياته أو ليس أوان طرحها على طاولة النقاش:

فأما الأولى؛ مثل تَسْقيف المطالب، وهو ما عُرف حينها بـ"محطة سوق الأربعاء" التي أعلن الفاعل الجمعوي والسياسي محمد الساسي أنه سينزل فيها، ولن يتعدّاها إلى "محطة طنجة" التي كانت تُرفع في شوارعها شعارات ذات سقف مرتفع نوعا ما. كان يصرّ ـ مثلا ـ على مقولة "الملكية البرلمانية" دون أن يُناقشَ أحدا، أو يستشير مع أحد.

وأما الثانية، فالزمن كان زمن "الهجوم" على الاستبداد السياسي والاقتصادي، ولكنهم كانوا منشغلين كثيرا بضرورة توضيح الموقف من كثير من القضايا الفكرية العالقة بين الإسلاميين وأهل اليسار، وكان الساسي ـ مرّة أخرى ـ "القاضي في هذه المُحاكمة"، دائما ما يكرّر مثل هذه الاشتراطات قبل الحراك، وأتذكر جيدا هنا ما كان قد كتبه في مقاله الموسوم بـ"صُنّاع الانتقال"، والذي نشره في عدد يوم السبت 23 كانون أول/ ديسمبر 2006 من جريدة الصحيفة، وقال في نهايته: "والحركات الإسلامية مُطالبة بأن تعمل على: ـ سحب تحفّظاتها على الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام الرأي المخالف. ـ التزام حد أدنى من العقلانية في الخطاب حتى لا تتحوّل إلى منتج للخرافة والأوهام. ـ التخلي عن تكفير الناس، وعن الخلط بين المرجعية التي تهم الحزب وأعضاءه والبرنامج الذي هو أساس التعاقد مع الناخبين، وعن الخلط بين المرجعية الحزبية والانتماء الديني. ـ الإقلاع عن عادة إحاطة رموزها وكياناتها بهالة القداسة".

لا يمكن أبدا أن نكتب تاريخ حراك 20 فبراير دون أن نتوقّف باعتزاز ووقار أمام المشاركة القوية التي بصمت عليها المرأة المغربية؛ فقد كان حضورها طاغ جدا؛ تعبئة، وانتظاما، ورفعا للشعارات، وصمودا أمام التدخلات العنيفة التي كثيرا ما وُوجه بها الحراك.
(الساسي ـ نفسيا ـ لا ينسى أبدا ما فعله به وبحزبه العتيد طلبةُ العدل والإحسان عام 1995م، يوم منعتْ مؤسسات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ـ فرع البيضاء ـ ما سُمّي حينها بـ"الجامعة الربيعية الاتحادية" وخرج بعدها يرعد ويزبد في جريدته الحمراء "النشرة"، من أجل ذلك عمل ـ كلما اعتقد بأن الفرصة واتته ـ على محاولة الانتقام لكرامته المجروحة المهدورة، فكتب ـ مرة ـ يُحرّض شباب الجماعة على مُرشدهم في مقال يقطر حقدا سماه "يا شباب العدل والإحسان انتفضوا" نشره في العدد 100 من جريدة الصحيفة (السبت والأحد 13 و14 يناير 2007م). لم يطالبهم بالانتفاضة ضد الظلم بل ضد الخرافة التي يمثّلها الأستاذ ياسين. ومرّة يحرض السلطات في مقال تساءل فيه قائلا: أين يذهب شباب الجماعة بعد تخرّجهم من الجامعات؟

مسكين الساسي، تاريخ طويل مؤسف من الخذلان: طُرد مما كان يعتبره قلعتهم العتيدة (الجامعة) وطرد من الحزب الذي نشأ فيه وترعرع وتحمل مسؤولية شبيبته لسنوات (الاتحاد الاشتراكي) وطرد من الحزب الذي ساهم في بنائه (الاشتراكي الموحد) واستغفله عالي الهمة يوم "شرّفه" بلقاء يتيم، فخرج على الناس يبشرهم بأن "المخزن" بالفعل يحمل مشروعا طموحا لتغيير المغرب وبنائه. وطرد شعبيا يوم لم يُصوّت عليه حتى أقرب الجيران إليه.

الساسي كان يشترط أيام نضالات 20 فبراير، وكان يفعل ذلك من موقع القوة كما كان يعتقد، ولكنه عندما نزل يوما ضيفا على طنجة في محاضرة ليلية، وطلب حوارا ممن كان "يحاكمهم" في الجرائد والمنتديات والجلسات، رفضوا إعطاءه أذنهم لشرح وتبرير موقفه).

نسد قوس الساسي العتيد.

النظام عرف كيف يلعب على تناقضات الأطراف السياسية الفاعلة في الحراك، بل ومدّ لهم في حبل خلافاتهم عبر وسائط لم تكن تُخطئها العين.

لقد جاء وقت ـ كما سبق الذكر ـ غدت الأولوية فيه لدى بعض الأطراف اليسارية "محاكمة" تصورات الجماعة ومقولاتها عوضا عن "الدفع" نحو إحراج السلطة وجعلها ترتكب أخطاء تدفعها لتقديم التنازلات المطلوبة. ولأن الجماعة ـ كما بدا للعديد من المحلّلين ـ أحسّت أن هذه الأطراف تتنكّر لكل ما بذلته في هذا الحراك، ولأنها قدّرت أن هذا الحراك، بتلك الطريقة وذلك الأسلوب، وبذلك السقف، ومع هؤلاء الشركاء، أصبح غير ذي جدوى، ومكلّف بالنسبة لها، فقد خرجت منه في خطوة اعتبرها البعض "ضربة المعلم"، واعتبرها آخرون "طعنة في الظهر"، رغم أنها لم "تتعاقد" مع أحد على شيء حتى تكون قد خذلته. خرجت وأعلنتْ عن خروجها عبر بيان وصل ليلا إلى من كانوا في لقاء يتشاورون فيما بينهم: هل يحتفظون بها في الحراك، أم يُخرجونها منه !

من ضيّع الفرصة؟

الحلقة الثالثة

لم يكن أحدٌ، طول زمن حراك 20 فبراير، يرفع شعار "يسقط النظام"، بل الجميع كان يردد "يسقط الفساد"، باستثناء مرّة واحدة ـ على ما أتذكر ـ فعلها بعضٌ من مراهقي "أطاك المغرب" في طنجة، ولكن صوتهم كان نشازا مذموما وسط احتجاجات العقلاء. الجميع كان يدرك حجمه، والأساس الذي يقف عليه، والأصوات التي تُدعّمه، والجميع كان يعي ـ أيضا ـ الفرق الشاسع بين ما يقع في البلدان العربية الأخرى وما يجري في المغرب. والجميع ـ كذلك ـ كان حذرا من أن يكون سببا مباشرا في فتنة عارمة أو عنفٍ قاتل، فذلك خط أحمر لا يودّ أحد من الفاعلين السياسيين المغاربة مجرّد الاقتراب منه.

كان الحراك يُطالب بتنازلات ملموسة في اتجاه مزيد من الحريات، ومشاركة مناسبة في السلطة، واستفادة معتبرة من الثروة. وكان من الممكن جدا ـ حسب حسابات السياسة ومنطقها ـ أن يقطف الحراكُ ثمارا وافرة لو ترك بنكيران، ومِن خلفه تيّارا إسلاميا عريضا، "المخزن" يُدبّر أزمته بنفسه، لكنه اعتبر الزمنَ "فرصة تاريخية" قلّما يجود بها العمرُ، فارتمى في أحضانه دون أخذ أيّ ضمانات لإصلاح حقيقي.

النظام عرف كيف يلعب على تناقضات الأطراف السياسية الفاعلة في الحراك، بل ومدّ لهم في حبل خلافاتهم عبر وسائط لم تكن تُخطئها العين.
والسؤال الذي مازال عالقا لحدّ الآن: هل كان بنكيران يمتلك وعيا سياسيا بأنه بموقفه الرافض للاحتجاجات يبتعد بالمغرب عن منطقة الخطر؟ أم كان يبحث فقط عن مجد شخصي؟

بنكيران يؤكد أنه أنقذ المغرب من المجهول، ويعتزّ بذلك، وما أكثر المرات التي هدّد فيها ـ بدون حياء ـ مَن كان يعتبرهم عفاريت وتماسيح بعنفوان "الشارع" ولهيبه، ولكن "الشارع السياسي" كان مُمزّقا، بينما "الشارع الاجتماعي" كان ينتظر حصّته من الغنيمة، وبعد شهور لم يعد أحد يريد أن يكون حصانَ طروادة لجنود وَجِلين!

بنكيران ـ حسب تصريحاته ـ الذي وصل إلى مكانة لم يكن يتخيّل أبدا بلوغها أخلف بالوعود التي كثيرا ما دغدغ بها عواطف مستمعيه وناخبيه، بل إنه أصبح المدافعَ الجَسور على سياسات لا شعبية كريهة. من أجل ذلك لم يتعاطف معه سوى القليل يوم أُخرج من دار المخزن ليُعوّضَ بزميلٍ له في الحزب ضَمِنَ المخزن في صمت قَبوله بأن يلعب دور برُوتُـس!

سقط بنكيران.. ولكن روما الفساد لم تسقط بل ازدادت اتّساعا وشراسة!

اليوم، يخرج علينا بنكيران بتصريح أمام ثلة من مسؤولي حزبه يعلن فيه رفضه للدعوات الشعبية التي ارتفعت لرحيل الوزير الأول أخنوش بسبب ما تعرفه البلاد من غلاء فاحش جدا في كل المواد الأساسية، وبرر رفضه بأمرين: خوفه ـ أولا ـ على سمعة المملكة من كون رحيله بعد أشهر قليلة من تعيينه قد يعطي الانطباع للمراقبين بأن البلاد تعيش حالة من عدم الاستقرار، ورفضه لعملية تعويضه باسم آخر من نفس الحزب الحاصل على المرتبة الأولى في الانتخابات السابقة، لأنه يرغب في تنظيم انتخابات أخرى سابقة لأوانيها. هل يراوده الأمل في العودة إلى لعب نفس الأدوار التي لعبها يوم كان على رأس الوزارة؟

الحلقة الرابعة

في طنجة، وكانت رائدةَ احتجاجات 20 فبراير وقاطرتَه، الذي اختار ـ لأول مرة ـ  الانطلاق من ساحة بني مكادة هم اليسار، وكان ذلك شجاعة منهم ومغامرة في نفس الوقت؛ لأن بني مكادة يومها كانت مجالا يستحيل على أي هيئة أو حزب أو جماعة، مهما كانت قوتها، ضبطه والتحكم في مآلات حركيته. لم يكن أحد يستطيع ضمان سلمية احتجاجات تنطلق من هناك وعدم انفلاتها نحو العنف أو الشغب. و"السلطة" نفسها، بما تملكه من مؤسسات ووسائل للضبط والعنف، كانت تجد عنتا شديدا هناك منذ سنوات خلت.

أطراف أخرى ـ ونقصد بالضبط جماعة العدل والإحسان ـ كانت تفكّرُ في تدشين هذه الاحتجاجات من ساحات أقل حرارة واشتعالا.

بدأت الحلقية في العاشرة والنصف صباحا، صغيرة، مترددة. فلم يكن يُعلَم رد فعل السلطات إلى ذلك الوقت. تشاكست الأطراف الإسلامية واليسارية ـ وهذا أمر معتاد ـ حول من "يُهيمن" على توجيه كلمات الحلقية وشعاراتها، لأنهم لم يكونوا قد جلسوا للتنسيق فيما بينهم بعد.

وستسجّل المدينة بعد ذلك لحظات جنينية جميلة ـ رغم كلّ ما كان يشوبها شدّ وجذب ـ يوم كانت الأطراف المتنافرة تجلس في لقاءات كثيرة وطويلة للتنسيق حول ما يمكن فعله في الميدان. وقد نسجت طنجة تجربة معتبرة في هذا الباب، وما زال الجميع لحد الآن يذكرها بخير، ويتحدّثون على أنها كان يمكن أن تذهب بعيدا في اتجاه إيجاد أرضية للفعل الميداني المشترك لولا "إرادة" فرّق تسد التي وجدت لها آذانا صاغية.. أسلوب!

ولما اطمأنّ الناس إلى خلوّ جنبات الساحة من أية قوات للشرطة والتدخل السريع سارعوا إلى الالتحاق بأعداد غفيرة فرادى وجماعات. ثم انطلقت مسيرة عظيمة نحو مركز المدينة بشكل بديع التنظيم، مُحافظةً على الممتلكات الخاصة وحارسةً لها. وهو الأمر الذي سجّلته العديد من وسائل الإعلام؛ جرائد ومجلات. لم يعترض طريقها أحد؛ كانت الشوارع خالية من أية "علامة" من علامات "السلطة"؛ لقد تم سحب كل ما يمكن أن يؤجّج الوضع، أو هكذا قُرِئ ... أسلوب!

رُفعت شعارات وما تعبت الحناجر، وألقيت كلمات بألوان مختلفة، وكان الجميع ـ بدون استثناء ـ ملتزما بالتنديد بالفساد والدعوة إلى سقوطه. ثم عاد الناس إلى بيوتهم "فرحين" بنجاح احتجاجهم، وقد استيقنوا أن رسالتهم قد وصلت بطريقة تليق بمطالبهم العالية والعادلة.

ولكن المساء وبداية الليل فَجَعَ السّاكنة؛ لقد انفضّ جمهور اتحاد طنجة لكرة القدم من ملعب مرشان بعد مباراة كان يجب تأجيلها بسبب غموض الموقف في الشارع، وجاسوا خلال أهم شارع في المدينة يكسرون السيارات وواجهات المحلات.. ثم وردت أخبار وصور من الناظور عن احتراق رجال وتفحمهم وسط مؤسسة بنكية. لقد تمت محاولة "تشويه" الصورة القوية والجميلة التي تركتها الاحتجاجات في النفوس... أسلوب !

الحلقة الخامسة

ـ 1 ـ

في حراك 20 فبراير انتعشَ اليسار بعد أن كان قد دخل في سبات عميق، وبعضه كان قد اقترب من الموت السريري. لقد وجدها فرصة سانحة لإعادة طرح بعض مقولاته الفكرية وسط دعوات عالمية لـ"عودة ماركس". والمؤاخذة البارزة التي سجّلها عليه المراقبون يومها، أنه فعل ذلك بصوت مرتفع أكثر من حجمه، إلى درجة ظن أنه يستطيع أن يطرح مبادراته وتقديراته من موقع القوة، وأنه يستطيع أيضا أن يطالب الآخر الإسلامي بتوضيح مواقفه مما يؤمن به ويعتقده. والمؤسف أنه فعل ذلك بنوع من البجاحة وبالكثير من الاشتراطات.

أما الإسلاميون، فبالإضافة إلى كونهم يشتركون مع اليسار، ومع كل حرّ، في رفض الظلم، ونبذ الاستبداد، وكره الفساد، فإنهم اعتبروها مناسبة لتجسير الهوّة السحيقة في "الثقة" التي تفصلهم عن اليسار. واعتبروها أيضا مناسبة للدّفع ببعض شبابهم ـ من التلاميذ والطلبة والمجازين ـ لإنجاز بعض التمارين في التنظيم والتعبئة والخطابة والصمود، خاصة من أولئك الذين لم يسبق لهم أن "تشرفوا" بالمشاركة في مثل هذه المواقف.

في حراك 20 فبراير انتعشَ اليسار بعد أن كان قد دخل في سبات عميق، وبعضه كان قد اقترب من الموت السريري. لقد وجدها فرصة سانحة لإعادة طرح بعض مقولاته الفكرية وسط دعوات عالمية لـ"عودة ماركس".
للتاريخ، جلّ اللوجيستيك الذي كان يرافق الاحتجاجات كان الإسلاميون هم من يوفّرونه، وهم من كانوا يعبّئون الناس في الأحياء الشعبية، وينظمون مسيرات فرعية تنطلق من المساجد بعد العصر، ويلتحقون بعد ذلك بالساحة الرئيسية.

عمليا، وعلى أرض الواقع، اليسار كان يقول للإسلاميين: عبّئوا وجيّشوا، بينما سنتكفّل  نحن بالتأطير والكلمات وكتابة البيانات، لأننا نُحسن فعل ذلك. ولأن الإسلامي المغربي المشارك في الحراك كان ـ وما يزال ـ  لا يريد، ويعتقد أنه لا يستطيع أبدا أن يذهب في اتجاه إنجاح أي فعل تغييري وحده، فقد كان يُسلّم، ويقبل، ويتجاوز. إرادة العمل المشترك لدى الإسلاميين كانت قوية، ومُقدّمة على أية أجندة شخصية أخرى.

ـ 2 ـ

لم يستطع الحراك أن يستقطب إليه الكثير من قطاعات المجتمع وفئاته؛ فبالإضافة إلى الأحزاب المنخرطة في العملية الانتخابية، فإن النقابات ـ التي يعوّل عليها في مثل هذه المحطات ـ نأت بنفسها عن هذه الاحتجاجات، وكأن الأمر لا يعنيها مطلقا. في حين عملت السلطة على تحييد الكثير من القطاعات، مثل رجال التعليم، الذين "تبرّعت" عليهم بزيادة 600 درهم في أجرة كل واحد منهم. وبذلك أصبح الحراك، كما اقتنع بذلك الكثيرون، نضال شبه نخبوي تجري وقائعه " نهاية كلّ الأسبوع".

ـ 3 ـ

لا يمكن أبدا أن نكتب تاريخ حراك 20 فبراير دون أن نتوقّف باعتزاز ووقار أمام المشاركة القوية التي بصمت عليها المرأة المغربية؛ فقد كان حضورها طاغ جدا؛ تعبئة، وانتظاما، ورفعا للشعارات، وصمودا أمام التدخلات العنيفة التي كثيرا ما وُوجه بها الحراك.

الحلقة السادسة

هل أكون مبالغا إذا قلت بأن حراك 20 فبراير هو من جملة "الذكريات" السياسية والاجتماعية التي ينبغي للشعب المغربي أن يحتفظ بها دروسا في وجدانه ومخياله!؟ وهل يمكن عدّه أيضا من ضمن الفرص التاريخية التي تمّت إضاعتها لتدشين إصلاح حقيقي في البلاد شأنها شأن لحظة الاستقلال وكذا لحظة انتقال السلطة للملك محمد السادس؟

حراكٌ، رغم أنه لم ينبع أصالةً  من تراكم غضب شعبي قريب انفجر يوم ذلك الأحد، وإنما كان استجابة لسخونة قادمة من الشرق، فإنه وجد سريعا لنفسه أصالتَه وصوتَه ومطالبَه وشعاراتِه البعيدة عن "الرومانسية الثورية" التي كان يمكن أن تسيطر عليه تأثّرا بما كان يقع في الكثير من البلاد العربية القريبة والبعيدة.

للتاريخ، جلّ اللوجيستيك الذي كان يرافق الاحتجاجات كان الإسلاميون هم من يوفّرونه، وهم من كانوا يعبّئون الناس في الأحياء الشعبية، وينظمون مسيرات فرعية تنطلق من المساجد بعد العصر، ويلتحقون بعد ذلك بالساحة الرئيسية.
ولأن أطرافا سياسية كثيرة كانت قد ربطت، منذ أمد طويل، حبلها السّريّ ببطنِ المخزن ورحمِه؛ ولأن من كانوا فاعلين في الحراك لم يكونوا على قلب رجل واحد، ولم يكونوا على نفس المستوى من الفهم والإرادة... مع انخفاض واضح في منسوب الثقة المتبادل؛ ولأن طرفا إسلاميا اعتقد أنه يمكن أن يلعب دور منقذ البلاد من براثن العنف والاقتتال الداخلي، وقدّر أنه يمكن أن يلعب دورا إصلاحيا حقيقيا؛ ولأن عامة الشعب كانوا يجدون في أنفسهم خوفا من دعوات تطالب بتغيير غير مضمون العواقب؛ ولأن "المخزن" صاحب تجربة وريادة في كيفية إدارة صراعاته مع معارضيه، أفرادا وجماعات، علماء وصلحاء، قبائل وزوايا وأحزابا؛ فإن الحراك لم يحقق سوى النزر اليسر من مطامحه، والتي لم تعمّر طويلا على أرض الواقع، لأن ذلك كان مما يمكن أن يشجّع "الرّعية" أن تتشبّث بها باعتبارها مكاسب لا يجوز التنازل عنها.

ومع ذلك، يبقى الحراك درسا مهما، لا أدري هل استوعبه كل فاعل سياسي، أم وحده "المخزن" من استفرد بعِبره وعِظاته.

أما أنا، فالدرس الكبير الذي خرجتُ به من كل وقائع الربيع العربي ـ من بين دروس أخرى ـ أن بعض أهل أيديولوجية اليسار، والمنتسبين للعلمانية الشاملة، وجزء من العلمانيين الجزئيين، مستعدون بكل ما أوتوا من اقتراح واقتحام، أن يتحالفوا، ليس مع السلطة فقط، بل مع إبليس شخصيا إن لزم الأمر، على أن لا يكون للإسلاميين الغلبة في رسم خريطة مستقبل أي بلد من بلاد العرب. رغم أن الإسلاميين ـ أؤكد ـ وقع في فكرهم وذهنيتهم مراجعات كثيرة وعميقة كافية ـ في نظري ـ أن تمنح اطمئنانا لخصومهم، لو أتيح لهما معا أن يجلسا وجها لوجه ليستمعا لبعضهما دون مشوشات... ودون طرف مشاغب.

*كاتب وباحث مغربي
التعليقات (0)