إنه أكثرُ
شاعر امتلك معه ذكريات، ثائر لكنه رقيق، عادي لكنه مفاجئ،
متواضع لكنه كبير، سهل لكنه ممتنع، غزير الإنتاج لكنه مُجيد.. شعرُه واقعي لكنه
واسع الخيال، تأخَّر لكنه نبغ. أشعاره سهلة تمتلئ بالبساطة والبراءة وربما السذاجة
والسطحية لتوصيل أفكاره العميقة.. جمع الشعر من أطرافه، لا تعجزُهُ قافية ولا
يحدُّهُ وزن.. مذهلةٌ جرأتُه في قِصَر الأبيات واقتحام الأوزان كأنه يتكلمها ولا
ينظمها، هنا تحديداً كنت أسأل نفسي "كيف زبطت معه؟!"، فضلاً عن ابتكاره
القوافي غير المطروقة سابقاً. لكنه لم يأخذ حظه من الإعلام..
حاولتُ كثيراً، كغيري، أن نُخرجه للإعلام، فكان يتمنع.. لم يظهر دفعة
واحدة، بل تسرّب تسريباً عبر الصفحات. فظهرَ في شبكة
فلسطين للحوار حيثُ تعارفنا
هناك.. ودامت معرفتنا وسهرنا الليالي سوياً في الشبكة حتى وفاته رحمه الله. ثم في
المنتديات الأخرى التخصصية. ثم أنشأ موقعه الخاص. ثم جاءت المقابلات الصحفية. ثم
نشر مجموعاته الشعرية.
في الشبكة كان مرشداً للشعراء، خفيف الظل في التعليقات، كنا
نُبارزُهُ ولا نقدر عليه.. كنا نقدم أفضل ما لدينا، ثم يقدم قصيدته "فتلقف ما
صنعنا".
قلّدتُ شعره عدة مرات، فكتب قصيدة "عندي الكثير لأفعلَه"
مقلداً أسلوبه، وأرسلتها له.. فعدّل فيها الكثير فصارت أجمل. وكتبت قصيدة "لا
وقت عندي للكلام" على طريقة قصيدته "أحتاج بعض الوقت". لكني لا
أنسى تلك الليلة التي طالت ونحن نرد على بعضنا شعراً، حتى قال لي: أخي ياسر، لم
أعُد أستطيعُ التحمّل، فأنا أكتب الآن وأنا أبكي.. فَلَملمنا ما كتبناه، فخرج كلٌّ
منا بقصيدة وجدانية جميلة وحزينة.
بعد أن تمنّع كثيراً، أجريتُ معه ثلاثَ مقابلات أدبية، وربما كنت
الوحيد أو الأول، نشرتها في أكثر من مجلة.. وقد ذكر د. أسامة الأشقر هذا في رثائه
له بقوله:" وكم كنتُ أتمنى أن يكشف الشاعر عن نفسه
ويشارك في الملتقيات والأمسيات الشعرية إلا أنه لم يوافق يوماً على هذا الظهور
العلني المباشر، إلا أنه اقتنع بجدوى الحضور فأطلق موقعه الشخصي وبدأ يُجري
مقابلات صحفية حرّضه عليها الأخ الشاعر ياسر علي رئيس تحرير مجلة العودة وقبلها في
مجلة فلسطين المسلمة".
استطعتُ استدراجَه لذلك حين اكتشفتُ أن له قصيدة بدأت تنتشر وتُنسب
إلى الشاعر الكبير أحمد مطر، وهي قصيدة "هكذا تكلّم الزعيم"، ولكنها
بعنوان "شت أب". فبذلتُ جهداً في حملة أدبية لأعيد نسبتها إليه، وطلبت
منه المساعدة في ذلك من خلال المقابلات، وهكذا كان.
فمن هو شاعرنا؟
إنه خميس لطفي حْزَيِّن، شاعر لاجئ فلسطيني من قرية
"القباب"، ولد في النصيرات وسط قطاع غزة بعد النكبة بأسابيع، عام 1948.
وقضى طفولته الأولى في دير البلح، وتعلم في مدارسها، ثم نزح منها عام 1968 إلى
الأردن بعد الاحتلال.
بدأ كتابة الشعر في مراحله الدراسية الأولى وله قصائد كثيرة منها:
المهاجر، زمان الكفاح، النسر يأكل قلبي، الآخرون.
أكمل تعليمه الجامعي في أوروبا وحصل على بكالوريوس في الهندسة
الإلكترونية، وعاد إلى الأردن، ثم انتقل للعمل مهندساً للاتصالات في السعودية.
أصدر ثلاث مجموعات شعرية عبر "مؤسسة فلسطين للثقافة"،
بإشراف د. أسامة الأشقر الذي كتب مقدمات نقدية لهذه المجموعات، وهي:"وطني معي" و"عُد غداً أيها
الملاك" و"فوق خط التماس".وهي مجموعات تضمنت في معظمها يوميات وأحداث جرت في الانتفاضة،
وكما يقول في مقابلة سابقة: أدين في كل ما كتبته للانتفاضة..
عُرف بحبه الجارف لغزة، وكتب لها الكثير من قصائد "الحب" و"الفخر"
المليئة بالانتماء عن بُعد.
واشتُهر له قسَمُهُ الشعري لفلسطين الذي يقول فيه:
أَنا الْمَدْعُوُّ: غزِّيٌّ أصيلٌ ، وابنُ غزيِّةْ
وَعُنْوانِي: خطوطُ النارِ ، في حيِّ "الشُّجاعيَّةْ "
وَأَعْمَلُ: في سبيل الله، أعمالاً فدائيةْ
أُدَوِّنُ عَنْ: هوى وطني قصائدَ لا نهائيَّة
وأُقْسِمُ أنْ: سأبقيها على شفتيَّ أغنيَّةْ
وَأَنْ أَبْقَى: على عهدي، ورأسي، غير محنيَّة
وَأَنْ أَحْيَا: لكي تبقى بلادُ العرْب محميَّة
وَلي حُلُمٌ: له أسعى، حثيثاً، صادق النيَّة
وَفِي نَفْسِي: إلى الأقصى حنينٌ ساكنٌ فيَّ
إِلَى أَجَلٍ: فها هي ذي قوى شعبي الطليعيَّة
تبشرنا بنصر الله ضد قوى الصليبية
وَلَنْ أَخْشَى: أنا إلاَّ من الذات الإلهيَّة
فَإِنْ أَقْضِ: صريعَ الحقِّ، والأوطانُ مسبيَّة
فَلا أَسَفٌ عَلى عَيْشٍ بِلا حُلُمٍ، وَحُرِّيَهْ
توفي في عمان حيث كان يقضي الإجازة السنوية إثر نوبة قلبية في أيلول
(سبتمبر) 2010، عن 62 سنة.
قصيدة شت أب
أنا السببْ.
في كل ما جرى لكم
يا أيها العربْ.
سلبتُكم أنهارَكم
والتينَ والزيتونَ والعنبْ.
أنا الذي اغتصبتُ أرضَكم
وعِرضَكمْ، وكلَّ غالٍ عندكمْ
أنا الذي طردتُكم
من هضْبة الجولانِ والجليلِ والنقبْ.
والقدسُ، في ضياعها،
كنتُ أنا السببْ.
نعم أنا.. أنا السببْ.
أنا الذي لمَّا أتيتُ،
المسجدُ الأقصى ذهبْ.
أنا الذي أمرتُ جيشي
في الحروب كلها
بالانسحاب فانسحبْ.
أنا الذي هزمتُكم
أنا الذي شردتُكم
وبعتكم في السوق مثل عيدان القصبْ.
أنا الذي كنتُ أقول للذي
يفتح منكم فمَهُ:
" شَتْ أَبْ "!
***
نعم أنا.. أنا السببْ.
وكلُّ من قال لكم
غير الذي أقولهُ،
فقد كَذَبْ.
فمن لأرضكم سلبْ.؟!
ومن لمالكم نَهبْ.؟!
ومن سوايَ مثلما اغتصبتُكُم
قد اغتَصبْ.؟!
أقولها صريحةً،
بكل ما أوتيتُ من وقاحةٍ وجرأةٍ،
وقلةٍ في الذوق والأدبْ.
أنا الذي أخذتُ منكم
كل ما هبَّ ودبْ.
ولا أخافكم
ألستُ رغم أنفكم
أنا الزعيمُ المنتخَبْ.!؟
لم ينتخبني أحدٌ لكنني
إذا طلبتُ ذات يوم، طلباً
هل يستطيعٌ واحدٌ
أن يرفض الطلبْ.؟!
أقتلُهُ،
أجعلُهُ يغوص في دمائه حتى الرُّكبْ.
فَلْتَقْبَلوني هكذا كما أنا
أو فاشربوا “بحر العربْ“.
ما دام لم يعجبْكمُ العجبْ.
مني، ولا الصيامُ في رجبْ.
ولْتغضبوا، إذا استطعتم، بعدما
قتلتُ في نفوسكم
روحَ التحدي والغضبْ.
وبعدما شجَّعتكم
على الفسوق والمجون والطربْ.
وبعدما حوَّلتُكم
إلى جليدٍ وحديدٍ وخشبْ.
وبعدما أرهقتُكم
وبعدما أتعبتُكم
حتى قضى عليكمُ الإرهاقُ والتعبْ.
وبعدما أوهمتُكم أنّ المظاهراتِ فوضى
ليس إلا، وشَغَبْ.
وبعدما أقنعتكم
أن السكوتَ من ذهبْ.
***
يا من غدوتم في يديَّ كالدُّمى
وكاللعبْ.
نعم أنا.. أنا السببْ.
في كل ما جرى لكم
فلتشتموني إن أردتم،
في الفضائياتِ والخطبْ.
وادعوا عليَّ في صلاتكم وردِّدوا:
“ تبت يداهُ مثلما تبت يدا أبي لهبْ “.
ماذا يَضيرُني أنا؟!
ما دام كل واحدٍ في بيتهِ،
يريدُ أن يسقِطَني بصوتهِ،
وبالضجيج والصَخبْ.؟!
أنا هنا!
ما زلتُ أحمل الألقابَ كلها
وأحملُ الرتبْ.
فَلْتُشْعِلوا النيرانَ حولي
واملؤوها بالحطبْ.
إذا أردتم أن أولِّيَ الفرارَ والهربْ.
وحينها ستعرفون، ربما
مَن الذي
في كل ما جرى لكم
كان السببْ.!؟
قصيدة ما أروعك
ما أروعكْ.!
رفع الجميع الرايةَ البيضاءَ من زمنٍ،
وأنت بقوةٍ،
ما زلتَ ترفع إصبعيك ومِدفَعَكْ.
ذهب الجميع إلى مخادعهم وناموا بينما،
لم تغفُ أنت للحظةٍ،
وبقيت تهجر في الليالي مَخْدَعَكْ.!
عزفوا مقاطعهم عن “الإرهابِ“
ثم “الإنتحاريينَ“ لكن،
ما اكترثت ورحت تعزفُ،
للشهادة والخلود مقاطعكْ.
يتساءلون لِمَ “انتحرتَ“؟!
وأنت تسخر من تساؤلهم،
وقدرتِهم على استيعاب شرحكَ،
إنْ شرحتَ دوافعَك.
هل يفهم السفهاء ما
معنى الشهادةِ في سبيل اللهِ،
أو لِمَ نيلُها،
أضحى مُنَاك ومطمعك؟!
دعهم!
فقد ضلوا كما الأنعام بل
صاروا أضلَّ ومثلُهم لن ينفعكْ.
ما أروعكْ!
كم حاصروك وطاردوكَ،
وأوقفوك وقهقهوا..!
متوهمين بأن ذلك كلَّه قد أخضعكْ.
كم عذبوك وما اعترفت سوى
بحبك للتراب وكم،
بكيت وكنت في صمتٍ،
تكفكف أدمعكْ.
أذهلتهم.!
بتوازن الرعب الذي أوجدتهُ،
لمَّا وضعتَ على حزامك إصبعك.!
لم تستطع كل الحواجز،
إنْ أردت النيل من قطعانهم، أن تمنعكْ.
علمتهم كيف الحياة تصير موتاً،
كيف تغدو أنت حياً في الأعالي
حين تلقى مصرعكْ.
لم يفهموك..
وكلهم يسعى بجدٍ،
كي يُضيِّع تضحياتِك هكذا..
ويضيِّعك.
والآن قل..
قل ما تريدُ،
فمن سيجرؤ أن يحدق في عيونك لحظةً
ويقاطعَكْ!؟
قل ما تريد فأنت سيدهم،
وكلُّ حلولهم هي كالسراب بِقِيعةٍ،
ومتى استطاع سرابهم يا سيدي
أن يخدعك؟ّ!
ما أروعكْ.!
حسبوك وحدك عندما،
وجدوك في الميدانِ، لم يدروا،
بأن الله يا شعبي معك.!
قصيدة بقاؤكم مستحيل
على أرضنا لم يعمِّر دخيلُ.
وتاريخُنا شاهدٌ ودليلُ.
وأنتم أطَلْتُم هنا، وفسقتم
وخيرٌ لكم كانَ، ألاَّ تطيلوا.
وكل سلامٍ لنا معكم
كِذبةٌ،
وبقاؤكمُ مستحيلُ.
ستنقرضونَ،
ونحن سنبقى
ويبقى الكثيرُ، لنا، والقليلُ.
ستبقى السماءُ لنا والهواءُ
ويبقى الندى والنسيمُ العليلُ.
ستبقى الغيومُ وتبقى الرياحُ
وشمسُ النهار لنا، والأصيلُ.
لنا كل سهلٍ، لنا كل حقلٍ
لنا البرتقالُ هنا، والنخيلُ.
لنا اليومُ، والغدُ، والذكرياتُ
التي ما لها، عند شعبٍ، مثيلُ.
لنا القدسُ عاصمةٌ،
والخليلُ ويافا وحيفا
لنا، والجليلُ.
وكلُّ فلسطينَ من بحرها
إلى نهرها، والفضاءُ الجميلُ.
فهيا ارحلوا،
يا برابرةَ العصرِ
جئتم غزاةً، وحانَ الرحيلُ.
ولا تكذبوا..!
لا تقولوا بأنَّ لديكم هنا وطناً
لا تقولوا.!
ولا تحلموا.!
بحدودٍ يمرُّ بها، ذات يومٍ،
فراتٌ ونيلُ.
فنحن هنا..
منذ فجر الزمان
إذا غاب جيلٌ لنا، جاء جيلُ.
وأنتم هنا طارئونَ، وليسَ
وما، للمفرِّ لديكم سبيلُ.
سنقضي عليكم
وسوف نظلُّ
وراءَكمُ
والزمانُ طويلُ.