"نحنُ في
غزة عند الله بين شهيد وشاهد على التحرير وكلنا ننتظر أين سنكون؛ كلنا ننتظر اللهم وعدك الحق"، كانت هذه آخر الحروف التي نسجتها، الكاتبة والشاعرة
الفلسطينية، هبة أبو ندى، قبل نيلها الشهادة بساعات قليلة، وفقا لعدد من معارفها.
جُملة هبة، مسّت قلوب الملايين، ممّن أعادوا تداولها على حساباتهم في مختلف منصات مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها لم تكن الوحيدة، حيث كتبت قبلها على حسابها الشخصي في منصة "فيسبوك": "منطقة الزهرة في غزة تهدد كاملة الأربعة وعشرين برجا تقصف الآن، مدينة بأكملها تستشهد برجا برجا، يا الله يا الله!"، وكأنها كانت شاهدة على دنو أصوات قصف الاحتلال الإسرائيلي، من منطقتها في قطاع غزة.
هبة كانت واحدة من الأقلام التي تخط كلماتها بالوجع والأمل، كأنها تجعل نصوصها شاهدة على المأساة الإنسانية التي أحاطت بهم، فكتبت قبل يوم من استشهادها: "قائمة الأصدقاء عندي تنكمش تتحول توابيت صغيرة تتناثر هنا وهناك، لا يمكنني إمساك أصدقائي وهم يتطايرون بعد الصواريخ لا يمكنني إعادتهم من جديد، ولا يمكنني أن أعزي فيهم ولا يمكنني البكاء لا أعلم ماذا أفعل!".
وتابعت هبة: "كل يوم تنكمش أكثر هذه ليست أسماء فقط هؤلاء نحن بوجوه وأسماء مختلفة فقط؛ يا رب ماذا نفعل يا رب أمام وليمة الموت الضخمة هذه. لا توجد أي أيقونة هنا تعيدهم ولو كذبا…"؛ قالت كلمتها واستشهدت، وتركت خلفها جبالا من الأسى المعجون بالصمود والإصرار على حب الحياة، وفلسطين.
"لسنا أرقاما"
تقول مريم، وهي شابة في 28 من العمر، من غزة، قصف حيهم، واستشهد الكثير من أصدقائها ومعارفها، "في فترات مختلفة من عمري، عايشت ثلاثة حروب، اهتز قلبي من الخوف في الأولى، تجرعت المرار صبرا في الثانية، لكنني الآن جبل ثابت، على الرغم من الشعور بالخذلان الذي يكتنز أنفاسنا، لكن الله معنا، ولن نخيب".
وأضافت مريم، في حديثها لـ"عربي21": "هنا في غزة، أضحينا جميعا مشاريع شهداء، رغم عشقنا للحياة، حيث إننا حقا لسنا مجرد أرقام، بل لكل منّا أحلام وطموحات وآمال كثيرة؛ أنا مثلا كنت أطمح في فتح مشروع صغير، وإنهاء دراستي الجامعية؛ والآن كل ما أصبح يحيط بتفكريني هو أنني لو نلت الشهادة، جثتي ستكون قطعة واحدة أو سأتحول إلى أشلاء".
على غرار مريم، شباب كثر، من قلب غزة، وفي عمق هذه الأيام العصيبة، يصرّون على بث مشاعر الأمل في حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك في ظل فضحهم لجرائم الاحتلال التي يستمر في اقترافها دون أي إعارة اهتمام للقانون الدولي الإنساني وقانون الحرب. مثل المؤثر على منصة "انستغرام"، صالح، الذي نشر مقطع فيديو يقول فيه "اشتريت سروال وقميص لأغير ملابسي التي باتت ملطخة بالدماء، وسوف أغتسل وأحلق شعري، حتى إن استشهدت أكون جميلا".
كارثة صحية تلوح في الأفق..
قال المسؤول عن دائرة العدوى في وزارة الصحة الفلسطينية، الثلاثاء الماضي، في بيان مقتضب: "تحذير! السيطرة على الأوبئة ستكون صعبة بسبب نقص المياه في ظل استمرار عدوان الاحتلال"؛ فيما توالت بعده بيانات وتحذيرات من جهات فلسطينية محلية، ومؤسسات أممية ودولية عاملة في قطاع غزة أو خارجه، للتحذير من "كارثة صحية، نتيجة القصف غير المسبوق على كافة أنحاء القطاع".
وأوضحت وكالة غوث وتشغيل لاجئي فلسطين "الأنروا"، الثلاثاء الماضي، أن "شح المياه يمثل مشكلة كبرى في غزة"، مؤكدة أن "الناس سيموتون إذا لم يتوفر الماء، وسوف يصابون بالجفاف والأمراض المنقولة عبر الماء، في ظل انهيار خدمات المياه والصرف الصحي بما في ذلك إغلاق آخر محطة في غزة لتحلية مياه البحر يوم الاثنين".
اظهار أخبار متعلقة
من جهتها، قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى إن "الأسر في غزة تعاني بالفعل من صعوبة الحصول على مياه نظيفة"، مضيفة بأن "الأهالي لا يحتملون بأن يسقوا أطفالهم العطشانين ماء ملوثا"؛ فيما تعاني غزة في الأصل من عجز يوصف بـ"الحاد" في المياه، حيث يفتقد أكثر من 90 بالمائة من سكانها للمياه العذبة.
أما عن مصادر المياه المتواجدة في غزة، والتي بدورها تتحكم فيها قوات الاحتلال، هي الخزان الجوفي ومياه شركة "مكروت"، إلى جانب محطات تحلية مياه البحر وتجميع مياه الأمطار، غير أنهما مصدران يعانيان من محدودية الإنتاج، فضلا عن سوء البنية التحتية. وتضاعفت المأساة قطع سلطات الاحتلال التام للمياه عن غزة، مع انقطاع الكهرباء، فأضحى الحصول على الماء أمرا من ضرب المستحيل.
وأشارت منظمة أوكسفام، الثلاثاء الماضي كذلك، إلى أن "الوضع في غزة يهدد بأن تصبح أرضاً خصبة للكوليرا وأمراض أخرى"، فيما قالت وزيرة الصحة الفلسطينية، مي الكيلة، الأربعاء الماضي، إن "انقطاع المياه وتدهور منظومة الصرف الصحي يزيدان مخاطر تفشي الأمراض السارية". ناهيك عن على أن القوارض والحشرات باتت تنتشر في مختلف المناطق، يضاف إليها تكدس الجثث، وعدم القدرة الدائمة على دفنها وفق السرعة المطلوبة، ما يزيد من خطر انتشار الأوبئة بسبب تحللها.
أنين غزة لا يصل !
في جنوب غرب قارة آسيا، في الجزء الجنوبي للساحل الشرقي للأبيض المتوسط، توجد غزة على مساحة 360 كم مربع، يعيش فيها أكثر من مليوني ونصف إنسان، وهي التي خيّم عليها الحزن، وعرف العالم أجمع بمأساتها مع الحصار، حيث لا وقود ولا طعام ولا ماء،مع استمرار القصف الهمجي للاحتلال الإسرائيلي، لأكثر من 21 يوما، وتواصل سقوط الشهداء، أمام مرأى العالم، بصوت وصورة في جودة عالية.
"لا يد عربية حنّت ولا طبطبت لتمسح عنّا أوجاعنا، باستثناء صوت الشعوب المغلوبة على أمرها" هكذا يقول أهالي غزة، المثقلين بالجراح، مشيرين إلى طعم الخذلان الذي بات ملازما لهم، بالقول: "جثتنا تتساقط أمامكم، ولم يفعل أحد شيئا لإيقاف جنون الاحتلال الأهوج، لن ننسى؛ لقد عرف كافة العرب بالمجازر التي ارتكبت بحق المدنيين الغزيين، وهدم المنازل دون إنذار، والمساجد، والوزارات، والجامعات، والأسواق، والأراضي، وسيارات الإسعاف، وسماء غزة لم تتنفس الصعداء من الصواريخ والقذائف وحتى الفسفور الأبيض المحرم قانونيا ودوليا".
وعلى حسابها على منصة "فيسبوك" كتبت أروى نبيل، وهي الشابة الحاصلة على معدل 99.1 بالمئة، الفرع الشرعي، قبل يومين: "نحن نُباد الآن؛ الليلة عصيبة؛ كثِّفوا الدعاء.."، وفي يوم 22 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، كتبت "مش منطقي تقول أنا مستعد أفدي القضية بروحي، وإنت مش قادر تقاطع رفاهيات!" في دعوة منها إلى حملة لمقاطعة كافة المنتوجات الداعمة للاحتلال الإسرائيلي، ورغبة منها في الشعور بالتعاطف والتضامن معهم في محنتهم، قولا وفعلا.
غير أن أحمد له قول آخر، وهو ابن غزة التي تركها صدفة قبل أسبوع من بداية الحرب، لدراسة القانون في
المغرب: "لا أحد في غزة ينتظر من الدول العربية المغلوبة على أمرها شيئا، وأساسا ماذا سوف تنتظر من حكومات عرفت بنبأ حصارك وتجويعك وفقرك قبل 17 عاماً، ولم تحرك ساكنا، وكأن انتهاك الحق قبل الأرض شيء عادي؟ هل يفترض أن ننتظر منها شيء اليوم؟".
وتابع أحمد في حديثه لـ"عربي21" ودمع خافت في عينيه: "ما يحز في نفسي أنني تركت دياري، حاليا أنا هنا جسد دون روح، أي نعم كنت أطمح لرسم ملامح لمستقبلي، لكن أي مستقبل الآن وجُل أفراد عائلتي بين شهداء ومصابين"، مردفا "أسماء أطفالنا وشبابنا تتحول إلى أرقام في شريط الأخبار العاجلة، مع فرض حصار شامل على غزة، من قطع الكهرباء والماء والطعام والدواء، وتدمير أحياء كاملة، من تدخل لوقف هذا النزيف؟".
اظهار أخبار متعلقة
سؤال أحمد، بات معلقا، مثل أسئلة كثيرة، تروج في ذهن الشباب العربي المندد بالعدوان على غزة، في كامل بقاع الدول العربية؛ وهي أسئلة خرجت من رحم انتصار سيظل خالدا في صفحات التاريخ، حيث أن عملية "طوفان الأقصى" هزّت مشاعر جُل المسلمين في بساط الأرض، وأعادت إليهم حنين "صلاة النصر" في القدس الشريف؛ وجعلتهم يخرجون بالملايين في الشوارع لإعلان الدعم للمقاومة الفلسطينية، والتنديد بالتواطئ الدولي على قطاع غزة.
واستيقظ سكان قطاع غزة، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، على مشهد أشبه بالحلم، إذ تم اختراق الحدود شمالا نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة، واهتزت قلوبهم فرحا من مشهد المقاومين وهم يهبطون من السماء، بطائرات شراعية مصنوعة محليا، خاصة أن فكرة السماء والمطار تبخرت بالنسبة لهم بعد منذ أن دمّر الاحتلال مطار غزة الدولي خلال عام 2001. وهو الحلم الجميل الذي ودّ الأهالي لو توقف بهم الزمن عنده؛ رغم معرفتهم أن له ما بعده.
يشار إلى أن حصيلة ضحايا العدوان المتواصل ارتفعت لتصل إلى 8005 شهداء منهم 3324 طفلا و2062 سيدة و460 مسنا، إضافة الى إصابة 20,242 بجراح مختلفة، فيما ارتكب الاحتلال 881 مجزرة بحق عائلات بأكملها في غزة على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية.