نشرت
صحيفة "واشنطن بوست" تقريرا لمديرة مكتبها في بغداد، لويسا لوفلوك،
ومديرة مكتبها في القاهرة، كلير باركر، قالتا فيه إن شهر نيسان/ أبريل هو شهر جميل
على شواطئ
البحر الأبيض المتوسط، حيث تعطر الأزهار النسيم، وتنبض الحياة في المدن
الساحلية. لكن بالنسبة لميرون استفانوس وآخرين ممن يراقبون مرور المهاجرين، فإن
الربيع يجلب أيضا شعورا بالقلق.
كثيرا
ما تسأل استيفانوس، الناشطة الإريترية المقيمة في أوغندا، نفسها: "كم من
الناس سنخسر هذه المرة، كم أُمّا ستتصل بي لتسأل عن ابنها أو ابنتها
المفقودة؟"
على
مدى العقد الماضي، أصبح البحر الشاسع بين شمال أفريقيا وتركيا وأوروبا
مسرحا للموت الجماعي. وتشير تقديرات متحفظة إلى أنه من بين أكثر من مليوني شخص
حاولوا العبور، معظمهم من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والشرق الأوسط، هناك ما لا
يقل عن 28 ألف شخص في عداد المفقودين، ويفترض أنهم لقوا حتفهم.
وكان
الربع الأول من عام 2023 هو الأكثر دموية في وسط البحر الأبيض المتوسط منذ عام
2017، وفقا للمنظمة الدولية للهجرة. ويخشى المدير العام أنطونيو فيتورينو أن تكون
الوفيات "قد أصبحت أمرا متقبلا".
ومن
بين القتلى المعروفين، لم تتمكن السلطات الأوروبية من انتشال سوى حوالي 13% من
الجثث، حسب تقديرات اللجنة الدولية للصليب الأحمر. لم يتم تحديد الغالبية العظمى
منهم أبدا. إن فرص حصول أحد الأقارب على تأكيد بوفاة أحد أحبائه المفقودين هي
"مثل احتمالات الفوز باليانصيب"، على حد تعبير أحد المسؤولين
الإنسانيين.
وقالت
كريستينا كاتانيو، أستاذة الطب الشرعي في جامعة ميلانو، التي يعمل مختبرها على
التعرف إلى جثث المهاجرين التي تعثر عليها السلطات الإيطالية: "إنه بالتأكيد
أكثر تحديا من حادث تحطم طائرة محلية مثلا، ولكن مع الإرادة الصادقة، يمكن القيام
بذلك".
لكن
مختبر كاتانيو في لابانوف لا يتلقى أي تمويل من الدولة. لا تقدم الحكومات
الأوروبية سوى موارد قليلة لاستعادة الرفات البشرية التي تصل إلى شواطئها، ناهيك
عن حفظها والتعرف عليها.
تمتلك
إسبانيا قاعدة بيانات مركزية للطب الشرعي، لكن لا يمكن البحث فيها إلا بالاسم. في
إيطاليا واليونان، هناك تنسيق محدود بين المكاتب والمناطق المختلفة التي تتعامل مع
حالات المهاجرين المفقودين. ولم يتم بعد تنفيذ اتفاق عام 2018 بين إيطاليا ومالطا
واليونان وقبرص لتبادل معلومات الطب الشرعي مع المفوضية الأوروبية.
وضمن
هذا الفراغ، يحاول أشخاص مثل كاتانيو وضع أسماء ووجوه للمفقودين. وقالت: "أنت
تقوم بأخذ عينة الأنسجة، وتجمع كل المعلومات التي تحتاجها وتضعها في بياناتك.
الجزء الصعب هو البحث عن القريب، لكنه ليس مستحيلا".
استفانوس
هي واحدة من الوجوه الأكثر شهرة في الشتات الممتد، ما يجعلها شريان حياة لأولئك
الذين يبحثون عن المفقودين.
يعطونها
التفاصيل التي عرفوها قريبا (متى غادر القارب، ومن هو المهرب الذي دفع له المال)
والتفاصيل التي عرفوها دائما مثل ("لقد كسر أسنانه عندما كان يلعب كرة القدم
عندما كان طفلا").
تشارك
قصصهم على فيسبوك وفي برنامجها الإذاعي الأسبوعي. وفي إحدى الحالات، سافرت
للعثور على إجابات، وبحثت في المستشفيات والسجون، ولكن دون جدوى.
في
بعض الأحيان، يتواصل أحد الناجين من حطام السفينة، أو يقوم أحد المهربين بمشاركة
قائمة الركاب من السفينة المفقودة.
في
كثير من الأحيان، يتم ابتلاع القوارب دون وجود ناجين، وتغرق عميقا، لدرجة أنه لا
يمكن العثور عليها أبدا. أو تتناثر الجثث على سواحل مختلفة، دون وثائق هوية، ولا
يبذل المسؤولون هناك الكثير للتحقق من هويتهم.
ويصر
الخبراء والناشطون على أنه لا يزال هناك الكثير مما يمكن القيام به لاحترام كرامة
الموتى، وتوفير خبر يقين للعائلات التي تتوق إلى معرفة مصير أحبائها.
أم
إريترية فُقد ابنها عام 2005، وتتصل بإستيفانوس منذ 18 عاما. فترد عليها الناشطة:
"أتمنى أن أستطيع إعطاءك إجابة، لكني لا أستطيع". وترد المرأة دائما
بنفس الطريقة: "لماذا لا تخبريني أنه مات؟"
ويركز
الاتحاد الأوروبي على منع الهجرة، ويبرم صفقات مع الحكومات في جميع أنحاء الشرق
الأوسط وشمال أفريقيا؛ لاعتراض القوارب قبل وصولها إلى المياه الأوروبية، ويمول
مراكز الاحتجاز لاحتجاز ركابها.
في
أغلب الأحيان، لا تتخذ الحكومات الأوروبية إجراءات منسقة لتحديد هوية الموتى إلا
بعد غرق السفن الكبيرة التي تجتذب تسليط الأضواء من وسائل الإعلام.
عندما
غرقت سفينة صيد زرقاء في المياه اليونانية في 14حزيران/ يونيو وعلى متنها 750
شخصا، اتخذت البلاد خطوة نادرة، تتمثل في تفعيل نظام تحديد هوية ضحايا الكوارث،
والذي يستخدم عادة في أثناء الكوارث الطبيعية. تواصلت السلطات مع بلدان المهاجرين
الأصلية للمساعدة في التعرف على الجثث، وأنشأت خطا ساخنا للعائلات.
لم
يصاحب أي رد فعل من هذا القبيل عشرات حوادث الغرق التي حدثت منذ ذلك الحين، في
اليونان أو في أي مكان آخر. وقد سجل مشروع المهاجرين المفقودين ما يقرب من 500
حالة وفاة في البحر الأبيض المتوسط خلال تلك الفترة.
قالت
كاتانيو: "الناس يلوون رؤوسهم طوعا ووعيا عن المشكلة".
وتفوقت
تونس على ليبيا هذا العام كنقطة انطلاق رئيسية لقوارب المهاجرين المتوجهة عبر
البحر الأبيض المتوسط. وفي المياه الجنوبية للبلاد، يعثر الصيادون على الجثث في
شباكهم، ويكتشفهم رواد الشاطئ وقد جرفتهم الأمواج إلى الرمال.
في
عام 2016، بدأت عواطف عماد مشارق، أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة أمستردام
والمتخصصة في الطب الشرعي، تسمع المزيد والمزيد من هذه القصص من مسقط رأسها في
جرجيس، وهي مجتمع ساحلي يقع على بعد حوالي 50 ميلا من الحدود الليبية.
وهي
اليوم الباحثة الرئيسية في مشروع ممول من مجلس البحوث الأوروبي، ويحركه سؤال
مركزي: كيف انتهى الأمر بهذه الجثة هنا؟
وقالت:
"في السنوات الأولى، لم يكن الناس يهتمون كثيرا بالموتى". وأضافت أن
المهاجرين التونسيين غادروا على متن قوارب أكثر ثباتا وطرقا أكثر أمانا، وغرق عدد
أقل منهم.
تغير
ذلك في تموز/ يوليو 2019، عندما جرفت الأمواج 87 جثة على شاطئ جرجيس. كانت مشارق
هناك في رحلة بحثية. وقالت إن الشرطة كانت مرهقة. وحمل عمال نظافة الشوارع الجثث
في شاحناتهم.
تم
نقلهم إلى مدينة قابس، التي تبعد حوالي 90 ميلا شمالا، والتي يوجد بها مستشفى مجهز
لإجراء تحاليل الطب الشرعي. ومنذ ذلك الحين، قام طبيب هناك وآخر في مدنين بفحص
الجثث التي جرفتها الأمواج إلى الشاطئ في جرجيس.
وقالت
مشارق: “ما نجحت به قابس هو إمكانية التعرف على الأشخاص بناء على أمتعتهم الشخصية
– ملابسهم أو الأشياء التي يحملونها معهم".
إذا
كانت الجثة تعود لمواطن تونسي، تبحث أسرته عنه بنشاط، فإن تحديد الهوية يكون سهلا
نسبيا. وأضافت: "لكن عندما يتعلق الأمر بالتعرف على جثة عشوائية مجهولة
جرفتها الأمواج إلى الشاطئ، يكون الأمر أكثر صعوبة".
خلال
فترة أربع سنوات من 2017 إلى 2021 في أحد المستشفيات الكبرى في مدينة صفاقس جنوب
شرق البلاد، لم يتم التعرف على ثلاثة أرباع القتلى، وفقا لتقرير صادر عن متخصصين
في الطب الشرعي.
ويقول
مسؤولون في المجال الإنساني إن مطابقة عينات الحمض النووي مع الأقارب في بلدان
أخرى تتطلب قاعدة بيانات دولية، ما يسمح بشكل مثالي لأفراد الأسرة بتقديم عينات
محليا.
وقال
فلوريان فون كونيغ، الذي يقود جهود اللجنة الدولية للصليب الأحمر لإشراك الحكومات
في قضايا الهجرة: "لكل هذا، نحتاج إلى وجود أنظمة واتفاقات قائمة، وإلى أن
يعرف الناس بالفعل أن هذه السبل موجودة".
ويتفق
الخبراء على أن العقبة الأكبر هي الافتقار إلى الإرادة السياسية.
قالت
مشارق: "هناك شيء يجب أن يتغير. لا يمكنك القيام بذلك على المستوى الوطني، ويجب أن تكون دولية بسبب طبيعة المشكلة. أنت لا تعرف أين ستنجرف الجثث".
وفي
تونس، دُفن العديد منهم على يد شمس الدين مرزوق، وهو ناشط وصياد سمك من جرجيس،
تعتبر مقبرته للمجهول المثوى الأخير لمئات المهاجرين. شواهد القبور الصغيرة ترتفع
من أكوام التراب الحمراء.
قال
مرزوق: "كان هذا الصيف هو الأكثر كثافة التي مررنا بها". مقبرته ممتلئة
الآن.
ويدعو
مرزوق وزملاؤه الناشطون منظمات الإغاثة إلى مساعدة المتطوعين المحليين على جمع
المزيد من الجثث من البحر الأبيض المتوسط، كما يدعون السلطات الأوروبية إلى
المساعدة في التعرف على هوياتهم.
وأضاف:
"هناك عائلات تنتظر أحباءها".