هنالك العديد من القضايا الشائكة والمُتشابكة
في المشاهد السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة العراقيّة، ومن أبرزها تلك القضايا المُرتبطة بالإنسان
وحياته وحرّيّته وكرامته ورزقه وصحّته. ومن هنا تأتي أهمّيّة تسليط الضوء على قضيّة
المُغيَّبين لأنّها تتّصل بحياة الفرد المُغيّب ومصيره
وتداعياتها المرتبطة بعائلة المفقود والمجتمع!
ولا نريد أن نسير على ذات الطريق المُمِلّ
الذي يقتصر على التوصيف والتباكي السنوي على المعضلات الوطنيّة والإنسانيّة المرتبطة
بمواطنين أبرياء اختُطفوا، وربّما قُتلوا بدم بارد، ودون السعي للتركيز على الحلول
والمقترحات المعالجة لتلك القضايا الحساسة!
ونحن ملزمون بداية بذكر بعض الحقائق المتعلّقة
بإحصائيات جرائم المُغيَّبين، وآخرها ما ذكرته منظّمة العفو الدوليّة (آمنستي) في
الثلاثين من شهر آب/ أغسطس 2023، بمناسبة اليوم العالميّ للمفقودين والمختفين قسراً،
بأنّ
العراق يُعدّ أحد البلدان التي تضمّ أكبر عدد من
المفقودين في العالم جراء
أزمات متتالية تهزّه منذ عقود، ودعت إلى ضرورة الكشف عن مصيرهم المخيف والغامض!
المرارة الأكبر في قضيّة المُغيَّبين أنّ الحكومات العراقيّة لا تمتلك أيّ قاعدة بيانات كاملة، أو تقريبيّة، بخصوص أعداد المختفين قسرياً! بينما نجد "إشارات" للمأساة وبدرجات متفاوتة على الصعيد العالميّ
والمرارة الأكبر في قضيّة المُغيَّبين أنّ الحكومات العراقيّة لا تمتلك أيّ قاعدة
بيانات كاملة، أو تقريبيّة، بخصوص أعداد المختفين قسرياً! بينما نجد "إشارات"
للمأساة وبدرجات متفاوتة على الصعيد العالميّ، وآخرها تقرير لجنة الأمم المتّحدة
المعنيّة بالاختفاء القسريّ في العراق يوم 25 نيسان/ أبريل 2023، والذي أكّد أنّ "بين
250 ألفا ومليون شخص اختفوا في العراق منذ 1968"! وهي إحصائية مطّاطيّة وهزيلة
ولا يمكن التعويل عليها!
وهذا برأيي تسفيه لأرواح المُغيَّبين وعدم
احترام لهم ولعوائلهم، وإلا ينبغي لمَن يريد حسم هذا الملف أن يدعو لتشكيل لجنة عراقيّة
وأممية تقف على أعداد المُغيَّبين الدقيقة خلال المراحل السابقة!
وكذلك أكّد مركز جنيف الدوليّ للعدالة أنّ
"عدد المفقودين منذ العام 2003 يُقدّر بنحو مليون شخص"! فهل يُعقل أنّ
مليون عائلة تلتزم الصمت وتفرّط بمعرفة مصير أبنائها المفقودين بهذا الطريق المظلم
الملغم؟
والعجيب أنّ رئيس حكومة بغداد محمد شياع
السوداني لم يتطرّق لهذه المناسبة، ولو بتغريدة، وكأنّها غائبة من قاموس حكومته!
ومن الغريب أنّ البرلمان العراقيّ لم ينجح
حتّى الساعة في تمرير قانون مكافحة الاختفاء القسريّ لأسباب متنوّعة، لكنّها
بالمحصّلة تؤكّد أنّ قيمة الإنسان لا تُعادل التوافقات المتنوّعة بين الشخصيّات
والكتل المشكِّلة للمشهد السياسيّ!
وسبق لرئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي أن كشف،
نهاية العام 2022، بأنّه "لا حلّ لموضوع المُغيَّبين إلا بتعويض ذويهم وإنصافهم"،
وأنّ "المُغيَّبين يُمكن تسميتهم بالمغدورين"!
فمَنْ غدر بهم؟ وهل يمكن لأموال قارون أن
تُنْسي الناس جرائم تغييب أولادهم وقتلهم؟
لقد كانت المعارك في محافظتي الموصل
والأنبار وغيرهما مناسبة مخيفة لتغييب مئات الأبرياء، وفقا لمنظّمة العفو الدوليّة،
فيما تقول مفوّضية حقوق الإنسان السابقة في العراق إنّ سبعة آلاف شخص اختفوا في الفترة
من 2017-2019، بينما يُشير المرصد العراقيّ لحقوق الإنسان إلى أنّه تلقى 11 ألف
بلاغ عن مغيّبين عراقيّين!
وأمام هذه الإحصائيات المذهلة والمؤكِّدة بأنّ
العراقيّين يتصدّرون دول العالم في أعداد المُغيَّبين
نتساءل:
- لماذا هذا الصمت القاتل لغالبيّة عوائل المُغيَّبين؟
- ولماذا لم نرَ لعوائل المُغيَّبين تجمّعات
أسبوعيّة أمام مكتب الأمم المتّحدة ببغداد، والوزارات ذات العلاقة، ومجلس النوّاب؟
- ألا يفترض أن نجد تفسيرا للصمت الشعبيّ،
ونحن نتحدّث عن مئات آلاف المُغيَّبين؟
- وكيف نفسّر هذا الصمت والتجاهل لضياع
الإنسان بينما نرى الناس في دول أخرى ينشرون الإعلانات في الصحف والشوارع لفقدان
قططهم أو كلابهم؟
- فهل صَمَتوا خوفا من تهديدات وملاحقات
قانونيّة قد تُضيعهم هُم أيضا؟
- وهل هنالك أمْر ما خلف الستار دفعهم
للصمت والاستسلام وتجاهل مصير المُغيَّبين؟
أسئلة كثيرة بلا إجابات شافية، ولا ندري مَنْ
المُفترض أن يجيب عليها؟
وكانت وزارة العدل العراقيّة قد ذكرت بداية
آذار/ مارس 2022 أنّها عقدت اجتماعا "لتفعيل الخطّة الوطنيّة الاستراتيجيّة
للحقّ بمعرفة الحقيقة عن مصير المفقودين"!
فكيف سيُحسم ملفّ المُغيَّبين، والوزارة
لم تُعلن حتّى الآن أيّ نتائج لخطّتها الوطنيّة؟
يُفترض تشكيل لجنة وطنيّة ودوليّة محايدة تسعى لحسم هذا الموضوع الدقيق بعيدا عن الاتّهامات المُسبّقة، ومعرفة مصير المُغيَّبين، وإنصاف ذويهم، وتقديم جميع الجناة للعدالة، وإلا فإنّ هذا الملفّ بركان قاتل سينفجر في أيّ لحظة
والغريب أن مَن يتناول موضوع المُغيَّبين
في الصقلاوية وجرف الصخر وبزيبز وغيرها يُتّهم بالإرهاب، أو بدعمه، وهذه معادلة
ظالمة يفترض الكفّ عنها والقبول بالأمر الواقع والمتمثّل بحصول عمليّات انتقام مُمَنهجة
من بعض الأشخاص والقوى المالكة للسلاح، وبالتالي محاولة التهرّب من هذه المسؤولية
القانونيّة والأخلاقيّة والشرعيّة سيزيد من تعقيد هذا الملفّ المعقّد أصلا!
ومِن أخطر نتائج قضيّة المُغيَّبين فضلا
عن مصيرهم المجهول هو أنّ بعض عوائلهم تَدور، ومنذ سنوات، في دوّامات قاتلة، وهم
يبحثون عن ذويهم وسط دهاليز السجون العلنيّة والسرّيّة المظلمة!
يُفترض تشكيل لجنة وطنيّة ودوليّة محايدة
تسعى لحسم هذا الموضوع الدقيق بعيدا عن الاتّهامات المُسبّقة، ومعرفة مصير المُغيَّبين،
وإنصاف ذويهم، وتقديم جميع الجناة للعدالة، وإلا فإنّ هذا الملفّ بركان قاتل
سينفجر في أيّ لحظة، وحينها لا ينفع الندم!
سياسات تغييب الناس وتضييع أثرهم لا تساهم
في نشر السلم المجتمعيّ وبناء الوطن، وهي من الجرائم التي لا تسقط بالتقادم!
twitter.com/dr_jasemj67