الكتاب: قدوم الإقطاع الجديد -تحذير إلى
الطبقة الوسطى العالمية
الكاتب: جويل كوتكين -ترجمة:د.نايف الياسين
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق،
الطبعة الأولى 2023، (373 صفحة من القطع الكبير).
في قراءة تماثلية بين الإقطاع الذي كان
سائدا في القرون الوسطى في أوروبا، حيث كانت سلطة النبلاء في النظام الإقطاعي قد
سُوّغت من خلال قوة الدين والعادة، وبمباركة من الكنيسة والكهنوت، فإنَّ الإقطاع
الجديد الناتج عن سيطرة العولمة الليبرالية المتوحشة، في البلدان ذات الدخول
المرتفعة على الأقل، وكما في العصور الوسطى، فإنَّ هذا يتطلب فرض عقيدة سائدة، من
شأنها أن تطبع وتسوّغ بنية طبقية صارمة.
يسعى هؤلاء إلى استبدال القيم البورجوازية
المتمثلة في تقرير المصير، والأسرة، والمجتمع، والأمة بأفكار تقدمية حول مزايا
العولمة، والاستدامة البيئية، وأدوار النوع الاجتماعي بعد إعادة تعريفها، وسلطة
الخبراء. وتغرس هذه القيم من خلال هيمنة الكهنوت الجديد على مؤسسات التعلم العالي
ووسائل الإعلام، بمساعدة من سيطرة الأوليغارشية على تكنولوجيا المعلومات والقنوات
الثقافية.
وتتمثل إحدى تبعات النزعات الاقتصادية
الراهنة في تنامي التشاؤم في جميع بلدان العالم مرتفعة الدخل، فنصف الأوروبيين
يعتقدون أن الأجيال القادمة ستعاني من ظروف اقتصادية، أسوأ مما عانوا هم، طبقا لمركز بيو للأبحاث في فرنسا تهيمن النظرة التشاؤمية بمعدل 7 إلى 1، كما باتت النزعة
التشاؤمية بادية في المجتمعات المتفائلة عادة، مثل أستراليا (64 في المئة) كندا (67
في المئة)، والولايات المتحدة (57 في المئة). على وجه الإجمال، وجد بيو أن 56 في
المئة سكان الاقتصادات المتقدمة يعتقدون أن وضع أبنائهم سيكون أسوأ من وضعهم".
كما يزداد التشاؤم في شرق آسيا، التي كانت
الدينامو الاقتصادي في الحقبة الراهنة. ففي اليابان يتوقع ثلاثة أرباع الذين شملهم
المسح أن تكون الأوضاع أسوأ بالنسبة للجيل القادم، وهذا التوقع يطغى أيضا في
بلدان ناجحة مثل تايوان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية." لدى كثير من الشباب في
الصين ما يدعوهم للتشاؤم؛ ففي عام 2017، دخل ثمانية ملايين خريج جامعي إلى سوق العمل، ليجدوا أنهم يستطيعون الحصول على رواتب، كان يمكنهم أن يحصلوا عليها لو ذهبوا للعمل
في مصنع مباشرة بعد إكمالهم تعليمهم الثانوي.".
سيهدد تقلص عدد السكان في الدول المتقدمة النمو الاقتصادي، من خلال الحد من حجم القوى العاملة، وسيقوّض قابلية دولة الرفاه للحياة ماليا"، ويعد هذا أحد أسباب قبول الحكومات الغربية بمستويات مرتفعة من الهجرة من الدول الأفقر، التي تستمر بإنتاج أعداد أكبر من الأطفال مما تفعله الدول الأكثر ثراء.
تتمثل علامة أخرى على التشاؤم في تراجع
معدلات الولادة، ولا سيما في الدول مرتفعة الدخل. ففي أوروبا كما في اليابان، وحتى
في الولايات المتحدة التي كانت فيما مضى خصبة نسبيا، فإنَّ معدلات الخصوبة تقترب
من أدنى مستوياتها تاريخيا، رغم أن النساء الشابات يعبرن عن رغبتهن في أن يكون
لديهن عدد أكبر من الأطفال." لهذا الركود الديموغرافي، الذي يشكل وجها آخر
من أوجه العودة إلى القرون الوسطى تفسيرات مختلفة، بما في ذلك ارتفاع مستويات
مشاركة النساء في قوى العمل والرغبة بالتمتع بوقت فراغ أطول. الأسباب الأخرى
اقتصادية، بما في ذلك نقص مساكن العائلات بكلفة مقبولة.
بنت الرأسمالية الليبرالية في أوج قوتها
مساحات كبيرة من المساكن ذات الكلفة المقبولة للطبقة الوسطى الصاعدة وللطبقات
العاملة، في حين أن الإقطاع الجديد، يقيم عالما يتضاءل باستمرار عدد سكانه
القادرين على تحمل كلفة امتلاك منازل. لقد أضعفت نزعة التوقعات المتضائلة الدعم
للرأسمالية الليبرالية، حتى في الدول ذات النظم الديمقراطية الراسخة، ولا سيما في
أوساط السكان الأصغر سنا"، فهؤلاء أكثر من السكان الأكبر سنا، يفقدون
الثقة في الديمقراطية، ليس في الولايات المتحدة وحسب، بل أيضا في السويد،
وأستراليا، وبريطانيا العظمى، وهولندا، ونيوزيلندا، فالأشخاص الذين ولدوا في
سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، باتوا أقل معارضة للأشكال غير الديمقراطية
لفرض السلطة، مثل الانقلابات العسكرية من أولئك الذين ولدوا في ثلاثينيات القرن
العشرين؛ ثلاثينياته، وأربعينياته، وخمسينياته.
اليوم، ثمة تحوُّل وابتعاد عن الليبرالية
الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، والحكام المستبدون يَحكمون سيطرتهم على السلطة
في دول بدت سابقا أنها على مسار تحرري ـ شي جينبينغ وفلاديمير بوتين في
روسيا، في دول أكثر ديمقراطية، نستطيع أن نرى توقا جديدا لوجود رجل قوي ـ مثل
دونالد ترامب المتبجح والوقح في كثير من الأحيان، ومعادلين له في أوروبا، وبعضهم
أكثر سلطوية من الناحية الوظيفية. كثير من الناس الذين يفقدون الثقة في آفاق
الحرية، يتطلعون إلى حام أبوي بدلا من ذلك. ويصعد القادة السلطويون في كثير من
الأحيان من خلال استحضار أمجاد متخيلة للماضي وإثارة مشاعر الاستياء؛ القديم منها
والجديد. في نهاية الحرب الباردة، بدا العالم متحركا على "قوس" طبيعي
إلى مستقبل أكثر ديمقراطية، في حين أن نظام العالم الجديد اليوم أصبح ربيعا واعدا للديكتاتورية".
يقول المؤلف جويل: لم يكن مسار النظام
الإقطاعي في العصور الوسطى دائما دون تحديات؛ إذ كان هناك انتفاضات فلاحية بين
الحين والآخر، وفي بعض الأحيان يقودها معارضون متدينون. فهل يمكن أن نرى نوعا من
الانتفاضة داخل الطبقة الثالثة اليوم؟ ما يزال يمكن للعامة الحديثة أن تُظهر مقاومة، إلا أن طبقة "الأقنان" التي تزداد اتساعا، والتي لا تملك
شيئا ولا مصلحة لها في النظام، يمكن أن تكون أكثر خطورة بكثير على الأنظمة
المهيمنة.
كحال ثوريي عام 1789، فإنَّ كثيرا من أفراد
الطبقة الثالثة اليوم تملؤهم مشاعر الاشمئزاز من عجرفة الطبقات العليا ونفاقها في
الأوقات ما قبل الثورية، كان أفراد الطبقة الأرستقراطية وكبار الكهنوت في فرنسا
يعظون بالإحسان المسيحي، بينما ينخرطون هم أنفسهم في الشراهة والمغامرات الجنسية،
والإنفاق المسرف. اليوم، يرى كثيرون في الطبقتين الوسطى والعاملة الأثرياء
يستعرضون تقاهم البيئي بمنح صكوك غفران "خضراء"، من خلال نقاط الاعتماد
الكربونية والتصاميم الأخرى الموحية بالفضيلة، في حين أن هذه السياسات
"المستنيرة" تفرض تكاليف مرتفعة بشكل مفرط على الطاقة والسكن بالنسبة
للأقل ثراء،."تستجيب العناصر المستلبة من الطبقتين الوسطى والعاملة، بما يمكن
أن يشبه بتمرد فلاحي حديث. ويمكن أن يُرى ذلك في سلسلة من عمليات الاقتراع الغاضبة
والاحتجاجات ضد السياسات التي تطرحها طبقتا الكتبة والأوليغاركية – بشأن التغير
المناخي، والتجارة العالمية، والهجرة. وعُبّر عن هذا الغضب في انتخاب الرئيس
ترامب، وفي دعم بريكست، وفي نشوء أحزاب شعبوية في جميع أنحاء أوروبا".
قد لا يكون هذا التمرد واضحا في أي مكان
أكثر ما هو واضح في فرنسا؛ فثمة أغلبية واضحة من الشعب الفرنسي ترى في العولمة
تهديدا، في حين أن معظم المديرين التنفيذيين، وكثير منهم تدربوا في مدارس النخبة،
يرون فيها "فرصة"." وفي صدى لعام 1989، فإنَّ ما يسمى السترات
الصفر تظاهروا ضد ضرائب أعلى على البنزين في شتاء عام 2018 ـ 2019 بدأت الاحتجاجات
في المدن الصغيرة، لكنها انتقلت بعدها إلى ضواحي باريس."(ص23).
في الولايات المتحدة، دفعت الاضطرابات في
أوساط الطبقة الثالثة إلى نقاشات في أوساط الأوليغارشية والكتبة بشأن توسيع نطاق
دولة الرفاه الاجتماعي، من خلال الدعم والدفعات النقدية المباشرة للجماهير، على
أمل تفادي تمرد أولئك الذين لم يعودوا يرون إمكانية لتحسين أوضاعهم. لكن هل سيكون
ذلك كافيا؟
لقد أضعفت الرأسمالية الليبرالية النظام
الإقطاعي وفككته، الأمر الذي سمح بظهور طبقة وسطى قوية، وأحدثت الممارسات الزراعية
الأكثر كفاءة النمو في اقتصادات راكدة، كانت غالبا تعود بالفائدة على أولئك الذين
يرثون الأرض ويستفيدون من ريعها، ورفعت من مكانة مالكي الحيازات الزراعية الصغيرة
مثل المزارعين الإنكليز، ومكنت التقانات الحديثة، وتوسع التجارة، والأفكار
الجديدة، والمؤسسات الناشئة من تحويل المجتمع الإقطاعي على نحو جذري، وفي الحالات
التي ظلت فيها الامتيازات الطبقية كما هي على قاعدة متحولة، ولا سيما في فرنسا،
شنت الطبقة الثالثة هجوما عنيفا على آخر معاقل ومظاهر الإقطاع".
الصين تتحدى النموذج الليبرالي
يمثل صعود الصين مؤخرا، تحديا جديا للرأسمالية الليبرالية الأمريكية المتوحشة كنموذج للمستقبل العالمي، فقد نمت حصة
الصين من الإنتاج الاقتصادي العالمي نموا جذريا، من 4 في المئة في عام 1990 إلى ما يتوقع
أن يكون 21 في المئة في عام2022. وحتى لو تباطأ هذا التقدم بسبب عوامل ديموغرافية،
وبيئية وغيرها، من المرجح أن تعيد الصين تشكيل جزء كبير من المستقبل الاقتصادي
العالمي بنموذجها للرأسمالية التي توجهها الدولة الوطنية، أو "الاشتراكية
بخصائص صينية"، وفق تعبير الزعيم الراحل ومؤسس الصين الحديثة دين شياوبينغ.
يحدث صعود الصين خارج ميدان القيم
الرأسمالية الغربية المعيارية، على عكس اليابان في أواخر القرن العشرين، فإن الصين
لم تقبل توجهات الحضارة الليبرالية، مثل الحقوق الفردية والحقوق السياسية والحق في
الملكية. بدلا من ذلك، طوّرت بديلا للرأسمالية الليبرالية، ولا تغرس مبادئها في
سكانها وحسب، بل تصدرها إلى الجامعات والحكومات في جميع أنحاء العالم.
يمثل صعود الصين مؤخرا، تحديا جديا للرأسمالية الليبرالية الأمريكية المتوحشة كنموذج للمستقبل العالمي، فقد نمت حصة الصين من الإنتاج الاقتصادي العالمي نموا جذريا، من 4 في المئة في عام 1990 إلى ما يتوقع أن يكون 21 في المئة في عام2022.
يحتوي نموذج الصين الجديد للرأسمالية أوجها معادية بعمق لليبرالية، بما في ذلك شعور متمايز بالتراتبية الاجتماعية، ووجود دولة
مركزية استبدادية، وأيديولوجيا مفروضة وسيطرة على الفكر، رغم الالتزام الرسمي
بالمساواة الماركسية والماوية، فإن الصين تعزز اليوم نظاما طبقيا تراتبيا، مع
قيام نخب أعمال قوية وحلفائهم في الحكومة ببناء نظام قائم على امتيازات طبقية
دائمة. تستعمل الدولة تكنولوجيا أكثر تدخلا في حياة الناس لفرض رقابة صارمة، مع
وجود حمايات قليلة للخصوصية. ويشير أحد المحللين إلى أنه "إذا كانت الولايات
المتحدة قد سعت لوقت طويل إلى جعل العالم آمنا من أجل الديمقراطية، فإن القادة
الصينيين يسعون إلى إيجاد عالم آمن للاستبداد".
مع تصاعد قوة الصين، أصيبت معظم اقتصادات
الدول المتقدمة بالركود، فبعد فترة من التوسع السريع، تباطأ النمو الاقتصادي في
الدول المتقدمة الكبرى، مع استثناء أحيانا للولايات المتحدة، إلى معدل لا يزيد
على نصف ما كان عليه قبل جيل. ويشكل تباطؤ النمو السكاني، ولا سيما في البلدان
ذات الدخول المرتفعة، ملمحا آخر من ملامح الركود المجتمعي. في أوروبا، كانت
معدلات الولادة المنخفضة شائعة على مدى نصف قرن تقريبا. ويتوقع أن ينخفض عدد سكان
أوروبا من 738 مليون إلى نحو 482 مليون بحلول عام2100. وسيبلغ عدد المتقاعدين في
ألمانيا المتقلصة عندها أربعة أضعاف عدد الأطفال تحت سن الخامسة عشرة".
يقول المؤلف جويل: "يتوقع أن يبدأ عدد
سكان الصين بالتراجع أيضا. بحلول عام 2050، يتوقع أن يكون عدد سكانها تحت سن
الخامسة عشرة أقل بـ 60 مليون نسمة، وهي خسارة تعادل العدد الكلي لسكان إيطاليا
تقريبا. وفي الوقت نفسه، سيكون في الصين نحو 190 مليون نسمة بعمر 65 فما فوق، ما
يساوي تقريبا عدد سكان الباكستان، رابع أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، ويتوقع أن تبلغ حينئذ نسبة المتقاعدين إلى السكان العاملين في الصين أكثر من ثلاثة
أضعاف، وهو ما سيشكل واحدا من أسرع التحولات الديموغرافية في التاري.."
ستعيد النزعة الديموغرافية العالمية صياغة
الاقتصادات والمجتمعات المتقدمة. اليوم، تعيش أغلبية سكان العالم في بلدان تنخفض
فيها معدلات الخصوبة عن مستوى الاستبدال."، وسيرتفع هذا العدد إلى 75 في المئة
بحلول عام 2050، طبقا للأمم المتحدة؛ ويمكن لكثير من المجتمعات، بما فيها بعض
مجتمعات العالم النامي، أن تتوقع شيخوخة متسارعة لسكانها وانخفاضا حادا في أعداد
القوى العاملة."، ويمكن للنمو السكاني العالمي أن يتوقف تقريبا بحلول عام
2040، على حد زعم وولفغانغ لوتز (Wolfgang
Lutz)، وأن يبدأ بالانخفاض بحلول عام
2060" (ص37).
سيهدد تقلص عدد السكان في الدول المتقدمة
النمو الاقتصادي من خلال الحد من حجم القوى العاملة، وسيقوّض قابلية دولة الرفاه
للحياة ماليا"، ويعد هذا أحد أسباب قبول الحكومات الغربية بمستويات مرتفعة
من الهجرة من الدول الأفقر، التي تستمر بإنتاج أعداد أكبر من الأطفال مما تفعله
الدول الأكثر ثراء.
بين الآن وعام،2050، يُتوقع أن يحدث نصف نمو عدد السكان
عالميا في أفريقيا"، ويمكن لازدياد عدم التوازن الديموغرافي بين الدول
الأفقر والأغنى أن يتسبب بالمزيد من الاضطرابات في كلتا المنطقتين، وأن يؤدي إلى
الانتقام من الهجرات الواسعة التي فعلت الكثير في مجال تقويض الإمبراطوريات القديمة
في أوروبا وآسيا. وقد باتت الصراعات الاجتماعية الناجمة عن المستويات المرتفعة
للهجرة من الدول الأفقر أصلا، ملمحا بارزا في السياسة الغربية، ويبدو من المرجح
أن تترسخ في العقود القادمة.
اقرأ أيضا: الرأسمالية الليبرالية المتوحشة تعيد إنتاج الإقطاع في العالم.. قراءة في كتاب