من العصبية إلى العصابة في الجمهورية الجديدة.. مفاهيم ملتبسة (66)

لا تزال حادثة طائرة التهريب المصرية المحتجزة في زامبيا لم تنته، ولا تزال ألغازها لم تكشف عن نفسها بعد، رغم التطورات المكثفة التي حدثت، ولكن فيما يبدو أن الأمر ازداد غموضا وتعقيدا. إلا أن ذلك لا يعني عدم محاولة فهم هذه الحادثة وتحليل السياقات المحيطة بها في الداخل والخارج، وما يرتبط بها من علاقات وتفاعلات وتشابكات.

وقد تكون العودة إلى بعض الأطر النظرية والمنهجية مفتاحا لهذا الفهم وذلك التحليل، خاصة إذا ما كانت هذه الأطر من تراثنا وذاكرتنا الحضارية، ومنها الإسهامات العلمية والمنهجية التي تركها لنا العلامة ابن خلدون ونظريته المتميزة "العصبية". ونحن في ذلك نستند إلى ما تسرب عن حادثة الطائرة من أن "السلطات الزامبية عرفت بموضوع الطائرة من خلال بلاغ وصل إليها من جهة مجهولة". هذه العبارة المفتاحية يمكن الاعتماد عليها في عملية التحليل والفهم والتفسير لهذه الحادثة المعقدة.

باديْ ذي بدء لا يمكن تجاهل ما يتردد عن وجود صراعات أو نزاعات أو توترات بين الأجهزة الأمنية، ونحن وإن كنا لا نقطع بذلك أو نتبناه إلا أنه في الوقت نفسه لا يمكننا استبعاده بالكلية، ومن ثم فتلك محاولة للتحليل والتفسير من خلال نظرية العصبية لابن خلدون، في ظل البيئة المحيطة من العسكرة وصناعة مجتمع العسكر (مجتمع المساندة) والمعتمدة في ذلك على الهيمنة الاقتصادية والسيطرة على مقدرات وموارد البلاد، وتوزيع الأدوار مع الحرص على تهميش المدني ودوره في الحياة العامة على وجه العموم وفي القطاع الاقتصادي على وجه الخصوص؛ إلى الحد الذي قد يصل إلى حد الإهانة والاستهانة والمهانة، ومن ثم فإن الاعتراف بالعصبية والعصبة والعصابة، ومحاولة فهم كيفية تشكيل القطيع وعلاقة السيد بالعبد (التشكيلات العسكرية والتشكيلات المجتمعية)، ودور العسكر وجهودهم في عمليات السيطرة والهيمنة من أهم الأمور المفتاحية لفهم منظومة الثالث من يوليو والقضايا المتورطة فيها بما فيها قضية الطائرة المحتجزة.

لا يمكن تجاهل ما يتردد عن وجود صراعات أو نزاعات أو توترات بين الأجهزة الأمنية، ونحن وإن كنا لا نقطع بذلك أو نتبناه إلا أنه في الوقت نفسه لا يمكننا استبعاده بالكلية، ومن ثم فتلك محاولة للتحليل والتفسير من خلال نظرية العصبية لابن خلدون، في ظل البيئة المحيطة من العسكرة وصناعة مجتمع العسكر (مجتمع المساندة) والمعتمدة في ذلك على الهيمنة الاقتصادية والسيطرة على مقدرات وموارد البلاد، وتوزيع الأدوار مع الحرص على تهميش المدني ودوره

وفي هذا الإطار لا يمكننا الانطلاق إلى عملية التحليل دون تصور مفتاحي للمفاهيم الأساسية المرتبطة بهذه النظرية؛ فالعصبية هي أساس اللُحمة، والعصبة هي الجماعة والتجمع، والعصابة هي الأسلوب في إدارة الموارد والمصالح، والتعصب هو حركة التحالف والموالاة، والعصاب الجماعي هو المرض الجمعي المزمن.

إن تأمل هذه المفاهيم والنظر العميق إليها يكتشف أنها تنطبق بصورة دراماتيكية على الوضع الحالي للأجهزة الأمنية في مصر، فهناك حالة من العصبية الأمنية التي تشكل أساس التفاعل بين هذه الأجهزة التي تتعامل على أساس أنهم عصبة متماسكة بينها تحالف وموالاة، وأن المجتمع والشعب هما الخصم وربما العدو المحتمل أو هما الجماهير المعصوبة ضمن صناعة القطيع المَسوق؛ حيث يفترض ابن خلدون -كما رصد ذلك العديد من الباحثين- أن كل جماعة هي بصورة فطرية ذات توجه عدواني تجاه الجماعات الأخرى، تماما كما يتصرف الأفراد بصورة عدوانية تجاه بعضهم بعضا، وأنها -أي العصبية- ترد إلى الفطرة العمياء من أجل الحاجة إلى الأعوان للسيطرة، وتستظهر في ذلك على وسائل ثلاث؛ هي الموالي المصطنعين الذين نشأوا في ظل العصبة (قوى المساندة والدعم)، والعصائب الخارجين الداخلين في ولايته (محاضن العصبية والعصابة)، والجند المرتزقة المستخدمين بالأجرة (القوة الباطشة)، كما أن الصراعات التي تنشأ دوافعها الطمع وحب الاستحواذ والتوسع (تقاطع المصالح وصراعات النفوذ وأجنحة السلطة).

هكذا تحتكم منظومة الثالث من يوليو وتحكم من قبل العصبة المتغلبة، ولكن قد يقول البعض إن مصر في الوقت الراهن دولة حديثة ولا تنطبق عليها نظريات ابن خلدون، وأنها كيان سياسي تنطبق عليه نظرية الدولة بأنها سيادة وحكومة وشعب وأرض لها حدود واضحة ومعروفة، ولكن نقول إن هذا لا يمنع أن يستدعي النظام الحاكم عصبية قديمة أو يخترع عصبية جديدة تعمل في خدمته يعمل من خلالها على تهميش الدولة التي تتحول نخبتها المسيطرة إلى جماعة من الجماعات، وتتولد على إثر ذلك هويات سياسية حزبية أيديولوجية أشبه بالعصبيات للجماعات المتخيلة، أي بخلق هويات جديدة تقسم المجتمع عموديا، وهو الأشد خطرا، خاصة وأن مثل هذه الانقسامات كانت هذه المنظومة حريصة عليها من اليوم الأول، وبرز ذلك في تبنيها لسردية "أنتو شعب واحنا شعب.. ليكو رب ولينا رب"، إضافة إلى توفيره كل المزايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لصالح جماعته وعصبته لتمكينهم من المجتمع؛ إلى الدرجة التي باتوا فيها يمارسون العدوان والاعتداء الفردي على المواطنين دون رادع قيمي أو أخلاقي أو حتى قانوني طالما غابت المحاسبة، فمن أمن الحساب والعقاب أساء الأدب واستهان وفَجَر.

ومن هنا نجد أن هذه العصابة/ العصبة متعاونة فيما بينها إلى أقصى حد في مواجهة الشعب، وتقديم الحماية والرعاية بشكل عام لمنظومة الثالث من يوليو، إلا أن ذلك لا يعني أن بين هذه الأجهزة وئام تام، وسلام عام، ففي حقيقة الأمر ومن واقع العديد من الأحداث التي يمكن تأمل الشذرات والشرارات الصغيرة التي تصدر عنها؛ يتبين لنا توتر العلاقات بين الأجهزة وبعضها البعض في ظل ما بينها من التنافس والطمع.

ففي حادث "مقتل وإصابة أسرة مديني" سارعت وزارة الداخلية للتأكيد على أن الضابط المتهم لا ينتمي لها"، وقد نذهب أبعد من ذلك ونشير إلى ما تردد عن الحادث الأخير -حادث الطائرة- بأن هناك من سرب معلومة إلى الجانب الزامبي بشأن الطائرة، وهذا هو منطق العصابات في الأساس، فهي لا يمكن أن تستقر على حال في ظل عملها المستمر في الاستحواذ والنهب والاغتصاب والظلم.

إن حرص هذه المنظومة على إدارة الظلم من خلال هذه العصبية لن يدوم طويلا، ولن تستطيع أن تضبط ميزان العلاقات بين طوائفها الداخلية في مواجهة الشعب إلى ما لا نهاية، فعمليات الظلم البينية في تفاعل مستمر، وأن منطق العصبية نفسه هو الذي يؤكد على انهيارها وفشلها وسقوطها المتوقع والقريب.

المتأمل لحال مصر ومكانتها بين الأمم يكتشف مستوى التراجع الذي تعيشه على كافة المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، من قبل مسؤوليها الحاليين الذين لم يتورعوا عن المتاجرة باسمها، والعمل على الاستفادة المالية الشخصية دون حدود أو قيود، فلا يشغلهم إلا حماية عصابتهم وتأمين عصبتهم ورعاية عصبيتهم وتمكين عصابتهم

فنحن لا نقلل من أهمية التماسك الذي تتمتع به هذه المنظومة في مواجهة الشعب، واستقرار مشروعها الذي يبث الفرقة ويغذي الانقسام وينشر الاستقطاب بين ربوع الوطن وقواه السياسية والمجتمعية والدينية والثقافية، ويعمل بكل ما لديه من قوة على إدامة هذه الحال ورعايتها وحمايتها. ولكن هناك متغيرات أخرى في هذه المعادلة، المتغير الأول والأساس هو منطق التاريخ الذي يؤكد أن مثل هذه الأنظمة التي تقوم على الظلم وتمتهن القتل لن تعيش إلى الأبد، وأن انهيارها وشيك. المتغير الثاني هو منطق العصبية وأن الانهيار سيأتي من داخلها، خاصة وأنها وصلت إلى مرحلة من الاستهتار والاستهانة بمقدرات الوطن ومكانته إلى الحد الذي تعامله وكأنه الخصم أو العدو المحتمل، وباتت تتعامل مع جميع الأجهزة والمؤسسات كأنها شريكة معها وتتحمل مسؤولية هذا الانهيار، في الوقت الذي تعمل لصالح فئة صغيرة داخل هذه المؤسسات، تعمل جاهدة على تأمين مستقبلها وأمنها وأمانها.

إن المتأمل لحال مصر ومكانتها بين الأمم يكتشف مستوى التراجع الذي تعيشه على كافة المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، من قبل مسؤوليها الحاليين الذين لم يتورعوا عن المتاجرة باسمها، والعمل على الاستفادة المالية الشخصية دون حدود أو قيود، فلا يشغلهم إلا حماية عصابتهم وتأمين عصبتهم ورعاية عصبيتهم وتمكين عصابتهم؛ معتمدين في ذلك على نشر العصاب في المجتمع ومؤسساته، هذه المؤسسات هي نفسها التي ستتحمل هذه الكوارث في المستقبل القريب عندما تنظر إلى داخل المجتمع فتجد نفسها تنظر إلى بئر سحيقة من الفساد والإفساد، والفشل والعجز؛ والاستبداد الذي تحول الى حالة فاشية، ولن تغنيها محاولات الاستدراك في حينها لأن الأمور ستكون خارج نطاق طاقتها وقدراتها وفات وقتها.

ولكن هذا لا يعني أن نتوقف عن المطالبة بالإصلاح والتغيير، ولكن هذه الطريق تبدأ من المجتمع. وعلى هذه المؤسسات أن تدرك ذلك، وأن تدرك التعدي على المجتمع والخصومة معه وربما عداوته، وعليها أن تدرك أن عصبية العصابة محكومة بالانهيار والسقوط طالما اعتمدت على القوة الباطشة والطائشة؛ ذلك أن المؤسسة السوية غير معنى العصابة الفاقدة للأهلية والشرعية.

twitter.com/Saif_abdelfatah