تأتي
الذكرى العاشرة على فض اعتصام
رابعة، لتعيد إلى النفس ذكريات وشجونا لا يمكنها أن
تمحى من الذاكرة، خاصة أنّ آثارها لا تزال حاضرة وضاغطة على عشرات الملايين من
المصريين، فلا يزال الآلاف معتقلين من يومها، ولا يزال المصريون يعيشون تحت وطأة
الفقر والعوز والظلم، بعد عشر سنوات من عمر الانقلاب الذي مرّ على جثث المصريين وأشلائهم
يوم الفض وما سبقه وما لحقه.
هذه
الشهادة هي تاريخ أسجله للأجيال القادمة؛ لعله يكون فيه الفائدة والنفع فلا تتكرر
المأساة، فمن تعلم التاريخ حافظ على حاضره ومستقبله.
مع
بدء اعتصام رابعة، احتاج تحالف دعم الشرعية الذي كان يقود الاعتصام ويقود المواجهة
مع الانقلاب، إلى عقد عدة جلسات استشارية مع مجموعات متخصصة في مجالات عدة ومن شتّى
الاتجاهات، حضرتُ في إحدى هذه اللقاءات مع مجموعة من أساتذة العلوم السياسية وخبراء
الشؤون الاستراتيجية للإجابة عن تساؤل وحيد: ما العمل لإسقاط الانقلاب؟ أو كيف
ندير المواجهة معه؟
قلتُ
لأحد قادة التحالف الجالسين أمامي، الذي يمثل فصيلا مهما فيه: لكي نبني تصورا استراتيجيا
للمواجهة، أحتاج إلى معلومات عن الوضع الحالي تفيدني في فهم أبعاد ما نواجهه، وفي
نفسي كان السؤال لفهم أبعاد ما لدى التحالف من قدرات، فقلت له: هل هناك تظاهرات
وصلت إلى المليون في أعداد المشاركين خلال فترة الاعتصام؟
فقال
لي: نعم، وصلنا ثلاث مرات إلى متوسط ١-٢ مليون في القاهرة، قلت له: كتلة واحدة أم أكثر،
قال لي: كتلتان أو ثلاث أو أكثر، قلت له: أين كانت مواقع التظاهر؟ قال لي: أمام كل
الأماكن السيادية في الدولة؛ أجهزة الأمن والمخابرات والحرس الجمهوري ومجلس الوزراء
وغيرها، قلت له نصا: وماذا فعلتم بهذه الحشود الهادرة أمام هذه الأجهزة السيادية؟
قال
لي: لم نفعل شيئا، قلت له متغابيا: لم تفعل شيئا لأنك لديك خطة أخرى، أم إنّك لم
تفعل شيئا لأنك لا تعرف ماذا تفعل؟
فقال
لي محرجا: الثانية، فقلت له مندهشا: أنت أمام مؤسسات الدولة التي تملكها كسلطة
منتخبة ورئيس منتخب ومحتجز داخل الحرس الجمهوري ولا تعرف ماذا تفعل؟! قال لي: لقد
فوجئنا بالأعداد الهائلة من الحشود، ولم نعرف ماذا نفعل بها!!
قلت
له: فلماذا أخرجتهم إذا؟ ولماذا تحشد فيهم على منصة رابعة وتكلمهم عن الشهادة
والجنة والثبات والتضحية ونحو ذلك؟! فلم أتلق ردا. وبهذا تنتهي الشهادة الأولى.
الشهادة الثانية: ليلة الفض، كنت قد خرجت لأمر ما
خارج الاعتصام، وعدت نحو الثانية عشرة ليلا إلى خيمتي، فشاهدت حالة من الهرج والمرج
والتأهب، فذهبت إلى أحد القادة الميدانيين المسؤولين عن تنظيم الاعتصام وسألته عن
سرّ ما أراه، فقال لي: هناك معلومات شبه مؤكدة أن الفض سيتم بعد الفجر، خلال
الساعات القادمة، فقلت له: وماذا أعددتم لذلك؟ فقال لي نصّا: "سينام نصف
المعتصمين؛ لأن هناك تظاهرات في الصباح أمام المباني الحكومية للدولة، والنصف الآخر
سيقوم بحراسة بوابات الاعتصام وصد أي هجوم عليها".
كنّا أمام حالة من الارتباك الكامل، وأن الاستراتيجية الوحيدة هي الانتظار، عسى أن تسفر الاتصالات الدولية عن شيء، وكان قادة الاعتصام رغم إخلاص غالبيتهم للقضية ونضالاتهم في سبيل حرية الوطن طوال حياتهم، لا يمتلكون القدرة النفسية الكافية -إلا من رحم ربي- على التعامل مع تحد بهذا الشكل.
فقلت له وقد أصابني الذهول مما أسمع: "ينام
نصف المعتصمين!!! كيف هذا؟ هل تظن أنه سيبقى حجر أوشجر أو بشر إذا كان الجيش قادما
للفض؟!! إذا كان الفض خلال ساعات، فسيتم محو هذا المكان من على الخريطة بمن فيه".
وحتى أدلل على جدية ما أقول، حملت أوراقي المهمة وحقيبة الحاسب المحمول وقلت
سأضعهم في المركز الإعلامي (مبني أسمنتي ملحق بمسجد رابعة)؛ لأن الخيمة التي نقف
فيها الآن ستحترق ويتم تجريفها، فنظر إلي مشدوها متوترا وقال لي: لا تخبر أحد برأيك
هذا، حتى لا نتسبب بالبلبلة بين المعتصمين.
فقلت له: احمل رأيي هذا إلى المسؤولين عن
الاعتصام، حتى لا تحمل وزر هؤلاء الناس، وكتبت ليلتها على حساباتي الشخصية على
منصات التواصل؛ إننا ننتظر الفض بعد قليل، إبراء للذمة، ولا تزال هذه التغريدة
موجودة كما هي لمن يريد التأكد. وطبعا حدث الفض أسوأ مما توقعت وانتهى اليوم
بإصابتي برصاصة غادرة في ظهري نحو الخامسة عصرا، ونجاني الله من الموت بأعجوبة بعد
المرور بنحو ١٢ كمين مع الإخوة الكرام الذي حملوني مصابا حتى كتب الله لي النجاة.
لقد
كنّا أمام حالة من الارتباك الكامل، وأن الاستراتيجية الوحيدة هي الانتظار عسى أن
تسفر الاتصالات الدولية عن شيء، وكان قادة الاعتصام رغم إخلاص غالبيتهم للقضية ونضالاتهم
في سبيل حرية الوطن طوال حياتهم، لا يمتلكون القدرة النفسية الكافية -إلا من رحم
ربي- على التعامل مع تحد بهذا الشكل، فغالبيتهم الساحقة أطباء ومهندسون ورجال
أعمال ومهنيون من تخصصات مختلفة، تنتهي قدرات أغلبهم عند عمل برلماني أو إدارة
نقابة مهنية أو لقاءات تربوية أو محاضرات تثقيفية أو نحو ذلك.
لكن
صراعات جدية تقوم على أسنة الرماح وفوهات المدافع وحسابات دولية معقدة يتداخل فيها
الأمن القومي مع مصالح أجهزة سيادية واستخباراتية، فهذا أكبر من احتمال معظمهم ولم
يكن هذا منقصة فيهم مع العيش في ظل ديكتاتورية متأصلة كمصر لم تسمح لغير رجال
النظام باكتساب هذه الخبرات، لذلك كان البقاء على وهم الانتظار، أفضل لديهم من حقيقة
التحدي المٌرّة التي لا يقووا على مواجهتها.
هنا
قد يعترض معترض ويقول: لم يكن هناك خيارات أمامهم غير هذا الانتظار، وأحيل أصحاب
هذا الرأي إلى مقال قديم نشرته في موقع "
عربي٢١" تحت عنوان "
في ذكرى رابعة.. هل كان من الممكن اجتناب المجزرة؟"، الذي يجيب بشكل تفصيلي وواضح عن هذا التساؤل، وسأقتبس فقرة صغيرة منه هنا، توضح
فكرة أنه إذا كانت إمكانياتك العقلية والنفسية ومواردك غير مؤهلة لصراع كهذا، فلم
يكن ينبغي عليك خوضه، وإذا خضته ما كان يجب عليك الاستمرار فيه، خاصة وقد اتضح لك
في مجزرة المنصة والحرس الجمهوري التي وقعتا قبل فض رابعة، أنّه لا حدود للقتل وإراقة
الدماء لدى هذا السّفاح ورجاله. قلت في المقال: "وهنا، ننتقل إلى الخطأ الاستراتيجي الثالث، والقاتل كذلك، وهو
غياب الرؤية والاستراتيجية للتعامل مع الأزمة، رغم أنه كانت هناك سيناريوهات
متعددة للتعامل معها أنتجها عدد من الباحثين، وكنت واحدا منهم، لكن متخذ القرار لم
يجرؤ على تنفيذ أي منها، فلا هو قادر على المواجهة ولا قادر على الانسحاب؛ حتى لا
يخذل أنصاره ومؤيديه.
لكنْ، كان هناك طريق ثالث وسط، كان يمكن عن طريقه
اجتناب المجزرة، أو تقليل خسائرها في الأرواح للحد الأدنى، وهو الانسحاب التكتيكي
الذي يقيك المواجهة التي لست مستعدا لها، أو يظهرك وسط أنصارك بالمتراجع، كان يمكن
الإعلان عن نقل الاعتصام لمكان آخر لسحب الناس من الميدان. وبكل تأكيد لن يسمح لك
النظام بنقل الاعتصام، وتكون قد أنهيته دون إعلان ذلك، ويتفرق الناس. وحتى لو
استخدم العنف معهم، فسيكون بكل تأكيد محدودا؛ لأن اشتباكات الشوارع لا تسمح له
بالسيطرة الكاملة كما في حالة الاعتصام.
كان يمكن كذلك الخروج من الميدان بتظاهرات ضخمة
تسحب معظم المعتصمين من الميدان لأماكن مختلفة، وعندما يجد الأمن الميدان شبه فارغ، ستتم محاصرته ويمنع المتظاهرين من العودة إليه، ومن ثم تتفرق الجموع وتحقن
دماؤها، أو تقل خسائرها للحد الأدنى.
مواجهة الناس بالحقيقة المرّة، أهم كثيرا من أن تجعلهم يعيشون الوهم أو السراب اللذيذ، فالحقائق تضع الجميع أمام مسؤولياتهم وتترك للناس حرية اختيار ما يناسبهم، لكن الوهم اللذيذ يجعل الجميع أسرى لما ينتظرونه منك، فتتحمل وزرهم حين ينقشع السراب، وتـأتي الحقيقة تتسربل في الدماء.
هذه الحلول كانت ستحافظ على قوتك وتعيد انتشارها
في المحافظات، وتحقن بها كثيرا من الدماء، وتعطيك فرصة لاستكمال رؤيتك لمواجهة
الانقلاب".
في باقي المقال السابق، رددت على كل الحجج التي قد
تعترض على هذا الطرح، فيُفضل الرجوع إليه حتّى تكتمل الفكرة.
إن الغاية التي أرجوها من خلال هذا المقال، والتي
أتمنى أن تكون درسا مستفادا للأجيال القادمة في نضالاتهم من أجل الحرية والكرامة،
هي ألا تخوض معركة لا تملك أدواتها ولا إمكانياتها، وإذا فرضت نفسها عليك، فيجب
عليك أن تقدر حسابات الربح والخسارة فيها، فإذا ما استقر في يقينك أنّ الخسارة شبه
مؤكدة، فالانسحاب بأقل الخسائر حقنا للدماء هو الحل المٌرّ الواجب أحيانا، وقد فعله
سيدنا خالد سابقا، وتحدث عنه القرآن (إلا متحرفا لقتال)، فالانسحاب لا يعني
الاستسلام، ولكن يعني إعادة التموضع لإعادة الكرّة مرة أخرى بمعطيات مختلفة.
أيضا الدرس الأهم كذلك، أن مواجهة الناس بالحقيقة المرّة، أهم كثيرا من أن تجعلهم يعيشون الوهم أو السراب اللذيذ، فالحقائق تضع الجميع أمام مسؤولياتهم وتترك للناس حرية اختيار ما يناسبهم، لكن الوهم اللذيذ يجعل الجميع أسرى لما ينتظرونه منك، فتتحمل وزرهم حين ينقشع السراب، وتـأتي الحقيقة تتسربل في الدماء.
ولا تزال المعارضة المصرية حتى الآن -إلا من رحم
ربي- لم تتعلم الدرس ولا تزال تبحث عن بوصلتها التي فقدتها في الشارع المظلم، تبحث
عنها في شارع آخر مضيء، طلبا للأسهل والأريح لها وهروبا من استحقاقات البحث في
الشارع المظلم الذي تعلم يقينا أن البوصلة ضاعت فيه!!