تزداد المراهنات بين المؤيدين لترشيح
كامالا
هاريس وترامب على أيّ منهما يمكن أن يغير من طبيعة الصراع في المنطقة وخاصة
الحرب على
غزة، لكن ما يغيب عن وعي البعض أن العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان
الصهيوني مرّت بتمظهرات شتّى في الفكر والعقل الغربي منذ عدة قرون، وهو ما ظهر في
مجالات استراتيجية عدة، شكَّلت في مجملها العروة الوثقى للعلاقة بينهما. ويمكننا
في هذا المقال أن نتحدث في إطلالة موجزة عن البعد الديني العقدي كواحدة من أهم
النقاط التي شكّلت الوضع الحالي للعلاقة بينهما، وقد سبق أن تحدثت في دراسة سابقة
تحت عنوان "مستقبل العلاقات بين
إسرائيل والغرب بعد طوفان الأقصى" بشكل
موسع عن طبيعة ومآلات هذه العلاقة بين الطرفين.
الأيديولوجيا الصهيونية في المسيحية
الغربية:
يُشكل البُعد الديني منطلقا هامّا
لفهم العلاقة بين الطرفين، وهو ضارب في التاريخ لما بعد سقوط الأندلس على يد
الصليبيّين حيث عانى المسلمون واليهود من القمع والاضطهاد، فقد جرت محاولات عديدة من
قبل ملوك أوروبا وقتها لتنصير المسلمين واليهود في إسبانيا (وريثة الأندلس)
والبرتغال، فاعتنق عدد كبير منهم يقدر بالآلاف المسيحية ظاهرا، وحاول البعض منهم
المزاوجة بين المسيحية واليهودية خلال الفترة بين 1497 و1491م في محاولة لحماية
أنفسهم، وهو ما أدى إلى نشوء ما يعرف بالمسيحيين الجدد.
وهذه الظاهرة انتقلت إلى باقي دول
أوروبا، وأيضا من إسبانيا إلى القارة الجديدة (أمريكا)، لتتطور هناك مع الوقت إلى
الحركات البروتستانتية البيورتانية. ولاحقا، لعبت الولايات المتحدة دورا محوريا في
تهيئة الأرضية لنشأة الحركة الصهيونية اليهودية، حيث تؤمن هذه الحركات -التي
يُطلِق عليها البعض "الصهيونية المسيحية"، أو "الصهيونية غير
اليهودية"- بضرورة إعادة توطين اليهود في فلسطين، وبناء وطن قومي لهم في هذه
الأرض.
ستظل الهيمنة الأمريكية ودعمها المطلق للكيان قائمين خلال الفترة القادمة نظرا للعلاقة الدينية العقدية بينهما. ومن المهم هنا التذكير بأن بايدن وترامب من المؤمنين بالمسيحية الصهيونية ولديهما العديد من التصريحات والمواقف في هذا الجانب
وتستند هذه الأفكار إلى نبوءة دينية
تُفسر وجود "إسرائيل" في العهد القديم على أنه إشارة إلى دولة يجب
إنشاؤها في فلسطين. وقد اعتبرت هذه الحركات نفسها "العبرانيّين
الحقيقيّين"، وسَمّوا أنفسهم "أطفال إسرائيل في طريقهم إلى الأرض الموعودة".
ولكي يتم حشد الرأي العام الأمريكي
وراء هذه المعتقدات الصهيونية، تمَّ تسييس هذه الرؤية الدينية، فقاموا بتغيير
أسماء أبنائهم ومستوطناتهم الأولى في الولايات المتحدة إلى أسماء عبرية، وبدأوا
بإرسال بعثات استكشاف إلى فلسطين، ثم أقاموا المستوطنات اليهودية الأولى فيها منذ
منتصف القرن التاسع عشر.
دعم واشنطن للكيان سابق عن دور لندن
كذلك لعب القس وليام بلاكستون دورا
هاما في دعم الحركة الصهيونية، فأسس في عام 1887م في مدينة شيكاغو الأمريكية منظمة
"البعثة العبرية نيابة عن إسرائيل"، حيث اعتبرت هذه المنظمة أول
"لوبي" يعمل لمصلحة الصهيونية السياسية.
ظهرت نتائج هذه الجهود بعد ذلك، في
12 كانون الثاني/ يناير 1919م، حيث جاء في تقرير لجنة الخبراء الأمريكية إلى
الرئيس ويلسون ما يلي: "توصي اللجنة بإنشاء دولة منفصلة في فلسطين تحت
الانتداب البريطاني، ويتم توجيه الدعوة إلى اليهود للعودة إلى فلسطين والاستيطان
فيها وتقديم جميع المساعدات اللازمة والتي لا تتعارض مع الحفاظ على حقوق السكان من
غير اليهود"، وفق مصادر.
وبناء عليه، فإن فرضية أن واشنطن
ورثت دور لندن في دعم الكيان الصهيوني هي فرضية خاطئة تماما، حيث كان دعم الولايات
المتحدة السياسي متزامنا ومتوازيا مع بريطانيا، وإن اتخذ أشكالا مختلفة.
فرغم استراتيجية العزلة التي فرضتها
واشنطن على نفسها منذ تأسيسها وحتى ما يقارب منتصف القرن الماضي، إلا أن دعمها
لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين كان سابقا عن الموقف البريطاني ذاته.
لذلك أعربت واشنطن عن عدم معارضتها
للانتداب البريطاني، وقامت بتقديم اقتراحات لحل قضية اليهود. وعلى الرغم من شكوك
بعض المؤرخين حول علاقة روزفلت باليهود، إلا أن انتخاب 90 في المئة من يهود
الولايات المتحدة له يؤكد تبني الولايات المتحدة للقضية اليهودية حتى قبل قيام
"إسرائيل".
بعد تأسيس دولة الاحتلال، ورغم
اعتراف واشنطن الفوري بها، إلا أن علاقة الولايات المتحدة مع إسرائيل اتسمت حتى
حرب 1967 بالتحفظ والترقب، فتراوحت بين الفتور والبرود حينا، والدعم حينا آخر،
خشية فقدان الحليف العربي الذي يملك منابع الطاقة.
فلم تكن قد نضجت علاقة استراتيجية
واضحة بين البلدين خلال هذه الفترة، لكنها اعتمدت على عاملين رئيسين، هما تنامي
قوة إسرائيل في المنطقة العربية، وضغوط اللوبي الصهيوني في الداخل. وعلى قدر تفاعل
هذين العاملين كانت تجاذبات العلاقة بينهما، حتى جاء انتصار تل أبيب على الدول
العربية في نكسة ١٩٦٧م، لتلفت الانتباه لها جيدا، كحصان رابح يمكن الاعتماد عليه
في الحفاظ على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
مستقبل العلاقة بين الطرفين
وعليه ستظل الهيمنة الأمريكية ودعمها
المطلق للكيان قائمين خلال الفترة القادمة نظرا للعلاقة الدينية العقدية بينهما. ومن
المهم هنا التذكير بأن بايدن وترامب من المؤمنين بالمسيحية الصهيونية ولديهما
العديد من التصريحات والمواقف في هذا الجانب. أيضا يتوقع أن تزيد مزاحمة روسيا
والصين لواشنطن في نفوذها على المنطقة، وهو ما يظهر بشكل واضح في دعمهما لإيران ضد
إسرائيل بما لا يخفى على أحد. بالطبع هذا الدعم ليس حبا في إيران وليس ضد الكيان
الصهيوني، ولكنه محاولة لجرّ واشنطن إلى مستنقع الشرق الأوسط واستنزافها فيه، في
محاولة حثيثة لوضع نظام عالمي جديد تنتهي فيه هيمنة الولايات المتحدة على العالم.
قد يحدث تغير نسبي في موازين العلاقة
بينهما، ولكنه سيظل تأثيرا ثانويا في المنظور القريب، دون تغيير كبير أو نوعي في
أوزان الفعل والتأثير.
قد يجادل البعض باحتمال حدوث متغيرات
جذرية في بيئة الصراع، وهو ما لا ننفي احتمالية حدوثه في المنظور القريب، ولكن
قلنا إنها الأقل توقعا. فمثلا، اشتعال حرب أهلية في الولايات المتحدة على خلفية
خسارة
ترامب على سبيل المثال، أو توسع الحرب بين روسيا وحلف الناتو خارج نطاق
أوكرانيا،
هذه السيناريوهات جميعها تدخل في نطاق سيناريوهات (الانقطاع) في الدراسات المستقبلية، والتي تفترض حدوث تغير جذري مفاجئ في بيئة الصراع. ولكن الاعتماد على هذا النموذج التحليلي يجعلنا ندخل في دائرة لا تنتهي من الاحتمالات
أو دخول إيران في حرب مباشرة مع الكيان وواشنطن، أو انفجار الجبهة
اللبنانية مع حزب الله أكثر مما هو حاصل حاليا، أو انهيار مفاجئ للدولة المصرية
بشكل تترتب عليه فوضى كاملة في المنطقة، أو.. إلخ.
هذه السيناريوهات جميعها تدخل في
نطاق سيناريوهات (الانقطاع) في الدراسات المستقبلية، والتي تفترض حدوث تغير جذري
مفاجئ في بيئة الصراع. ولكن الاعتماد على هذا النموذج التحليلي يجعلنا ندخل في
دائرة لا تنتهي من الاحتمالات.
وعليه فقد رأينا الاكتفاء بالسيناريو
الأكثر أهمية، بناء على حقيقة واضحة للعيان، وهي أن جميع الأطراف المنخرطة في
الصراع إقليميّا أو حتى دوليّا لا تريد تصعيده إلى ساحة الحرب الشاملة، إمّا لأنها
غير قادرة على خوضها، أو لأنها لا تتحمل عواقبها. وبالتالي فسوف تظل أوزان القوى
بين اللاعبين الإقليميين أو الدوليين كما هي، مع تغيرات طفيفة، صعودا أو هبوطا، في
نطاقات التأثير بينهم في المنظور القريب.