أفكَار

تلازم الحرب والسلم وكلاهما عالمي بالجوهر.. مقدمات لقراءة المشهد الإفريقي

العولمة في الأصل كانت دائما المحدد لمجريات التاريخ كله بنفس هذا المعنى الذي أراد الإسلام تحرير البشرية منه.
العولمة في الأصل كانت دائما المحدد لمجريات التاريخ كله بنفس هذا المعنى الذي أراد الإسلام تحرير البشرية منه.
هدف المحاولة فهم ما يجري في إفريقيا حاليا وهل هو حركة تحرر كما قد يظن أم هو من جنس ما حصل عند العرب في النصف الثاني من القرن المنصرم أي الانتقال من التبعية للغرب أوسطه وأقصاه إلى الشرق أوسطه وأقصاه؟

لكن البحث في الإشكالية يقتضي مقدمة حول طبيعة الظاهرة التي لم تصبح بينة للبشرية إلا بفضل ثورة الإسلام التي تجاوزت تفسير التاريخ الإنساني بمنطق الجغرافيا السياسية أو حتى الحضارية واكتشاف منطق أعمق هو منطق وحدة المعمورة ووحدة محركات التاريخ الكونية بمقتضى بعدي الوجود الإنساني.

فما بعد الإنسان وكيف يحدد الوجود الإنساني؟

1 ـ البعد الأول: الاستعمار في الأرض محددا أساسيا لقيام الإنسان العضوي وهو رهن ما يستمده من مكان الأرض أي الهواء والماء والغذاء والدواء وحصيلتها المناعة العضوية لكيان الإنسان الذي سماه ابن  خلدون "العمران البشري أو التنازل (المشاركة في المنزل) لسد الحاجات".

2 ـ البعد الثاني: الاستخلاف فيها محددا أساسيا لقيام الإنسان الروحي وهو رهن ما يستمده الإنسان من زمان تاريخ الإنسان أي نظام الحماية ونظام الرعاية وتداول السلم غاية والحرب أداة بين البشر في صراعهم حول ما يسمتدونه من الأرض وقد سماه ابن خلدون الاجتماع الإنساني أو التنازل (المشاركة في المنزل)  للأنس بالعشير.

وكلا البعدين هما موضوع التقاسم بين الشعوب والحضارات. وبه تتحدد  الجغرافيا السياسية والحضارية. فتقاسم الشعوب والحضارات للمكان ليس هو أصل الاستعمار في الأرض فحسب بل هو أصل الصراع بينهم على ثرواتها الطبيعية. وتقاسمها للزمان ليس هو أصل الاستخلاف فيها فحسب بل هو  أصل الصراع بينهم على تراثها.

ولم أفهم هذه الحقيقة إلا بفضل محاولة الجواب عما بدا تاريخيا وكأنه الإعلان الأول الصريح عن السعي لتخليص الإنسانية من هذين الصراعين بالتذكير: أن البشر اخوة (النساء 1)، وأنهم متساوون (الحجرات 13)، وأن الأرض هي المعمورة وهي واحدة وينبغي الا تكون ملكا لمن يحتلها بل هي ملك للخالق وعليهم تقاسم ثروات المكان وتراث الحضارة بالعدل بينهم في "دولة" واحدة كونية ليست ملك شعب بعينه بل هي حق للجميع لأنها بوحدتها تمثل شرط بقاء النوع أولا وشرط تحقق مفهوم الإنسانية.

لكن التاريخ رغم كونه يبدو سعيا متواصلا لتوحيد البشرية في التأكد من حقيقة وحدة الثروة في المكان ووحدة التراث في الزمان فإنهما أصبحا سر الحرب الدائمة بين البشر في كل مجموعة حددتها الجغرافيا السياسية وبين المجموعات التي حددتها الجغرافيا الحضارية.

بحيث إن العولمة ليست بنت اليوم إلا بهذا المعنى الذي تجلى في العصر الحالي لكنها في الأصل كانت دائما المحدد لمجريات التاريخ كله بنفس هذا المعنى الذي أراد الإسلام تحرير البشرية منه.

كنت اعجب لهذا التصريح الذي جعل الأرض معبدا إذا كان التعامل بين البشر  فيها عبادة لخالقها الذي سخرها للإنسان  شرطا قي قيامه مع العلم أن ثرواتها ليست موزعة بحسب الجغرافيا السياسية التي فرضتها حيازة الشعوب لما يحصل من تفتيت لها بحسب موازين القوة بينهم في السعي لامتلاكها.
ومعنى ذلك أن من شروط بقاء النوع شرطين هما العلاج الوحيد الممكن:

أولهما شرط السلم الداخلية والخارجية العالميتين هو عدم اعتبار الجغرافيا السياسية حائلة دون تقاسم ثروات الارض وشروط الحياة الخمسة (الهواء والماء والغذاء والدواء والمناعة) بين الجميع.

والثاني علة الحرب الاهلية الداخلية والخارجية العالميتين وهو  جعل الجغرافيا السياسية حائلة دون تقاسم ثروات الارض بمنطق التبادل بالتعاوض العادل وخاصة في شروط الحياة الخمسة نفسها.

وبذلك فهمت أهمية مفهومين لا يمكن للشرقي ولا للغربي أن يفهمهما وأن من يفهمهما ينبغي أن يكون من حضارة لا شرقية ولا غربية أي جوهر الإسلام الذي جعلهما رمزيه:

الرمز الأول هو الفتح هو عكس الاستعمار لأنه ليس استعبادا بل تحرير من عبادة العباد لعبادة رب العباد.

الثاني هو الهجرة وهو عكس ملكية الحائزين على المكان لأنه يجعله مفتوحا للجميع إذا ضاق به  المكان أي وطنه لأن كل وطن يصبح وطنا مؤقتا وبقية الأوطان ملاجئ إما لعلاج مشكل شروط القيام العضوي أو شروط الأنس بالعشير.

وقد سبق فتكلمت على الفتح ولا أريد العودة إليه. لذلك فسأكتفي بشرح"مفهوم الهجرة" في الإسلام وعلة اعتباره شرطا في التحرر من الثاني  باسم الأول وكأنه ممكن دائما:

فأولى الهجرات: هي هجرة جد المسلمين ـ إسماعيل ـ بعكس ما تفرضه الجغرافيا الطبيعية لأنها حصلت من الخصب في حوض النيل إلى الجدب الصحراوي في الجزيرة للدلالة على أول دافع للهجرة بالهجرة إلى ضده.

وثانيتها هجرة مؤسسي دولة الإسلام إلى الحبشة بعكس الجغرافيا الدينية بنفس الدلالة أي إن التبشير بدين جديد يهاجر إلى دين تبين لاحقا أنه كان أهله قادة الحرب عليه منذ نشأته إلى اليوم سعيا لاجتثاثه.

وثالثها هو أصلها جميعا لأنه يجمع بين الهجرتين هجرة أصل التوحيد أو التحرر من عبادة الأفلاك إلى بلد دينه ما تعنيه الأوثان أي عبادة بعض الإنسان: هجرة إبراهيم الذي جاب كل امبراطوريات الشرق القديمة وخاصة قطبيها أي العراق ومصر.

وسأختم هذه المقدمة لأعود في الفصول اللاحقة إلى مشكل ما يجري في إفريقيا الإسلامية عامة وفي إفريقيا التي استعربت خاصة وعلاقتها بهذه الهجرات الثلاث وما بينها من صلة مع الأصلين أي مع ما يترتب على: نوع الاستعمار في الأرض بدون قيم الاستخلاف، وعلى نوعه الذي يؤمن بقيم الاستخلاف.

وبذلك نفهم لماذا أعتبر أن الإنسانية لم يبق لها مفر من اختيار العلاج الإسلام لما تعاني منه البشرية إذا أرادت أن تحول دون الانتحار الجماعي الذي ينتج عن الخيار الأول.
التعليقات (0)