كتب

قراءات في الدستور التونسي لعام 1959 بعد نصف قرن من صدوره

أنجز المجلس التأسيسي المنتخب في فجر الاستقلال (1956- 1959) صياغة دستور عام 1959، الذي احتل مكانة بارزة في بناء الدولة التونسية الحديثة-
أنجز المجلس التأسيسي المنتخب في فجر الاستقلال (1956- 1959) صياغة دستور عام 1959، الذي احتل مكانة بارزة في بناء الدولة التونسية الحديثة-
الكتاب:  les Dispositions Generales De La Constitution
الكاتب: مجموعة من الباحثين التونسيين شاركوا في ندوة فكرية  تتعلق بالذكرى الخمسين لإصدار دستور 1959، بمساعدة المؤسسة الألمانية Hanns Seidel Stiftung
الناشر: كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، بالاشتراك مع الجمعية التونسية للقانون الدستوري، تونس 2010
(236 صفحة من القطع المتوسط)


يعتبر الدستور مقوماً أساسياً من مقومات الدولة الحديثة، لأنه يحدد فلسفة حكمها وطبيعة نظامها، وينظم علاقات سلطاتها، ويضمن حقوق وحريات أفرادها.. فالدستور هو المحور الأساسي للقانون الدستوري الذي يُعرّف بأنّه: الفرع القانوني الذي يشمل جملة القواعد القانونية التي تضبط تنظيم السلطة السياسية وممارستها وعلاقتها بالأفراد في الدولة ويُعرّف الدستور في هذا السياق بأنّه: "وثيقة مكتوبة صادرة عن أعلى سلطة في الدولة تُسمّى السلطة التأسيسيّة الأصلية وتشمل هذه الوثيقة أهمّ القواعد في الدولة و المتعلقة بتنظيم السلطة السياسية وانتقالها وعلاقتها بالأفراد في الدولة" .

بيد أن الدستور وحده لا يكفي لاكتساب الدولة المشروعية المطلوبة، بل تصبح المشروعية légitimité حقيقة مقبولة حين تتعزز وثيقة الدستور بالاحترام وتحاط بالشروط الكفيلة بضمان صيانتها، أي حين تتحقق الشرعية الدستورية légalité constitutionnelle .

إن ما يميز الدستور الديمقراطي Constitution démocratique ويجعله جديرا بهذه الصفة استناده على جملة مقومات تضفي صبغة الديمقراطية عليه، وتبعده عن الدساتير الموضوعة إما بإرادة منفردة، كما هو حال الدساتير الممنوحة، أو عبر استفتاءات مفتقدة إلى شروط الاستقلالية والحياد والنزاهة. لعل أهم مقومات الدستور الديمقراطي، هي:

1 ـ تأسيسه على مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية والتسليم بأن الشعب مصدر السلطات ولا سيادة لفرد أو قلة عليه

يحيل مفهوم السيادة على معنى القدرة. فالدولة ذات السيادة هي "الدولة القادرة على اتخاذ القرارات والأعمال المتصلة بمصيرها على الصعيدين الداخلي والخارجي بحرية تامة"،أي أنها "سلطة حقوقية متفوق"، تجعل الدولة إطاراً وحيداُ قادراً على امتلاك مشروعية استتباب الأمن والنظام بالداخل، وتملك حرية التعامل على صعيد العلاقات الخارجية.وينطبق المدلول نفسه على الشعب. فهكذا، تتحقق سيادة الشعب حين يصبح أفراده قادرين على تقرير مصيرهم بأنفسهم، دون شعور بالضغط أو الخوف، أو تقييد إرادتهم. فالشعب بهذا المعنى يكون مناط السلطات ومصدرها، حيث لا سلطة لفرد أو قلة عليه، أو بتعبير عبدالحميد متولي: "لا سيادة لفرد ولا لقلة على الناس".

الدولة ذات السيادة هي "الدولة القادرة على اتخاذ القرارات والأعمال المتصلة بمصيرها على الصعيدين الداخلي والخارجي بحرية تامة"،أي أنها "سلطة حقوقية متفوق"، تجعل الدولة إطاراً وحيداُ قادراً على امتلاك مشروعية استتباب الأمن والنظام بالداخل، وتملك حرية التعامل على صعيد العلاقات الخارجية.
تعني السيادة للشعب، أن يصبح أفراده مالكي السلطات ومصدرها. فالسيادة الشعبية تفضي بالضرورة إلى الحكم المباشر، أي أن يتولى الشعب حكم نفسه دون وسيط يتدبر أموره بالنيابة عنه، إن مثل هذا النظام هو الصورة المثلى للديمقراطية، والحال أنه ظل طوبى في التاريخ، أو تحقق في حالات محدودة جدا، قد لا تصلح نموذجا للإحالة والاسترشاد.

حين يتم تجسيد مبدأ السيادة للشعب في الدستور الديمقراطي، تصبح السيادة في مثل هذه الحالة تكون لشخص اعتباري معنوي، أكان الأمة بالمعنى الواسع، أم الشعب كفرع منها، وليس لفرد طبيعي بعينه، أكان ملكا أم أميرا أم حاكما بصفات أخرى. فحين تتجسد السيادة في الأمة أوفي الشعب، يكون الولاء لشخص اعتباري مجرد، يدين له الجميع، فتكون العلاقة عندئذ مبنية ليس على الامتيازات التي يهبها الحاكم، باعتباره شخصا طبيعيا، ولكن مؤسسة على نظام المواطنة الذي يجعل الناس متساوين قانونيا في الحقوق والواجبات. إن مسيرة الديمقراطيات الحديثة حبلى بمثل هذه النماذج التي انتقل فيها الناس من الولاء لشخص إلى الولاء للأمة، فحققوا بذلك مواطنتهم، ونزعوا عنهم صفة الرعية. لقد اخترقت روح الثورة الفرنسية (1789) قطيعتان: قطيعة استبدال الولاء لشخص الملك بالولاء للأمة (مات الملك عاش الملك)، وقطيعة إحلال المواطنة موضع الرعية.. وفي الظن أن مثل هذه الروح هي التي أذكت جذوة التغيير في فرنسا وفتحت أفق التطور نحو بناء جديد للسلطة والحكم والمؤسسات.

2 ـ حكم القانون

3 ـ أن يحترم فيه فصل السلطات

إن مفهوم فصل السلطات طرحه الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (1689- 1755) صاحب كتاب"روح القوانين"، (1748) ، الذي أكد فيه على مبدأ فصل السلطات و إقامة نوع من التوازن داخل مؤسسات الدولة، وفي علاقتها بالمجتمع، أي إعادة بناء الدولة والسلطة على قدر من التوازن .و قد استلهم  قادة الثورة الفرنسية  من فكر مونتسكيو ، حين شدّدوا على التنصيص في المادة السادسة عشرة من دستور 1791 على أن "كل مجتمع لا يتوفر على ضمانات للحريات وفصل للسلط هو مجتمع بدون دستور..". فالتوازن يحدد دائرة السلطة ويرسم حدود المسؤولية، ويضمن الاحترام السليم للحقوق والحريات. ويعتبر فصل السلط مبدأ دستوريا مُوّجَهاً للحدِّ من الاستبداد وضمان الحرية، فكل مناهضي السلطة ناصروه ودعوا إلى إقراره، وإن اختلفت تصوراتهم إزاء المفهوم والتطبيقات..

4 ـ تؤكد فيه الحقوق والحريات

5 ـ أن يتم الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة بين الأغلبية والمعارضة. هذا بالإضافة إلى الطريقة التي يوضع بموجبها الدستور من قبل جمعية وطنية تأسيسية منتخبة

في هذا الكتاب الجديد "Les dispositions generales de la constitution"، الذي يتضمن مجموعة من الأبحاث لأساتذة وباحثين تونسيين ذوي الاختصاص في القانون الدستوري،ضمن إطار الندوة التي عقدت في عام  2009، بمناسبة إحياء الذكرى الخمسين لإصدار الدستور التونسي في غرة حزيران/ يونيو 1959، الذي صادق عليه في قراءة ثالثة وأخيرة المجلس القومي التأسيسي في 28 أيار/ مايو 1959 وأصدره رئيس الجمهورية التونسية الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، وحرية اللغة، والثاني: يتكون من تقرير تمهيدي، ومن جزئين؛ الأول: الدستور التونسي بين وحدانية اللغة وحرية اللغة.. الثاني: ويتكون من ثلاثة فصول، للدكتور صادق بلعيد، الأول: تونس دولة حرة مستقلة، ذات سية الإسلام دينها؛ الثاني: المغرب العربي الكبير؛ الثالث: الشعب هو صاحب السيادة.

ومن المهم الملاحظة أن دستور 1959 يتميز بالديمومة والاستقرار، فلم يكن الشأن كذلك بالنسبة للدستور الأول الذي عرفته تونس، دستور 26 نيسان/ أبريل 1861 الذي لم يعمر طويلاً وكانت أحداث 1864 سبباً أو تعلة لتوقيف العمل به.

مرجعية الثقافة الدستورية التونسية

منذ عصر النهضة العربية الأولى، يعتبرالمصلح خير الدين التونسي من أعظم المنظرين العرب لجهة مطالبته بضرورة اقتداء أقطار العرب الحديثة بفلسفة ونهج الحداثة الأوروبية الغربية، ومعرفة أساس قوة أوروبا وازدهارها، وبكيفية خاصة دور الدولة الحديثة ومؤسساتها السياسية القائمة على الحرّية في المجتمع المدني. وقد سار خير الدين على خطى رفاعة الطهطاوي، "فالجو الروحي الذي تحرك فيه كلا الرجلين متجانسين إلى حد بعيد، واللقاء بالمدنية الغربية لدى كل منها موصول أوثق الصلة بمعطيات المدينة الإسلامية بالذات والخشية على هذه المدينة من خطر تلك ".

في السياق الموضوعي، علينا أن نرى مجيء المصلح خير الدين في إطار حركة الإصلاح العمراني التي بدأها أحمد باشا باي (1837- 1855)، ومنها تأسيس المدرسة العسكرية بباردو، التي كانت تعتبر أول مدرسة حديثة في تونس مخصصة لتكوين الكوادر العسكرية، وكذلك الكوادر المدنية والإدارية، التي تحتاجهم الدولة التونسية. وبدأ خير الدين مساره السياسي، حين أسند إليه الباي أحمد مهمة في باريس العام 1853، للدفاع عن مصالح الحكومة التونسية ضد اللواء محمود بن عياد الذي كان وزيراً سابقاً، وهرب إلى فرنسا بعد أن أقام دعوة على الحكومة التونسية. وقد ظل أربع سنوات في فرنسا، حيث تعرف عن كثب على المبادئ السياسية والاقتصادية  العامة للثورة الفرنسية، ونظام الحكم القائم في فرنسا، والديمقراطية الليبرالية، والدستور الذي يحدد الإطار القانوني لممارسة الدولة الحديثة سلطاتها، وتقدم العلوم الحربية، وأخيراً على تقدم وتمدن حياة المجتمع السياسي والمجمتع المدني الكبيرين.

دستور 1959 يتميز بالديمومة والاستقرار، فلم يكن الشأن كذلك بالنسبة للدستور الأول الذي عرفته تونس، دستور 26 نيسان / أبريل 1861 الذي لم يعمر طويلاً وكانت أحداث 1864 سبباً أو تعلة لتوقيف العمل به.
ولا شك أن هذه الإقامة في فرنسا قد تركت آثاراً عميقة على ذهنية تفكير خير الدين، وعلى إدراكه أن مسألة التقدم والتمدن في أوروبا الحديثة تكمن في وجود التنظيمات الدنيوية المؤسسة على العدل والحرية، وعلى تطور العلوم الحربية، وهو ما أدى إلى تعميق الهوة بين الغرب الحديث وبلاد الإسلام. وعلى أثر عودته إلى تونس، عين وزيرا للحربية في العام 1857، وأدخل عدة إصلاحات مهمة على ميناء حلق الواد، وخلق الجواز التونسي، وشارك في اللجنة المكلفة بوضع الدستور التونسي، الذي سيعلن عنه رسمياً من قبل محمد الصادق باي في 29 كانون الثاني/ يناير  لعام 1861، حيث كان خير الدين رئيساً لمجلس الشورى، نظراً للثقة القوية التي كان يتمتع بها عند الباي. وكان الميثاق الأساسي، أو دستور عهد الأمان يعتبر أول دستور عربي يقر في بلاد الإسلام، وهو متكون من ثلاثة عشر فصلاً، ومئة وأربعة عشر  مادة مرقمة حسب الطريقة الفرنسية.

هذا الدستور الذي هو بمنزلة القانون العضوي للدولة التونسية قد حدد السيادة للمملكة التونسية في إطار علاقتها مع السلطنة العثمانية، وأقام تقسيماً للسلطة بين الباي باعتباره ملكاً وراثياً يصعد إلى قمة العرش حسب التقاليد المتعارف عليها في العائلة الحسينية المتوارثة للحكم، (مادة ـ 1) وبين وزرائه، ومجلس الشورى المتكون من 60 نائباً، والذي بالإضافة إلى مهامه التشريعية والمالية، فإنه يملك إمكانية تجريد الباي من صلاحياته إذا أصبحت ممارساته مخالفة للدستور (حسب مواد 9 ـ 63.20).

 إن دستور عهد الأمان للعام 1861، قد قوض سلطة الباي، وأصبحت تونس عبارة عن دولة ملكية دستورية، إذ أنَّ مجلس الشورى الأعلى هو الذي يصدق على إجراءات الحكومة قبل تنفيذها، فضلاً عن أنَّ السلطة الفعلية قد أصبحت في أيدي رئيس الحكومة، أو الوزير الأول حسب المصطلح الفرنسي. ويضمن الدستور الأمن الكامل للأشخاص، والممتلكات، وشرف كل سكان المملكة، بصرف النظر عن ديانتهم، وجنسيتهم، وعرقهم.

ـ إن كل السكان خاضعون للضريبة التناسبية لثرواتهم.

ـ إن المسلمين وسكان البلاد الآخرين متساوون أمام القانون.

ـ إن المحكمة التجارية متكونة من أعضاء مختارين من المسلمين وأعضاء من الدول العظمى  الصديقة.

ـ إن حرية التجارة مكفولة للجميع بدون استثناء، ولاتحرم الحكومة أي نوع من التجارة، ولا يمنع أي إنسان من ممارستها.

ـ إن الأجانب بإمكانهم ممارسة كل الصناعات والمهن، شريطة أن يمتثلوا للقانون المشترك.

لقد أدت الإصلاحات في القوانين التي كانت ترتكز على الإصلاحات في مؤسسات الدولة، إلى جعل المسألة الجوهرية في صرح بناء الجسم السياسي للدولة التونسية يكمن في مجلس الشورى، المتكون ثلث أعضائه من الوزراء والموظفين الكبار في الحكومة، أما الثلثين الآخرين فهما من وجهاء البلاد. فمجلس الشورى يجمع بين صلاحيات مجلس الشيوخ، ومجلس الدولة، ومحكمة التعقيب، وديوان المحاسبة، وهو في الوقت عينه الحارس على الدستور، والقوانين، والمدافع عن حقوق المواطنين. وفضلاً عن ذلك، فهو يعارض إصدار قوانين متناقضة سواء مع مبادئ وأسس الدستور، أو مع مبدأ مساواة المواطنين في الحقوق المدنية والسياسية .

وعندما اعتكف المصلح خير الدين عن العمل السياسي وضع كتابه الوحيد باللغة العربية بعنوان "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك"، نشر لأول مرة في تونس العام 1867، حيث لاقت  ترجمة مقدمته بعنوان "الإصلاحات الضرورية للدول الإسلامية" صدى كبيرا في فرنسا، نظرا لما تنطوي عليه من صياغة لمشروع نهضوي حديث.

ويعلق المفكر العربي البرت حوراني على ذلك بقوله: "يبدو أن خير الدين وضع هذا الكتاب وهو على شيء من الاعتقاد أنه يفعل للعصر الحديث ما فعله ابن خلدون لعصر أسبق. فالمؤلفان تونسيان وضعا كتابيهما في فترة عزلة عن الحياة السياسية، وعالجا فيهما، كل على طريقته قضية نشوء الدول وسقوطها. وقد قسم كل منهما كتابه إلى مقدمة لعرض المبادئ العامة وإلى أجزاء عدة. إلا أن التشابه يقف عند هذا الحد. ففيما يعني كتاب ابن خلدون، في معظمه،بتاريخ الدول الإسلامية، يعني كتاب خير الدين، في معظمه أيضاً، بتاريخ الدول الأوروبية وتركيبها السياسي وقوتها العسكرية ".

المجلس التأسيسي ودوره في صياغة دستور عام 1959

شاع مفهوم الدستور في تونس في عشرينيات القرن الماضي مع الشيخ عبد العزيز الثعالبي، مؤسّس الحزب الليبرالي الدستوري، ثمّ استعاده وطوّره ابتداءً من العام 1934 أبو الاستقلال الحبيب بورقيبه، بحيث بات يشكّل عنصراً موجّهاً في تأكيد الهويّة السياسية التونسيّة. اتُّخذ هذا المفهوم وسيلة لبلوغ الحداثة القضائية والمؤسّساتية، واندرج في سياق قطيعة مع النظام الاستعماري ومع الاستبداديّة البايويّة (نسبة إلى الباي) . لكن لم يبدأ الوطنيّون بالتعبير بشكلٍ واضح عن ضرورة إنشاء مجلسٍ تأسيسي إلاّ بعد وصولهم إلى عتبة السلطة في 20مارس 1956.

عندما اعتكف المصلح خير الدين عن العمل السياسي وضع كتابه الوحيد باللغة العربية بعنوان "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك"، نشر لأول مرة في تونس العام 1867، حيث لاقت ترجمة مقدمته بعنوان "الإصلاحات الضرورية للدول الإسلامية" صدى كبيرا في فرنسا، نظرا لما تنطوي عليه من صياغة لمشروع نهضوي حديث.
أدرك بورقيبه أنّ مسألة العلاقة بين الدين والدولة قد تلهب النفوس وتحرّك المشاعر التي لا طائل لها، فأراد مسبقاً أن يقفل باب النقاش. هكذا جاءت الفقرة الأولى من القانون الدستوري الصادر في 14 نيسان/ إبريل العام 1956، والذي سوف تنقل حرفيّاً تقريباً في المادة الأولى من دستور الأوّل من حزيران/ يونيو العام 1959 تحفةً في الاقتضاب والغموض: "تونس دولة حرّة مستقلّة ذات سيادة. الإسلام دينها والعربيّة لغتها". فالإسلام "دين دولة" وليس "دين الدولة"؛ في حين تمّ "الاعتراف" بحريّة المعتقد وحرّية ممارسة المعتقدات "المحميّة شرط ألا تخلّ بالنظام العام" (الفقرة الثالثة). بالتالي لم يجعل الدستور من تونس دولةً لائكيّة، لكنّها لم تكن دولةً إسلامية. كانت دولةً علمانيّة (مدنيّة أو زمنية)، لأنّ الشريعة لم تكن فيها مصدراً للتشريع .أما الفقرة الثانية، وقد نصّت على أن "الشعب التونسي هو صاحب السيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه هذا الدستور"، ما نزع صلاحيات الباي؛ بحيث ووجدت الملكية نفسها عمليّاً تتراجع إلى صفوف مؤسّسةٍ عادية عامّية.

عندما أطاح بورقيبة بالملكية وسلطة الباي في 25 تموز/ يوليو 1957، بإعلانه ميلاد الجمهورية التونسية، تغيّرت المعطيات رأساً على عقب؛ وبات على المجلس التأسيسي أن يستأنف الورشة من حيث أوقفت في 14 نيسان/ أبريل العام 1956. وأضحى مفروضاً الآن منح تونس نظامٍ رئاسيّ يوضع على قياس رئيسه.

وفي كانون الثاني/ يناير العام 1958، أبصر مشروعٌ جديد لدستورٍ جمهوري النور، طال إلى تسع وثمانين مادّة ولم يحوِ مقدّمة. إلاّ أنّ هذا المشروع شابته بعض النواقص والثغرات (طبيعة النظام، وشموليّة الحقوق الأساسيّة). وعاد العمل في مضمون المشروع.ثمّ أُلغي موعد التاسع من نيسان/ إبريل العام 1958، الذي كان قد خُصِّص أساساً لإقرار الدستور الجمهوري، وذلك إثر أزمة وقعت مع فرنسا. بالتالي استفاد بورقيبه ورفاقه من فترة الاستراحة هذه، من أجل متابعة تطوّر النقاش المؤسّساتي الفرنسي واستخلاص العبر من الانتقال من الجمهوريّة الرابعة إلى الجمهوريّة الخامسة الذي جرى ما بين أيار/ مايو وتشرين الأوّل/ أكتوبر العام 1958، مع تزايد نفوذ السلطة التنفيذية أكثر فأكثر. ومذّاك تسارعت الأمور. ففي 26 كانون الثاني/ يناير العام 1959، تمّ التصويت على مشروع دستورٍ في قراءة أوّلية. ثمّ في 28 أيار/ مايو 1959، أقرّ نصٌّ بشكلٍ نهائيّ، مع ستين مادّة؛ وقد اشتمل على مقدّمة تعلن صراحة عن إرادة الشعب التونسي في "تعلّقه بتعاليم الإسلام، وبوحدة المغرب الكبير وبانتمائه للأسرة العربيّة".

وفي الأوّل من حزيران/ يونيو العام 1959، أقرّ بورقيبه هذا الدستور الجديد الذي أرسى نظاماً رئاسيّاً قويّاً، نقيضاً لليببرالية الدستورية. هكذا لم يجد مبدأ الفصل بين السلطات تطبيقاته بشكلٍ فعليّ، كما نصّت على ذلك مقدّمة الدستور. وأتت الضمانات التي أعطيت للقضاء هزيلة. في المبدأ، تمّ الاعتراف بحرّية التعبير والاجتماع والرأي والدين وبالحق النقابيّ، إلاّ أن مجالات تطبيقها ظلّ في غالب الأحيان متروكاً في عهدة المشرّع، المرتهِن هو نفسه للسلطة التنفيذيّة. ولم يكن بالإمكان الإطاحة برئيس الدولة، وهو رئيس الحكومة في الوقت نفسه. وهو ليس مسؤولاً أمام أيّ سلطة، يعيّن الوزراء ويقيلهم. ويمكنه أن يترشّح للمنصب بقدر ما يطيب له.

لقد أنجز المجلس التأسيسي  المنتخب في فجر الاستقلال (1956- 1959)  صياغة دستور عام 1959، الذي احتل مكانة بارزة  في تأسيس النظام الجمهوري، وبناء الدولة التونسية الحديثة التي تبنت فلسفة الحداثة بكل منطوياتها الفكرية، عبر تركيز أسس دولةٍ مدنيّة من النوع العقلاني ـ الشرعيّ، ما كان حتّى ذلك الوقت محصوراً فقط بالحداثة الغربية. لكن المجلس التأسيسي في ذلك الوقت أخفق في إرساء نظام ديمقراطي، وضمان الحقوق والحرّيات بشكل فعّال. واحتوى دستور سنة 1959 على 64 فصلا وأدخلت عليه خلال السنوات اللاحقة عديد التعديلات منها ما كان في عهد الحكم البورقيبي ومنها ما كان في العهد النوفمبري وانتهى إلينا سنة 2010 قبيل الثورة مكوّنا من 78 فصلاً .

وبالرجوع إلى الدساتير الإفريقية ودساتير ما يسمى بالعالم الثالث وبالخصوص منها دساتير الدول العربية يمكن القول إنه لا مثيل للدستور التونسي في هذا المجال إذا ما استثنينا دستور الأردن ودستور لبنان علماً بأن لبنان عرفت أوضاعاً خاصة تميزت بالحرب الأهلية التي اندلعت سنة 1975.

والواضح أن الدستور التونسي وضع البلاد في مأمن من الصراعات السياسية العنيفة وخاصة من الانقلابات التي عرفتها عديد الدول الأخرى والتي تعبر على إخفاق الدساتير فيها.

واسترسال العمل بالدستور التونسي دون انقطاع له أهمية تتأكد باستبطانه من طرف الخاصة والعامة علماً أن استبطان الفكر الدستوري ما انفك يتعمق منذ بداية القرن التاسع عشر وليس هذا هو الشأن في عديد دول العالم الثالث.
التعليقات (0)