قضايا وآراء

المشهد التونسي الراهن: غير مقروء

بحري العرفاوي
ما زال السياسيون والمحللون يحاولون فهم ما حدث في تونس- جيتي
ما زال السياسيون والمحللون يحاولون فهم ما حدث في تونس- جيتي
يحدث أن نعطي نصا لطالب ونطلب منه تحليلا وإجابة على أسئلة حول معانيه ودلالاته وآفاقه، فيقول الطالب: "النص غير مقروء".

 بعد مضي عشرين شهرا على حادثة 25 تموز/ يوليو 2021، ما زال السياسيون والمحللون يحاولون فهم ما حدث، وتبين من وراء ما حدث وكيف ولماذا حدث؟

 أغلب التحليلات تتهم أطرافا خارجية بكونها وراء ما حدث، في البداية كانت أصابع الاتهام متجهة نحو كل من فرنسا ومصر والإمارات، ثم وقع الاشتغال على إيران وعلى تشيّع قيس سعيد مع البحث عن أدلة على ذلك، من خلال مواقف بعض أنصاره وحتى أفراد أسرته، ثم بدأ الشك في دعم أمريكي غير معلن، ثم انتهى التركيز هذه المدة على فاعل داخلي هو "الوطد" (تيار يساري تونسي يتبنى العنف الثوري، خاض صراعات عنيفة ضد التيار الإسلامي بالجامعة منذ أواخر السبعينيات، وكانت مجزرته المشهودة ضد الطلبة الإسلاميين بكلية الآداب منوبة يوم 30 آذار/ مارس 1982).

مسؤوليتنا في خوض معركة الأفكار والقيم مستفيدين من مساحات الحرية المكتسبة ومن وسائل التواصل الحديثة، معركة السيادة تبدأ بمعركة الوعي، الوعي بالحقوق والواجبات، ولا سيادة لشعب ما زال يؤذي بعضه بعضا لأتفه الأسباب، ويعجز سياسيوه ومثقفوه عن إدارة حوار هادئ بينهم، ولا سيادة لشعب تُدمّر فيه النقابة اقتصاد البلاد نكاية في طرف سياسي.

أعتقد أننا بحاجة ملحّة إلى فهم ما حدث حتى نعرف كيف نتفاعل معه، كما أننا مدعوون إلى التحكم في عواطفنا؛ فلا نطلق أحكاما لا علاقة لها بالواقع ولا تساعد في التحليل، بل إننا بتلك الأحكام المتسرعة والعاطفية قد نتسبب في مغالطة الناس وفي توجيههم وجهة خاطئة.

فالتحليل السياسي لا يختلف مصداقية وأمانة عن تحليل نصّ، حيث يقتضي التحليل وضوح النص ومعرفة الكاتب، والتحليل بعدها سيكون كاشفا عن مستوانا في الفهم والتأويل والاستنباط، وكل تحليل أو تأويل يستمد صدقيته وحجته من مدى تحققه مستقبلا.

 الخطاب الذي يريد أصحابه من خلاله تحقيق نشوة ذاتية أو يتصيدون به الإعجاب والثناء، هو خطاب ليس فقط قاصرا من حيث الجدوى، بل إنه خطاب، بالمعيار الأخلاقي "مغشوش"، وصاحبه غشّاشٌ.

لي صديق مناضل وشجاع، ألتقي به باستمرار منذ حادثة 25 تموز/ يوليو 2021، أجده على القلق والحماسة والغضب نفسه، فيجدني على الهدوء والبرود نفسه، يسألني عن سر ذلك، أجيبه دائما بسؤال: هل غادر الله تونس؟ يبدي صديقي استغرابه من الإجابة، فأفصّل فكرتي:

1- أنا تحكمني سقوفٌ أكون مطمئنا ما لم نتجاوزها، أتذكر دائما دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا"، فنحن بصدد معركة سياسية وكل أطرافها تونسيون، وللجميع حلفاء في الداخل والخارج، نحن لسنا إزاء غزو خارجي مباشر يحتل أرضنا ويحارب ديننا، مشاريع الغزو الثقافي لم تتوقف ولن تتوقف.

وهنا مسؤوليتنا في خوض معركة الأفكار والقيم مستفيدين من مساحات الحرية المكتسبة ومن وسائل التواصل الحديثة، معركة السيادة تبدأ بمعركة الوعي، الوعي بالحقوق والواجبات، ولا سيادة لشعب ما زال يؤذي بعضه بعضا لأتفه الأسباب، ويعجز سياسيوه ومثقفوه عن إدارة حوار هادئ بينهم، ولا سيادة لشعب تُدمّر فيه النقابة اقتصاد البلاد نكاية في طرف سياسي، ولا سيادة أيضا ما لم نتحرر جميعا من وهم الحقيقة المطلقة والنقاوة الزائفة في عالم السياسة والأيديولوجيا.

 وهنا، أدعو كل واحد منا إلى طرح السؤال التالي على نفسه: "كم خسرتُ من صديق وأنا أستميت دفاعا عن فكرتي؟ وكم صنعتُ من عداوة للسبب نفسه"؟ معركة الحرية والسيادة والعدالة هي معركة دينية في جوهرها؛ لأن الدين إنما جاء لتحقيق سعادة الإنسان وكرامته، وليس لتحقيق ربوبية ربٍّ هو ربٌّ رغما عمن في السماوات ومن في الأرض، إذ "يسبّحون" له، بمعنى يخضعون لقانون الخلق الذي وضعه.

 2- يطمئّن المؤمن إلى العدل الإلهي، عدل الله مبثوث في نواميس الطبيعة وفي قانون التاريخ، التاريخ له عقل وميزان وليس له عاطفة، لا يُشفق على الضعفاء ولا ينحاز لمن حسنت نواياهم وساءت تقديراتهم. التاريخ يُمهلنا كي "نتوب"، بمعنى كي نتعلم ونراجع ونستفيد من أخطائنا وتجاربنا وتجارب غيرنا، ولا يمكن "الاستئناف" لمن فشلوا ولم يراجعوا أسباب فشلهم ولم يمارسوا النقد الذاتي بشجاعة، بل وحتى بـ"جلد الذات" الذي هو تأنيب الضمير، فلا يمكن الاطمئنان إلى من لا يعترفون بأخطائهم، ولا يُبدون "ندامة" على تقصيرهم وظلمهم وتجاوزاتهم.

الفشل هنا، هو فشلنا كتونسيين في الاستفادة من "فجوة" تاريخية كان ممكنا أن نحوّلها إلى مسار ثوري وديمقراطي وتحرري، من القصور الذهني وربط "الفشل" بحكومة أو حزب أو تحالف حزبي، فالعشرية كانت صناعة مشتركة.

ما حصل ويحصل وسيحصل ليس خارجا عن العدالة الإلهية وعن مبدأ "الجزاء من جنس العمل"، كما يقول المعتزلة، فلكل ظاهرة أسبابها السابقة لها، وكل مرحلة هي في علاقة سببية بمرحلة أو مراحل سابقة، علاقة المآلات بالمقدمات، وذاك هو معنى العدل الإلهي.

 ما يجعلني مطمئنا، صديقي، أن الله لم يغادر تونس، ولن يغادرها، وأنه ما زال يحرس عدالته وينجزها عبر ما أودعه من قوانين في الطبيعة وفي التاريخ "الذي أعطى كل شيء خلْقه ثم هدى".

إن الله أرحم بنا منا بأنفسنا، وهو أعدل من أن يخرق قانون التاريخ إرضاء للكسالى ذهنيا أو العاجزين أو الفاشلين أو الواهمين أو الأدعياء، حين لا "يتوبون" فكريا وأخلاقيا وسياسيا فيقفون على أخطائهم وتقصيرهم و"حسن" نواياهم الساذجة. لم يكن الفشل فشل حكومة أو حزب أو جماعة أو تحالف حكومي، إنما كان فشلنا نحن التونسيين مجتمعين، لم نكن جيدين كما يجب، بل كنا سيئين أكثر مما يجب.

إن اليقين في العدل الإلهي يُلهمنا الهدوء والقوة، ويحررنا من الحزن واليأس، ويدفعنا إلى العمل وفق الأسباب، السبب هو "الحبل الموصل إلى ماء البئر"، فلا جدوى من أسباب غير موصلة وغير واصلة حين نتخذ أوهاما وانفعالات نظنها أسبابا، وما هي إلا خيوط دخان لا تقود إلا إلى سراب.

twitter.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)