طوفان الأقصى لم يكن مُجرّدَ حادث اشتباك قتالي بين
المقاومة الفلسطينية
وبين الكيان الصهيوني، إنما كان حدثا تاريخيا بمستوى زلزال حقيقي هزّ الأبنية
السياسية والفلسفية والنفسية، لا على مستوى العالم العربي والإسلامي فقط وإنما على
مستوى العالم الإنساني برُمّته.
فقد مرّت سنة كاملة على الطوفان ولم يحقق العدو أيّا من أهدافه الرئيسية،
وهي كسر إرادة المقاومة واسترجاع أسراه وفرض رؤيته ورؤية حلفائه لـ"الشرق
الأوسط الجديد".
كل ما ارتكبه من
جرائم بحق الأطفال والنساء والشيوخ والمستشفيات ومقرات
الإيواء، لم تحقق له ما تمنّاه من تمرّد المواطنين على حركة المقاومة الإسلامية،
إنما جلبت عليه ردود فعل عالمية من ضمير الإنسانية في بقاع واسعة من العالم؛ لم
يكن أحدٌ يتصوّر أنها ستثور بذاك المستوى ضد جرائم العدو وضد حكومات غربية متحالفة
معه.
طوفان الأقصى أجهض حُلم محور التطبيع ووضع النظام العربي الرسمي في وضعية حرجة جدا، فلا هو استطاع إدانة الإجرام الصهيوني ولا هو تجرّأ على إعلان التطبيع
لقد تحولت
غزة إلى أكاديمية عالمية لتعليم البشرية فنون المقاومة وأخلاق
القتال ومعاني الصبر والتضحية، لقد تهشمت أمام مرآة غزة "هيبة" الغرب
الزائفة التي تزيّنت طويلا بفلسفة الحقوق الكونية والإنسان الكوني؛ حتى ظن أغلب جمهور
عالمنا العربي والإسلامي أن هذا الغرب هو صانع الحضارة وأنه نموذج جيّد علينا
الاقتداءُ به في كل شيء لتحقيق نهضتنا المادية والفكرية والثقافية.
طوفان الأقصى أجهض حُلم محور التطبيع ووضع النظام العربي الرسمي في وضعية
حرجة جدا، فلا هو استطاع إدانة الإجرام الصهيوني ولا هو تجرّأ على إعلان التطبيع
(رغم وجود تطبيع عملي في مستوى المواقف والممارسات).
كما أعاد الطوفانُ الحقوق الفلسطينية إلى القضايا ذات الأولوية في محاور
اهتمام القوى الحية في العالم، قوى الفكر والقيم والأخلاق.
لقد حرّرت غزة الوعي العربي خاصة من اعتبار قوى الغرب جهاتٍ داعمة لحركات
التحرر أو للمناضلين من أجل الحريات والديمقراطية ضد الأنظمة الاستبدادية، فهذا
الغرب لا يتعامل مع تلك الأنظمة ومع تلك الحركات التي تعوّل عليه في دعمها ضد
حكومات بلدانها إلا كعملاء يستعملهم وِفق خطة مدروسة بما يحقق مصالحه هو، ولا
تعنيه مصالح الشعوب ولا يهتم بمعاناتها وفقرها وبطالة شبابها وما تعانيه من نقص في
أدوية أو في مواد غذائية أو وسائل نقل، بل ولا يعنيه أصلا أن يعيشوا أو يموتوا
سواء بالأوبئة أو بتقتيل بعضهم.
لم تقاتل غزة دفاعا عن أهلها إنما قاتلت دفاعا عن فلسفة الحياة، فما الذي
يُنتَظَرُ من قوى الحياة في العالم؟
المقاومة ليست فقط فعلا قتاليا بسلاح مادي إنها هي أيضا قتال في جبهات الوعي ومرابطة في خريطة الفكر وصمود في حصون المبادئ، فلا تؤثر فينا الحملات التي يقوم بها العدو وأعوانه من أجل بث الخوف والتردد واليأس والظنون السيئة، ومن أجل دفعنا إلى الاستسلام والقبول بالتسويات المائلة تمهيدا لمشروع "الشرق الأوسط الجديد"
الوعي الاستراتيجي لدى عدة قوى في المنطقة هو الذي دفعها إلى الانخراط عمليا
في المعركة ضد العدو الصهيوني، لا لمجرّد المساندة الأخلاقية لغزة، وإنما لمنع تحقيق
العدو انتصارا يغريه بالانتقام ممن تعاطف مع غزة ومع القضية الفلسطينية، فهذا العدو
لا حدود لأطماعه، إنه يريد أن يكون سيد العالم كما تقول عقيدته التي ترسم أهدافه
وتحدد وسائله منذ مؤتمر الحركة الصهيونية بمدينة بازل السويسرية بتاريخ 29 آب/ أغسطس
1897 برئاسة تيودور هرتزل.
لقد تحولت دماء شهداء طوفان الأقصى إلى كيمياء تحررية مكنت العالم الإنساني
من قدْرٍ جيد من التعافي من الأحقاد والعنصرية والطائفية، لتكوين جبهة إنسانية هي
بصدد الاتساع في مواجهة جبهة الاستكبار العالمي.
إن المنتَظر من القوى الحية في العالم الإنساني أن تشتغل باستمرار على
تحويل ملاحم طوفان الأقصى إلى فلسفة للحياة وإلى ثقافة مقاومة، وإلى خطاب يُعلي من
شأن المقاومين الصامدين ويتعالى على خطاب التفاهة والطائفية وعلى خطاب العويل
والتثبيط الذي يبثه المهزومون والمُستَعمَلون.
المقاومة ليست فقط فعلا قتاليا بسلاح مادي إنها هي أيضا قتال في جبهات
الوعي ومرابطة في خريطة الفكر وصمود في حصون المبادئ، فلا تؤثر فينا الحملات التي
يقوم بها العدو وأعوانه من أجل بث الخوف والتردد واليأس والظنون السيئة، ومن أجل
دفعنا إلى الاستسلام والقبول بالتسويات المائلة تمهيدا لمشروع "الشرق الأوسط
الجديد" الذي سيكون مشروع إبادة حقيقية لا مجازية لكل دعاة التحرر.
x.com/bahriarfaoui1