كتاب عربي 21

المواطنة البكماء في الجمهورية الجديدة.. مفاهيم ملتبسة (47)

سيف الدين عبد الفتاح
انتهاكات في السجون- الداخلية المصرية
انتهاكات في السجون- الداخلية المصرية
في الجمهورية الجديدة المواطن أبكم لا يعبر عن موقف أو يمارس حقه في الكلام أو التعبير؛ المواطن أعمى لا يرى فسادا ولكن وجب عليه أن يضبط عدسات بصره على إنجازات النظام المغشوشة والزائفة، فكيف لا يرى أكبر مسجد وأطول مئذنة وأثقل نجفة؛ والمواطن أصم لا يسمع وفق توجيهات المستبد "ما تسمعوش كلام حد غيري".. إنها مواصفات المواطنة في الجمهورية الجديدة المزعومة المواطنة البكماء الصماء العمياء؛ وعلى الإنسان ألا يتحدث أو يمارس حقوقه الأساسية في حرية التعبير عن رأيه ومواقفه، بل يجب عليه أن يعطل حواسه التي وهبها الله له كإنسان؛ وعليه أن يضبط تلك الحواس على بوصلة الطاغية ونظامه ووفقا لتوجيهاته؛ "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" .

تعددت المواقف والأحداث التي تكشف عن تدني قيمة الإنسان وتآكل جوهر المواطنة حقوقا وتحقيقا في الجمهورية الجديدة التي لا تحترم الإنسان ولا تلتفت له، ولا حقوق للمواطن فيها إلا ما يراه المستبد الفاشي، بل على العكس فهي تعمل بكل ما لديها من قوة لإهدار كرامته، وانتهاك حقوقه، والانتقاص من قيمته، وطمس مواطنيته وهدر حقوقه المتعلقة بها؛ وكأن ذلك مهمتها الأساسية التي من أجلها يتم تشييد أركانها وإقامة بنيانها، وهو ما يجعلنا نتوقف ونتساءل: لماذا نظام الثالث من يوليو يعادي الإنسان المصري والذي يبشره بجمهوريته الجديدة المزعومة؟ ولماذا يعاقبه على أفضل ما مر به وهو ثورة الخامس والعشرين من يناير؟

على الرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على محاربتهم للثورة والعمل على تعقب مكتسباتها والقضاء عليها، إلا أننا نجدها -أي الجمهورية الجديدة- وكأنها في يومها الأول في مواجهة الثورة وأبنائها. هذا التعسف الشديد في معاداة الثورة يثير الدهشة والاستغراب، فبعد مرور كل هذه السنوات لا يزال خطاب اتهام الثورة بكل ما تمر به مصر من أزمات ومآس هو الحاضر وهو الأساسي، دون الالتفات إلى كل ما قام ويقوم به نظام الثالث من يوليو من تخريب وتدمير بزعم الإصلاح والبناء

فعلى الرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على محاربتهم للثورة والعمل على تعقب مكتسباتها والقضاء عليها، إلا أننا نجدها -أي الجمهورية الجديدة- وكأنها في يومها الأول في مواجهة الثورة وأبنائها. هذا التعسف الشديد في معاداة الثورة يثير الدهشة والاستغراب، فبعد مرور كل هذه السنوات لا يزال خطاب اتهام الثورة بكل ما تمر به مصر من أزمات ومآس هو الحاضر وهو الأساسي، دون الالتفات إلى كل ما قام ويقوم به نظام الثالث من يوليو من تخريب وتدمير بزعم الإصلاح والبناء. إن العداء للثورة واستمرار شدته بهذه الوتيرة أمر يجب التوقف عنده، ولكن لهذا موضوعه المستقل، إلا أن واحداً من أبرز مظاهر هذا العداء وهو إهدار كرامة وإنسانية المواطن المصري؛ هو ما يجب أن نتحدث عنه وننشغل به.

كشفت الرسائل المسربة عما يجري في سجن "بدر 3" عن مستوى الانتهاكات الوضيع الذي تمارسه منظومة الثالث من يوليو إزاء المعتقلين في سجونه الجديدة الرهيبة، وكيف تنتهك خصوصيتهم وتمارس عليهم أشد أنواع البطش والتعذيب، ابتداء من منع العلاج عن المرضى، مرورا بتجويعهم والاعتداء الوحشي عليهم بالضرب حتى أن بعضهم قد فقد الوعي، وقد يكون ذلك أحد التفسيرات لما يتردد عن إقبال بعضهم على الانتحار، وهو أمر نحمل مسؤوليته الكاملة لنظام الثالث من يوليو الذي يدفع هؤلاء المعتقلين دفعا نحو إنهاء حياتهم، فإذا لم يمت بالإهمال الطبي أو ظروف السجن غير الآدمية، يمارسون عليه التعذيب إما أن يقتل خلاله، أو يحاول الانتحار جراء ما تعرض له من إهانة وتحقير، أو جراء الممارسات البعيدة تماما عن الإنسانية بما فيها منعه من مجرد الاتصال بأسرته للاطمئنان عليهم وطمأنتهم عليه.

إن هذا النظام الذي لا يرجف له جفن في ظل كل هذه الانتهاكات التي يمارسها يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هذه هي استراتيجيته الحقيقية والوحيدة لحقوق الإنسان، وليس تلك الطنطنات الفارغة التي يصدرها للمجتمع الدولي ويتباهى بها الدبلوماسيون المصريون في المحافل الدولية، لكن حقيقة الأوضاع هي ما يعانيه المعتقلون في السجون المصرية ومنها مجمع سجون بدر الذي يتعرض نزلاؤه في الوقت الحالي لأقسى حملة وصلت إلى معاقبة الأهالي الذين تحدثوا عن هذه المعاناة.

تصفعنا مع كل يوم حوادث مريبة وصلت للدرك الأسفل بتعرض المهندسة نعمة الله هشام لاقتحام منزلها واختطافها وترويعها، وهي زوجة محمد الباقر المحامي المسجون في سجون النظام التي اتخذت شعارا "فرصة للحياة" وتعرضها للاعتقال -المؤقت- عقب نشرها منشورا على مواقع التواصل الاجتماعي تسرد فيه ما تعرض له زوجها المحامي المعتقل منذ عام 2019م، محمد الباقر، الذي تدخل لحماية أحد المعتقلين كبار السن من اعتداء الحراس داخل السجن، وقد ترتب على ذلك تعرضه للضرب والإصابة وحبسه في التأديب بملابسه الداخلية على البلاط، وبعدها تم حبسه انفراديا ومنعه من التريّض.

في مثل هذه الأجواء نجد أن هناك من يتحدث عن مناخ الحرية المتنامي، وقبضة الأمن الآخذة في التراجع ولجان العفو، والحوار الوطني الذي يتم الترويج له، إلا أن واقعنا لا يختلف كثيرا عن السجون وما يجري فيها

هكذا تعاملت الجهات الرسمية المصرية مع تدوينة السيدة من أجل زوجها، وبدلا من أن تكون هذه الصرخة محلا للتحقيق ورفع الظلم والانتهاك عن المحامي وزملائه كان التصرف من نظام أصابه الإفلاس والجنون؛ في اتجاه مضاعفة الظلم باعتقال الزوجة وترهيبها. ولا يعني الإفراج عنها بعد عدة ساعات أن الظلم قد رُفع أو انتهى، ولكنه يثبت بما لا يدع مجالا للشك طبيعة هذا النظام وتعامله مع الإنسان والمواطن المصري، فأنت يجب أن تتقبل العقاب والانتهاك بصدر رحب، وإذا ما صدرت عنك أو عن أحد من ذويك صرخة أو حتى همسة فلا تنتظر إلا العقاب والتنكيل والوعيد، ولن نعدم بعد شهر أو أقل أو أكثر أن نجد أن السيدة نعمة الله هشام لديها قضية منظورة أمام القضاء مثلما حدث من قبل مع زوجة رجل الأعمال المصري.

في مثل هذه الأجواء نجد أن هناك من يتحدث عن مناخ الحرية المتنامي، وقبضة الأمن الآخذة في التراجع ولجان العفو، والحوار الوطني الذي يتم الترويج له، إلا أن واقعنا لا يختلف كثيرا عن السجون وما يجري فيها، فهناك وثائق وصور ومقاطع فيديو يتم إخراجها بعناية وهي لا تمت للواقع بصلة. وفي الوقت نفسه فهناك حديث مدفوع عن الانفراجة وعن الحوار الوطني، لكن واقع الأمر يتحدث بشكل مخالف ومختلف عن اعتقالات مستمرة، وكأننا نتحدث عن بلدين مختلفين.

الإنسان في الجمهورية الجديدة معدوم القيمة، والمواطن فيها منزوع الكرامة ليس له من حقوق، يعاني من الانتهاكات من كل حدب وصوب، ولعل ما تعرض له بعض الجنود المصريين في السودان، وخطاب المسؤولين المصريين حيالهم يؤكد ذلك ويثبته

فقد سبق هذا الحدث سقطات عجيبة وأحداث مريبة، حيث تم اعتقال المهندس هاني سليمان عقب منشور له على مواقع التواصل الاجتماعي يتحدث فيه عن الأوضاع المتراجعة التي تمر بها البلاد، وينتقد إدارة السيسي للشؤون الداخلية والخارجية للدولة المصرية، كما تم استدعاء المهندس يحيي حسين عبد الهادي للتحقيق، وهي أجواء لا يمكن أن تعبر إلا عن زيادة القمع خاصة في ظل الإقبال على انتخابات رئاسية لن تكون مختلفة عن سابقتيها مهما حاولوا التبشير والترويج لغير ذلك، ولسان حال الجمهورية الجديدة المزعومة يقول: "ليس لك من رأي ليس لك أن تكتب؛ ليس لك أن تتنفس".

الإنسان في الجمهورية الجديدة معدوم القيمة، والمواطن فيها منزوع الكرامة ليس له من حقوق، يعاني من الانتهاكات من كل حدب وصوب، ولعل ما تعرض له بعض الجنود المصريين في السودان، وخطاب المسؤولين المصريين حيالهم يؤكد ذلك ويثبته، فهذه المنظومة لا تهتم بالإنسان ولا تنشغل به مهما كان إلا في حال أنها تحسست خطرا منه، فهو في هذه الحالة محل اهتمامها وتركيزها بكل ما يحط من قيمته ويقلل من كرامته وينتهك حقوقه وخصوصيته.

نحن أمام جمهورية جديدة مزعومة تؤكد على مسوغات مواطنيتها المفروضة والمطلوبة من منظومة الاستبداد الفاشي والفاجر المواطنة البكماء، ولا بأس أن يضاف لتلك المسوغات أن تكون كذلك عمياء صماء.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)