قضايا وآراء

دروس اقتصادية من غزوة بدر الكبرى

أشرف دوابة
موقع معركة بدر حاليا- واس
موقع معركة بدر حاليا- واس
في السابع عشر من شهر رمضان من العام الثاني للهجرة كانت الدنيا على موعد مع يوم الفرقان، ذلك اليوم الذي كان نقلة نوعية في تاريخ المسلمين، بعد أن هاجروا من مكة إلى المدينة، وتعرض سوادهم لنهب أموالهم ومصادرة بيوتهم من طغاة مكة، وقد جاءت الفرصة مواتية لرد ما يمكن رده من هذه المظالم الاقتصادية.

فقد تناقلت الأخبار إلى المدينة المنورة عن عودة قافلة قريش التجارية من الشام وهي في طريقها إلى مكة في رحلة الصيف التي تعارفت عليها قريش منذ زمن هاشم جد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد كانت هذه القافلة تمثل ألف بعير تحمل ثروات اقتصادية طائلة لأهل مكة لا تقل قيمتها عن خمسين ألف دينار ذهبي، ويقودها سفيان بن حرب، ومعه رجال لا يزيدون عن أربعين رجلا.

وإذا كان أهل مكة استحلوا أموال المهاجرين، فلا أقل من المهاجرين أن يعيدوا ما صودر من أموالهم ظلما وعدوانا، وضرب الحياة الاقتصادية وشريانها لأهل مكة في مقتل، لذلك قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لصحابته "هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها".

إنها حرب اقتصادية لتعريض ما لحق بالمهاجرين من خسائر، حرب لرد الحقوق، ولم يكن في خلد المسلمين أنها ستتحول من حرب اقتصادية إلى حرب قتالية تغير مستقبل الدنيا كلها، حتى أن الرسول لم يعزم على أحد بالخروج، ولم يستحث متخلفا، بل ترك ذلك الأمر لرغبات الصحابة، وخرج هو بمن أمكنه الخروج معه. فالأمر لم يكن سوى السيطرة على القافلة ورد المظالم.

وأخذ المسلمون يتحسسون القافلة والحماية التي معها، وقد أحس أبو سفيان بما يراد لقافلته والمخاطر المحيطة به، فأرسل إلى أهل مكة يستنفرهم لحماية أموالهم، والخروج إليه لرد أي هجوم، واستخدم لذلك ضمضم بن عمرو الغفاري الذي قاد حملة إعلامية تحريضية لجذب انتباههم واستنفارهم، فقد وقف على بعيره بعد أن جدع أنفه، وحول رحله، وشق قميصه، وأخذ يصيح: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان، عرض لها محمد وأصحابه، لا أرى أنكم تدركوها، الغوث الغوث!. فانتفض أهل مكة، وانطلق سوادها للدفاع عن ثروتهم، فخرج منهم 950 مقاتلا، معهم مائتا فرس يقودونها، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين.

وقد استطاع أبو سفيان أن يتجاوز الخطر المحدق به وقافلته، فأخذ طريقا آخر نحو الساحل، تاركا بدر إلى يساره فنجا، وأرسل إلى قريش يطالبهم بالرجوع، فقد انتهي الخطر ونجت القافلة، ولكن كان لأبي جهل حينما وصله رأي أبي سفيان رأيا آخر، حيث قال: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم ثلاثا، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، وبسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا.

ومضت قريش وراء رأي أبي جهل، حتى نزلت بالعدوة القصوى من وادي بدر، وكان المسلمون بالعدوة الدنيا، في تلك المنطقة التي تبعد عن المدينة 160 كيلو مترا، وكان عددهم 313 رجلاً، فيهم فرسان وسبعون بعيراً يتعاقبونها، فقد خرجوا أصلا للعير وليس للنفير، ولكن إرادة الله أن يأتيهم النفير راغما، وجاءت مكة إلى المسلمين بأفلاذ كبدها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد شهدت بدر ترسيخا للشورى والاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية في استخدام ماء بدر، فقد استعد المسلمون لخوض المعركة، وعسكروا في أدنى ماء من بدر. فجاء الحباب بن المنذر إلى رسول الله فقال: أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة! قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل امض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فنعسكر فيه، ثم نغور ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله: لقد أشرت بالرأي. ثم أمر بإنفاذه! فلم يجئ نصف الليل حتى تحولوا كما رأى الحباب، وامتلكوا مواقع الماء.

وبدأت الحرب وتزاحف الجمعان، وقاتل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صناديد قريش وجيشها المتبطر، فلقي سبعون صنديدا من قريش مصرعهم، وأُسر سبعون، وفر الباقي راجعين إلى مكة يحملون خيبة الهزيمة، وذل البطر الذي أوصلهم إليه، بينما استشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا، عرفوا طريقهم إلى جنات النعيم.

ومكث النبي صلى الله عليه وسلم في بدر ثلاثا، ثم عاد للمدينة يسوق أمامه الأسرى والغنائم، وكان في كل منهما درسا اقتصاديا. فبعد انتهاء الحرب، توجه الصحابة نحو الغنائم وتسابقوا للاستئثار بها، فعن عبادة بن الصامت قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس، فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها، وليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم أحق بها منا نحن نحيا منها العدو وهزمناه، وقال الذين أحدقوا برسول الله: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به، فأنزل الله: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا الله وأصلحوا ذَات بينكُمْ وأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (الأنفال: 1)، فقسمها رسول الله بين المسلمين.

وهذا التنازع يعكس صورة من الحالة الاقتصادية التي لحقت بالصحابة من ضيق اليد وبريق المال الذي جبلت النفوس على محبته، وهذا الفقر والحاجة التي كانت تحيط بالصحابة كانت محل الاهتمام والمعالجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمرو قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر قال: اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم. ففتح الله له يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا، وما منهم رجل إلا وقد رجع بحمل أو حملين واكتسوا وشبعوا.

أما الأسرى فإن فداءهم كان المال، كما رأى أبو بكر رضى الله عنه مراعاة للقرابة والعشيرة والأخوة، وتدعيما لخزينة الدولة الإسلامية، وأملا في هدايتهم، في حين كان يرى عمر بن الخطاب رضى الله عنه ضرب أعناقهم حتى يعلم المشركون أنه ليس في قلوب المسلمين هوادة لهم، وقد مال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأي أبي بكر، وبذلك تم استبقاء الأسرى للانتفاع من ثرواتهم، بدلا من الاقتصاص منهم وقتلهم حتى يكونوا نكالا لغيرهم باعتبارهم مجرمي ومسعّري حروب، وآكلي حقوق الضعفاء المظلومين من نهب أموال ومصادرة ديار والبطر في الحرب. وقد نزل القرآن بعد ذلك مؤيدا لرأي عمر رضى الله عنه.

وكان فداء الأسير من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف إلى ألف درهم، ومن لم يكن عنده فداء تم دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم فإذا حذقوا فهو فداء، حيث كان أهل المدينة يكتبون وأهل مكة لا يكتبون، وهذا درس مهم في قيمة العلم في بناء الأمم، والاستفادة كذلك من كل مورد متاح.

كما من رسول الله له على عدة من الأسارى، فأطلقهم بغير فداء، ومن على ختنه أبي العاص زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت قد بعثت في فدائه بمال، بعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها رسول الله رق لها الله رقة شديدة، واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوا، واشترط رسول الله على أبي العاص أن يخلي سبيل زينب، فخلاها، فهاجرت.

وهذا درس لكل بيت مسلم يعلوه الحب الرباني والإخلاص الوجداني والمشاعر الراقية التي لا تموت، حتى لو مات صاحبها فإن رائحته الزكية تظل في كل شيء كان يستعمله، فكيف الأمر إذا كانت قلادة أم المؤمنين خديجة رضى الله التي ما وطئت الأرض زوجة مثلها والتي ما أبدل الرسول خيرا منها قط، فقد آمنت به إذ كفر بي الناس، وصدقته إذ كذبه الناس، وواسته بماله إذ حرمه الناس، ورزقه الله عز وجل منها الولد دون غيرها من النساء.

twitter.com/drdawaba
التعليقات (0)