قضايا وآراء

"اقتحام العقبة" في رمضان

أشرف دوابة
CC0
CC0
يستقبل المسلمون بعد ساعات شهر رمضان، وهو شهر فضيل مبارك تتضاعف فيه الحسنات، ويأتي هذا العام وقد فتك الفقر بكثير من الأسر المتعففة، لا سيما في مصر التي أكل فيها التضخم الدخول أكلا، وهوى بالطبقة المتوسطة إلى حافة الفقر، وفي سوريا التي أنهكها الزلزال وجمع فيها بين مرّ اللجوء ومر العراء، ولا يختلف الأمر عن ذلك في العديد من دول الإسلام.

وإذا كان التكافل بين المسلمين في الأيام العادية واجب فإنه في رمضان أوجب وأولى، ولنا الأسوة الحسنة في رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقد كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة (رواه البخاري).

لقد كان القرآن الكريم الذي أُنزل في شهر رمضان الكريم سلوكا يمارسه نبينا -صلي الله عليه وسلم- في أرض الواقع، جودا بالخير في حياة الخلق، فكان لا يرد سائلا ولا يمنع طالبا ولا ينسى متعففا، فكان ذلك درسا لكل مسلم أن ينتقل بالقرآن من الصدور والسطور إلى تطبيق عملي لفعل الخير، ليكون المسلم أجود به من الريح المرسلة.

هذا الاقتحام للعقبة ليس إحسانا فرديا اختياريا (تطوعيا) ولا واجبا شخصيا موكولاً إلى ضمائر الأفراد فحسب، بل هو اقتحام يجمع بين فكرة الحق وفكرة الواجب -فهو ليس أسيرا لمفهوم الإحسان الذي يمثل في أغلب الأذهان واجبا لا حقا- وذلك من خلال الزكاة المفروضة وسواها من صدقات تطوعية مؤقتة أو دائمة كالوقف

ولن يكون هذا إلا باقتحام العقبة: "فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ" (البلد:11-19)، فكم من مسلم يعيش ذل الرق والعبودية من خلال الحاجة التي تقهره، والفقر الذي يهلكه، والبطالة التي تؤرقه، فلا أقل من اقتحام العقبة وتحرير رقبته، ليعيش مستور الحال موفور الكرامة.

وهذا الاقتحام للعقبة ليس إحسانا فرديا اختياريا (تطوعيا) ولا واجبا شخصيا موكولاً إلى ضمائر الأفراد فحسب، بل هو اقتحام يجمع بين فكرة الحق وفكرة الواجب -فهو ليس أسيرا لمفهوم الإحسان الذي يمثل في أغلب الأذهان واجبا لا حقا- وذلك من خلال الزكاة المفروضة وسواها من صدقات تطوعية مؤقتة أو دائمة كالوقف.

ففي المال حق سوى الزكاة ومن عناصر البر إيتاء المال تطوعا بحب وطيب نفس لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، جنبا إلى جنب مع إيتاء المال فرضا بالزكاة، وفي هذا يقول الله تعالى: "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (البقرة:177).

ورمضان فرصة للجمع بين الحسنيين: الزكاة المفروضة والصدقات التطوعية تحقيقا لتكامل الجسد المؤمن الواحد الذي صوره النبي -صلي الله عليه وسلم- خير تصوير بقوله: "مَثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (رواه مسلم) ، وسعيا في نيل أفضل الأعمال، فقد سئل النبي -صلي الله عليه وسلم-: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إدخالك السرور على مؤمن أشبعت جوعته أو كسوت عريه أو قضيت له حاجة" (رواه الطبراني) ، وفرارا من ظلم المسلم أخيه المسلم لقوله -صلي الله عليه وسلم- "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه" (رواه البخاري). ومن ترك أخاه المسلم يجوع ويعرى وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد أسلمه كما يقول ابن حزم.

إننا اليوم في أمسّ الحاجة إلى تلبية مشاعر المحتاجين، وإرواء عطشهم، وسد رمقهم، بما أنعم الله علينا به من إخراج الزكوات والصدقات، بل إن وسائل التراحم في رمضان تمتد لأكثر من ذلك، فقد أباح الإسلام الإفطار للشيخ الكبير والمرأة والعجوز والمريض الذي لا يرجى برؤه إذا لم يطيقوا الصيام، على أن يطعموا عن كل يوم مسكينا، ورخَّص للحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما كذلك، فقال تعالى: "فَمَنْ كَانَ مِنْكمْ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِيْنَ يُطِيْقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِيْنٍ" (البقرة: 183).

رمضان فرصة عظيمة لبذل المال وإنفاقه في وجوه الخير، فالصدقة وقاية من البلاء والكروب، وشفاء للأجساد والأرواح، ومغفرة للخطيئة والذنوب، وتوسعة للأرزاق والبركات، وإحساس بقيمة النعمة مقابل الفقر والجوع الذي نراه حاضرا

فرمضان فرصة عظيمة لبذل المال وإنفاقه في وجوه الخير، فالصدقة وقاية من البلاء والكروب، وشفاء للأجساد والأرواح، ومغفرة للخطيئة والذنوب، وتوسعة للأرزاق والبركات، وإحساس بقيمة النعمة مقابل الفقر والجوع الذي نراه حاضرا في حياة يتيم يترقرق الدمع في عينيه لا يجد من يواسيه، وأرملة أقعدها الزمن لا تجد من يقف بجانبها، وأطفال يعيشون ذل المسألة ولا يجدون ما يكفيهم، وعجوزا دار به الزمان ولا يجد من يعوله، فما أحرانا أن نرق لآلام هؤلاء، وأن نمد يد العون والرعاية والبذل لهم، من دون من ولا أذى.

ومن الوسائل العملية لذلك توزيع حقيبة رمضان من المواد الغذائية على المحتاجين، وفتح موائد الإفطار في الطرقات والأماكن العامة، بل فلتحمل كل أسرة عندها زاد أسرة أخرى لا زاد لها، ويكفينا اقتداء في ذلك مقولة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في أزمة الرمادة: "لو امتدت المجاعة لوزعت كل جائع على بيت من بيوت المسلمين، فإن الناس لا يهلكون على أنصاف بطونهم".

twitter.com/drdawaba
التعليقات (0)

خبر عاجل