يعيش
السودان منذ أربع سنوات، ما يسمى بعصر البراهنة والدقالوة، لأن
الأمور فيه آلت بعد سقوط حكم حزب المؤتمر الوطني، برئاسة عمر البشير، في نيسان/ أبريل
2019 إلى الجنرال عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، الذي نصب نفسه رئيسا
لمجلس السيادة (رئاسة الدولة)، ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد مليشيا الدعم
السريع، الذي صار نائبا للبرهان في المجلس السيادي، مؤيَّدا برتبة فريق أول
العسكرية، وهكذا صار السودان دولة برأسين، كل رأس منهما أفرغ من فؤاد أم موسى.
تحالف الرجلان منذ نيسان/ أبريل من عام 2019 لتقاسم السلطة بالتنكيل
بالقوى المدنية الرافضة لوجود العسكر في هياكل الحكم، وبالتعويل على السند
الإقليمي، ولكن المركب السوداني أوشك على الغرق في ظل خضوعه لإرادة وإدارة قبطانين
لا خبرة لأي منهما في مجل الإبحار في محيطات السياسات الخارجية والداخلية
المتلاطمة، وبانهيار الأوضاع الاقتصادية والأمنية عموديا في ظل حصار اقتصادي
ودبلوماسي أوربي ـ أمريكي، تضعضع ذلك التحالف، ثم تحول إلى مشاكسات حدت بكل طرف أن
يبحث عن كفيل يستقوي به، فاختار البرهان إسرائيل لأنها ربيبة الغرب، بحسبان أنها
ستفتح له مغارات علي بابا في أوروبا وما وراء المحيط الأطلسي، بينما يراهن حميدتي
على روسيا ممثلة في مرتزقة شركة فاغنر الذين ينشطون في ليبيا وأفريقيا جنوب
الصحراء.
منح الرئيس السوداني السابق عمر البشير فاغنر الروسية حق ممارسة
العمل في مجال مخلفات التعدين في الذهب، (بينما تحظر القوانين السارية هذا النشاط
على الشركات الأجنبية) وكان ذلك مكافأة لرئيسها يفغيني بريغوزين الذي رتب لقاءين
بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين،
والبشير في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وتموز/ يوليو 2018، وكانت المحصلة أن شركة
فاغنر صارت تعمل في مجال التعدين في السودان بلا رقيب أو حسيب، بل إنها تستخدم أسطولا
خاصا من الطائرات والمروحيات لنقل الذهب إلى روسيا دون الخضوع لأي مراقبة أمنية أو
جمركية من قبل السلطات السودانية، بل وتمادت بأن هاجمت في شباط / فبراير الماضي
مجموعات من المُعَدِّنين السودانيين في منطقة أم دافوق في جنوب إقليم دارفور،
واستولت على مناجم الذهب الخاصة بهم، وكل ذلك وعسكر البراهنة والدقالوة لا يحركون
ساكناً.
ومعلوم أن فاغنر هي مليشيا الدعم السريع الروسية، وكما أن الدعم
السريع السوداني صار جيشا موازيا للجيش الرسمي، ويمارس الارتزاق في المحيط
الإقليمي، فإن فاغنر صارت مخلب القط الروسي في إفريقيا، ثم وافق شن طبقه، فنشأ
تحالف بين فاغنر وقوات الدعم السريع، وتتهم الحكومة التشادية فاغنر صراحة بأنها
تقوم بتدريب مقاتلي المعارضة التشادية في جمهورية أفريقيا الوسطى للإطاحة بالحكومة
التشادية، كما تتهم مليشيا الدعم السريع السودانية بأنها متواطئة مع فاغنر، وقامت
بإغلاق الحدود مع إفريقيا الوسطى في منتصف شباط/ فبراير الماضي في سياق الإعداد
للمخطط الانقلابي، ومعلوم أن روسيا تدعم نظام الحكم في أفريقيا الوسطى برئاسة
فوستين تواديرا المسنود بمليشيات "أنتي بلاكا" المسيحية، بينما تسيطر
المعارضة ممثلة في مليشيا "سيلكا" ذات الغالبية المسلمة على نحو ثلثي
مساحة البلاد، وتسعى فاغنر إلى سحقها للسيطرة على مناجم الذهب واليورانيوم فيها ثم
تتمدد في تشاد.
يبدو أن البرهان وحميدتي أدركا أن كفلائهما الإقليميين من فئة "عبد المعين المحتاج إلى من يعينه"، وطفقا من ثم في الاستقواء بالقوتين الكبيرتين روسيا والولايات المتحدة، مواصلة لنهج الارتزاق على حساب الوطن، بما يضمن لهما السلطة والثروة
وهكذا لم تجد أمريكا وحلفاؤها الأوروبيون سبيلا لاحتواء النفوذ
الروسي سوى احتضان عبد الفتاح البرهان، ذي الشخصية الزئبقية المستعد لتبديل
الولاءات بنفس السرعة التي يقول بها الشيء اليوم ونقيضه غدا، فكان أن انقلب
البرهان على حميدتي، وصار يطالب وبإلحاح بأن تندمج قوات الدعم في الجيش النظامي
فتصبح خاضعة فقط لإمْرته، بوصفه القائد العام للجيش، وهذا ما جعل حميدتي يستشعر
الخطر ويهرع إلى العاصمة التشادية انجمينا ليطمئن الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي
بأن قوات الدعم السريع لن تتواطأ مع أي حراك يهدف إلى زعزعة الأوضاع في تشاد.
بموازاة ذلك قام البرهان بتكثيف تواصله مع الولايات المتحدة بل أوفد إليها
مدير الاستخبارات العسكرية السودانية في زيارة غير معلنة (كشفت مجلة أفريكا
إنتليجنس النقاب عنها)، لخلق قنوات اتصال مع المخابرات الأمريكية، كما فعلت حكومة
عمر البشير، وكان مديرو جهاز الأمن فيها يزورون واشنطن عدة مرات في السنة لتقديم
فروض الولاء، ولتقديم المعلومات عن "الجماعات المتطرفة"، وذلك بعد أن
أدركت حكومة البشير أن امتثالها للأوامر الأمريكية بطرد أسامة بن لادن من السودان،
ثم تسليم إيليتش راميريز سانشيز الشهير بـ "كارلوس" إلى الحكومة
الفرنسية، لم يشفع لها كثيرا، وظلت العقوبات الأمريكية سارية عليها حتى سقوطها عام
2019، ويفوت على البرهان أنه أقل شأنا عسكريا وسياسيا من عمر البشير، وأن أمريكا
تدرك هشاشة وضعه وتستخدمه بيدقا في حربها غير المعلنة على فاغنر، ثم تلفظه لفظ
النواة لتحتضن قيادة سياسية أكثر قابلية للبقاء فاعلة في المسرح السياسي.
ويبدو أن البرهان وحميدتي أدركا أن كفلائهما الإقليميين من فئة
"عبد المعين المحتاج إلى من يعينه"، وطفقا من ثم في الاستقواء بالقوتين
الكبيرتين روسيا والولايات المتحدة، مواصلة لنهج الارتزاق على حساب الوطن، بما
يضمن لهما السلطة والثروة، فقيادة قوات الدعم السريع قفزت بحميدتي من تاجر دواب إلى
ملياردير، بينما البرهان وحفنة من جنرالات الجيش السوداني يديرون مؤسسات اقتصادية
ضخمة تصب عائداتها في جيوبهم وليس في الخزينة العامة، وكلا الرجلين على استعداد
لبيع كل ما يمكن بيعه لصاحب العطاء الأعلى، نظير الحصول على السند اللازم للبقاء
في دست الحكم والإمساك بمفاتيح الخزائن.. وقريبا سيعود المقاتلون التابعون لحركات مسلحة في دارفور متحالفة مع
البرهان الذين ظلوا يرتزقون بالحرب في ليبيا، فيتسع ماعون الارتزاق، وقد يصبح
السودان ساحة لمواجهة أمريكية ـ روسية بالوكالة.