عندما قال الممثل المصري الراحل رشدي أباظة إن "السينما
همبكة"، قامت قيامة النقاد عليه، وكان أباظة يعني بذلك أن النجومية المزعومة
للعاملين بالسينما، تتحقق بأساليب ملتوية، من بينها التصريحات الكلامية والمظاهر
البراقة، ولم أجد وصفا لما يقوم به رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش
السوداني عبد
الفتاح البرهان، لإثبات وجوده وترسيخ أقدامه في القصر الجمهوري، أفضل من
"الهمبكة"، التي هي مزيج من الفهلوة واللولوة، فعلى مدى السنوات الأربع
التي جلس فيها في القصر حاكما، لم يبدر منه قول أو فعل يشي بأنه رجل دولة وسياسة،
بل ما فتح فمه إلا وفضح افتقاره للكياسة وبؤس تحصيله من العلم وفن
السياسة.
رضخ البرهان لضغوط القوى المدنية الداخلية والمجتمع الدولي لتنحيته
والعسكر عموما عن الحكم، ووقع على اتفاق إطاري يقضي بذلك في الخامس من كانون
الأول/ ديسمبر من العام الماضي، ومنذ يومها وهو يناور ويتكتك كي يتنصل من تعهده
ذاك: تارة بالمطالبة بتوقيع المزيد من الأطراف على تلك الوثيقة، وتارة بترديد
مسؤولية الجيش في حماية الدستور وكفالة الانتقال إلى الدولة المدنية الديمقراطية،
ولا عليه أنه ورط الجيش والقوات النظامية عموما في الاعتداء على الدستور والحكم
المدني، والفتك بالقوى المدنية المناهضة لتسلطه على الشعب والوطن.
محمد حمدان دقلو (حميدتي)، كان نسيا منسيا حتى عام 2006 عندما
استأجرته حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير كي يكسر شوكة حركات التمرد المسلحة في
دارفور، فشكل الرجل مليشيا من أفراد قبيلته (الرزيقات) بمسمى قوات الدعم السريع،
فتكت كما جيوش التتار بالإنسان والزرع والضرع في كل مكان دخلته، وشيئا فشيئا قويت
شوكة تلك المليشيا من حيث العدد والعدة، حتى صارت ندا للجيش الوطني، وعندما عمت
السودان مظاهرات ضخمة تطالب برحيل عمر البشير وجماعته السياسية، قرأ حميدتي المشهد
قراءة صحيحة، مدركا أن المد الجماهيري لا بد وأن يؤدي إلى إسقاط الحكومة، وأحجم عن
المشاركة في قمعه.
وذلك ما أدركته أيضا اللجنة العسكرية الأمنية التي كان مناطا بها
حراسة نظام البشير، فقررت الانقلاب عليه تحت غطاء الانحياز للإرادة الشعبية، وكان
لها ذلك في نيسان/ أبريل من عام 2019، ومنذ يومها صار حميدتي الرجل الثاني دستوريا
ـ بعد البرهان ـ في هيكل الحكم حيث حظي بمنصب نائب رئيس مجلس السيادة، وعندها أخطأ
في قراءة المشهد، بعد أن ارتفع سقف طموحه، وحسب أنه يملك "خامة" رجل
الدولة، وصار يبذل المال والوعود لشيوخ القبائل ورجالات الطرق الصوفية والمتردية
والنطيحة وما أكل السبع، لتسويق نفسه كرئيس دولة، وأطلق جنوده في شوارع المدن
ليشبعوا المواطنين تنكيلا وإذلالا.
رضخ البرهان لضغوط القوى المدنية الداخلية والمجتمع الدولي لتنحيته والعسكر عموما عن الحكم، ووقع على اتفاق إطاري يقضي بذلك في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، ومنذ يومها وهو يناور ويتكتك كي يتنصل من تعهده ذاك
ثم ومنذ أواخر عام 2022، بدأ حميدتي في التصريح بأمور تؤكد اتساع
الشقة بينه والبرهان، ويقدم نفسه على أنه شديد التمسك بالاتفاق الذي يقضي بخروج
العسكر من الحكم، فإذا بالبرهان يغيِّر تكتيك التنصل من اتفاق نقل السلطة الى
المدنيين، بجعل تنفيذ الاتفاق رهنا بدمج قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي
وشقيقه عبد الرحيم في القوات المسلحة، وهذا أمر يتجلى فيه افتقار البرهان إلى
"الحياء"، فقد ظل هذا الدمج مطلبا للحراك الشعبي منذ سقوط حكومة البشير،
بينما ظل البرهان يردد باستمرار أن تلك القوات جزء أصيل "سلفاً" من
القوات المسلحة، وأن الدمج حادث فعلا، وتتجلى قلة الحياء المقرونة بقلة الحيلة
أيضا، في أن يشترط البرهان ذلك الدمج، وكأن أمره بيد جهة أخرى غيره، وهو رأس
الدولة وقائد الجيش النظامي، ثم وكعادته أوعز لبوقه الخاص الفريق شمس الدين كباشي أن
يردد على المنابر مطلب دمج الدعم السريع في الجيش النظامي، وكل ذلك بالضبط من قبيل
الكيد لحميدتي، الذي سبق له التصريح بان مثل ذلك الدمج غير قابل للتحقيق.
ثم وفي التاسع عشر من شباط/ فبراير الجاري، عقد حميدتي مؤتمرا صحفيا
أكثر فيه من الغمز واللمز في البرهان وتابعه كباشي، محذرا من أن "المطامع
الذاتية وقصر النظر ستُلقي إلى التهلكة"، وأكد أنه منحاز للقوى المدنية
والشبابية التي تصبو لإحداث تغيير حقيقي في شكل وهيئة ومحتوى الحكم
"المدني"، ثم وصف اسقاط البرهان للحكومة المدنية برئاسة حمدوك بأنه كان
انقلابا عسكريا، وفي تلميح أقرب إلى التصريح قال حميدتي إن كبار المسؤولين في
حكومة البشير عادوا إلى مدارج ومراقي السلطة في ظل الانقلاب.
ما يؤكد أن البرهان يكيد علنا لحميدتي، هو أنه لم يقل شيئا عن مصير
نحو تسعة جيوش للوردات الحرب، الذين أنعم عليهم ببعض الكراسي في القصر والوزارات،
نظير دعمهم لانقلابه ومؤازرتهم لمخططه للبقاء في الحكم، بينما يقول مراقبو مجلس
الأمن الدولي أن تلك الحركات بدأت تمارس البلطجة داخل السودان، بإقامة سجون خاصة
بها، وبقطع الطرق لجباية الأموال عنوة من التجار وعامة المواطنين، ولا يبدي
البرهان أي قلق وآلاف من مقاتلي الحركات المسلحة في دارفور، الذين كانوا يقاتلون
في ليبيا إلى جانب قوات خليفة حفتر، بصدد العودة إلى السودان في ظل ترتيبات دولية
تقضي بذلك، والله وحده يعلم ماذا سيفعل هؤلاء لتعويض حرمانهم من دنانير حفتر.
أما أخطر مخططات البرهان التي قد تزج بالسودان في أتون حروب أهلية
مدمرة، فهي سكوته عن ظهور جماعات مسلحة علنا في وسط السودان بقيادة ضباط متقاعدين،
واستعراضهم للقوة في مناطق حضرية، والراجح عند مراقبي المشهد السوداني هو أن تلك
الجماعات صنيعة برهانية، يراد بها قلب الموائد وخلط الأوراق، بحيث يتم خلق حالة من
الرعب والقلق على السلم الأهلي، على أمل أن يؤدي ذلك إلى مطالبة جماهيرية باستمرار
حكم البرهان العسكري، بوصفه القادر على تحريك الجيش لاحتواء مثل تلك
"التفلُّتات".
البرهان وحميدتي كانا حليفين، واشتركا سويا في سرقة السلطة من
المدنيين الذين أسقطوا حكومة عمر البشير، وليس في اختلافهما الحالي نعمة على
السودان، فكلاهما دموي وانتهازي، وهناك بصيص أمل في أن توازن الرعب بينهما قد يمنع
دخولهما في صدام عسكري، ويرغمهما على التقهقر، فيصبح تشكيل حكومة مدنية ممكنا.