تستغرب بالتأكيد من حال المسلمين اليوم، حين تراهم مهزومين مكسورين، يكادون
يستجدون الاعتراف والرضا، بل والحماية من هذا أو من ذاك، حتى تظنهم أمة شحيحة الموارد
البشرية والمالية والاقتصادية والطبيعية والثقافية والحضارية. كيف هذا وقد كرمهم الله
تعالى ونعتهم بخير أمة أخرجت للناس؟ ليس هذا فقط، بل ويشهد الماضي والتاريخ أيضا على
عصور قد خلت، ساد فيها المسلمون، فسادت فيها قيم العدالة والمساواة، ولم نسمع فيها
عن ألقاب أو طبقات، وازدهرت فيها العلوم والمعرفة النقية غير الملوثة بجشع الاستغلال
والاحتكار، ولم نسمع فيها عن حقوق ملكية فكرية زائفة أو ديون مالية تعجيزية، وعمّ فيها
السلام والوئام حتى شمل جميع معتنقي الديانات الأخرى المختلفة القاطنين في كنف الدولة
الإسلامية؛ تحت منظومة قد يعتبرها الكثيرون اليوم يوتوبيا غير قابلة للتطبيق، إن لم
يروها ماثلة أمامهم على أرض الواقع.
لكن مع شديد الأسف، لم يدم هذا الوضع المثالي طويلا، وتحالفت قوى الشر من خارج
العالم الإسلامي ومن داخله، لتهدم هذا الصرح الحضاري العظيم. ومنذ ذلك الحين، والبشرية
جمعاء وليس المسلمون فقط، كما يظن العالم ومعه بعض المسلمين، تئِن وتدفع ثمنا باهظا لهذا التراجع والتقهقر الإسلامي. فلنستعرض معا وبكل موضوعية، ماذا خسر العالم بانحطاط
المسلمين، وماذا سيخسر أكثر من ذلك مع مرور الوقت باستمرار انتكاسهم وتدهورهم.
يدعي بعض المحللين والمؤرخين القدماء والمعاصرين، عمدا أو جهلا، أن الإسلام قد نجح في الانتشار سريعا، فقط تحت وطأة السيف، والبعض الآخر يبرر سرعة انتشاره بمهنة التجارة التي اشتهر بها العرب والمسلمون الأوائل، بل تجد البعض يعلل ذلك بسبب موقع مكة الاستراتيجي وسط الكرة الأرضية، لكن قليلا ما تجد أحدا يضع مضمون الرسالة نفسها التي انتشرت بسرعة خيالية في الحسبان
لكن بادئ ذي بدئ، ينبغي أن نسأل أنفسنا أولا قبل أن يسألنا غيرنا: ماذا في
جعبة المسلمين يجعل انحطاطهم خسارة للعالم أجمع؟ ماذا كان سيفعل ويحقق المسلمون، إن
كان لهم شأن في أي من المجالات، يكون قادرا على أن يحدث فارقا لحال البشرية اليوم،
بل لحالة الكوكب بأكمله؟ وفي المقابل، هل حل أحد محلهم وقاد العالم فعليا لمزيد من
الازدهار الحقيقي، دون تجرع خسائر هائلة، نتذوق بعضا منها الآن، خسائر قد تعيق الاستمتاع
بهذا الازدهار، بل ربما قد تعيق استمرار الحياة بالشكل الذي عهدناه على هذا الكوكب
لمئات القرون؟
لا شك أن أهم ما في جعبة المسلمين هو بالتأكيد كتابهم السماوي، القرآن الكريم،
الكتاب الذي كلفهم الله بحمله ونشره للعالمين، كرسالة سماوية أخيرة ونذير نهائي لكل
البشر.. رسالة تحمل أسسا وقواعد من رب الكون للتعامل الأمثل مع مكونات هذا الكون من
بشر وشجر وحجر. رسالة تحمل دساتير للأمم والشعوب، وقوانين وآدابا تضع حدا فاصلا بين الحق والباطل، بين العدل والظلم، بين الوسطية والمغالاة، بين الحقوق والواجبات،
بين الشخصي والعام، بين الإعمار والاستعمار، بين الانتفاع والاستغلال، بين المادي والروحي،
بين أهمية هذه الحياة الدنيا ومكانة الحياة الآخرة التي تليها.
رسالة لا يضاهيها أخرى، في خلق التوازن المفقود الماثل للعيان بشكل فجّ حاليّا على جميع المستويات؛ توازن بين الغني والفقير، بين القوي والضعيف، بين الفرد والمجتمع،
بين الحاكم والمحكوم، بين الإنتاج والاستهلاك، بين العمل والاستجمام، بين الطموح والقناعة،
بين دول العالم المتقدم، كما يسمون أنفسهم، ودول العالم الثالث، كما يطلقون علينا.
باختصار، هي رسالة إنسانية قبل أن تكون دينية في الأساس.
في هذا السياق، من الملفت لأي مراقب، أن يدعي بعض المحللين والمؤرخين القدماء
والمعاصرين، عمدا أو جهلا، أن الإسلام قد نجح في الانتشار سريعا، فقط تحت وطأة السيف،
والبعض الآخر يبرر سرعة انتشاره بمهنة التجارة التي اشتهر بها العرب والمسلمون الأوائل،
بل تجد البعض يعلل ذلك بسبب موقع مكة الاستراتيجي وسط الكرة الأرضية، لكن قليلا ما
تجد أحدا يضع مضمون الرسالة نفسها التي انتشرت بسرعة خيالية في الحسبان. ألا يمكن
أن يكون السبب الحصري والوحيد في انتشار الإسلام بتلك السرعة الهائلة، هو فقط مضمون
الرسالة نفسها التي أرسلها الله نورا وهدى ورحمة للعالمين لتخرج الناس كافة من الظلمات
إلى النور؟
من اطلع على رسالة الإسلام بموضوعية وحيادية، لن يكابر بالاعتراف بأن الإسلام
انتشر بهذه السرعة الهائلة، بفضل مضمون رسالته التي أرسلها الله سبحانه وتعالى، لتلامس
القلب قبل العقل، لتلامس الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها، لتلامس احتياجات
الناس الحقيقية ومتطلباتهم، لتلامس نقاط قوة البشر ومكامن ضعفهم، لتلامس وضاعة الشهوة
البشرية وسمو الروح الإنسانية، لتلامس دور البشر المحدد لهم في هذا الكون، وكم الموارد
المتاحة لهم من قدرات ومهارات شخصية وثروات طبيعية أخرى. انتشر الإسلام بهذه السرعة؛ لأنه قدم باختصار حلولا سحرية للإنسان، لم يجدها من قبل في غيره من الفلسفات والأفكار
والأيديولوجيات. قطعا لن يسعنا المجال هنا لسرد جميع مكامن قوة الإسلام في حل، بل
دوره في الوقاية أصلا، من مشاكل وأزمات كثيرة قبل اشتعالها وتفاقمها.
كان هذا في فجر الإسلام، فماذا عن حال البشرية الآن؟ دون
أدنى شك، لا يعيش العالم اليوم أزهى عصوره، من حيث الأزمات والصراعات السياسية الدولية،
والركود الاقتصادي العالمي، وحالة الكوكب المناخية، وبدء شح الثروات الطبيعية في شتى
بقاع الأرض، وأخيرا وليس آخرا، تردي حالة البشر الصحية سواء البدنية أو النفسية.
وهنا يتساءل كل ذي عقل أيا كانت خلفيته
الفكرية: كيف وصل العالم لهذا الحال البائس؟
وما هو المخرج منه، وكيف نتفق جميعا على منهج وقيم عالمية، ربما إن أسرعنا الخطى،
ننقذ بها ما يمكن إنقاذه من الكوكب وما عليه؟
أي ناصح أمين سيجيب؛ إن كان لهذا الكوكب وما عليه من خالق، فلربما من الفطنة
والدهاء أن نتوجه ربما إلى إرشاداته، كما يتوجه المستخدم لأي منتج إلى صانعه، خاصة
عند مواجهة مشاكل فنية تتعلق باستخدام هذا المنتج أو صيانته. ويزيد الاحتياج لهذا التوجه
أكثر، عندما تزيغ الأبصار باتجاه نخب العلماء والمفكرين والحكماء، بحثا عن حلول حقيقية
لأزمات العالم الراهنة، لكنها لا تجد مخرجا حقيقيا بالأفق، يبطئ ربما من وتيرة ازدياد
الخلل على شتى الأصعدة.
وما هو الحافز الذي سيجبر كل من يساهم في تهميش وترسيخ تراجع وتقهقر وانحطاط المسلمين، على سماعهم والإنصات لما يحتويه كتابهم السماوي من حلول وإرشادات، ربما تستطيع أن تخرج البشرية كلها من النفق المظلم الماثل أمامها؟
وفي رحلة البحث عن تلك الإرشادات الإلهية، سيكتشف أي باحث يتحلى بالموضوعية
أن القرآن الكريم دونا عن غيره، هو الذي يحمل شريعة وأحكام وقوانين تنظم العلاقة،
ليس فقط بين الإنسان وربه، كما هو موجود بالفعل في الكتب السماوية الأخرى، بل أيضا،
وهو الجاري البحث عنه، أسس تنظم العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان من شتى الديانات
والأعراق، وبين الإنسان والكائنات الحية الأخرى، وبين الإنسان والجماد من ثروات طبيعية
سخرها الله لتيسير حياة الإنسان على الأرض، بل وحتى بين الإنسان ونفسه من تناقضات ورغبات
وشهوات.
لكن في المقابل، أليس بديهيا أن نسأل أيضا، كيف يتسنى للقرآن الكريم، ككتاب
سماوي لا تعترف به سوى فئة من سكان العالم، تعاني أصلا من التهميش والتغييب والكراهية
المتزايدة، أن يتبوأ مكانته المرجوة، ويحقق دوره الطبيعي في استعادة هذا التوازن المنشود
على هذا الكوكب، بإعادة توزيع الحقوق والواجبات والأدوار، كما أخطرنا بها هذا الكتالوج
الإلهي العظيم؟ وما هو الحافز الذي سيجبر كل من يساهم في تهميش وترسيخ تراجع وتقهقر
وانحطاط المسلمين، على سماعهم والإنصات لما يحتويه كتابهم السماوي من حلول وإرشادات،
ربما تستطيع أن تخرج البشرية كلها من النفق المظلم الماثل أمامها؟
باعتقادي، لا بد لكي يتحقق هذا الهدف، أن يعترف العالم أولا بخسائره الفادحة
نتيجة تهميش المسلمين. نعم، يجب أن يعترف العالم أجمع أن من خسر بتراجع دور المسلمين
في حل أزمات البشرية والوقاية من أزمات هائلة مقبلة، ليس فقط المسلمون، بل الحقيقة
الدامغة هي أن المليارات من البشر يتأوهون حاليا بسبب التغول الجامح لرأس المال الأهوج،
والسياسات الظالمة، والمعايير المزدوجة، والتكنولوجيا الطائشة، والأوبئة والأمراض المصنعة،
والتفاوت الهائل بين الغني والفقير، والموجات غير المسبوقة من الهجرة القسرية المعروفة
بالهجرة غير الشرعية، وتغير المناخ، وتلوث البيئة، وقلة وشح الموارد الطبيعية، التي
يرجع كلها -وليس معظمها- لأسباب بشرية بحتة، تتعلق كلها بانعدام العدالة، وإدمان الهيمنة،
وتفشي الأنانية، وانتشار الفساد، وسيادة قانون الغاب، سمات يحظرها القرآن حظرا باتا في معظم آياته.
ولأن العالم كما نعلم مسبقا من واقع التجربة والاطلاع، لن يعترف بهذا من تلقاء
نفسه بالطبع، فسنحاول في هذه السلسلة من المقالات أن نعري خسائره بأنفسنا، وأن نكشف
له، بالاستعانة بمصادر موثوقة وغير إسلامية قدر المستطاع، حتى لا يتهمنا أحد بالتحيز
وانعدام الموضوعية، ماذا صنع هو بالكوكب ومن عليه، وهو يكابر بأن الدين أفيون الشعوب،
وبأن الإسلام خاصة، دين لا يمكن أن يساهم في ركب
الحضارة، بل هو مجرد عقيدة -كما يدعون-
تدعو لأفكار إرهابية متطرفة ومتخلفة. وسنرد عليه عمليا بأن كتاب المسلمين السماوي
يحتوي على حلول ستساهم قطعا في حل جميع الأزمات التي خلقها في الأساس من لا يؤمن به،
وفك شفرات المعضلات التي حلت بالبشرية التائهة والحائرة بين طموح التقدم، وخسائر هذا
التقدم على جميع المستويات.
ماذا سيربح العالم بنهضة المسلمين، وماذا خسر العالم بالفعل بتراجع المسلمين، بل ماذا سيخسر أكثر باستمرار تراجعهم وتقهقرهم؟ لعلنا نتمكن من إطلاق نداء تسامح ومحبة لكل البشر، كفاكم عنصرية وتمييزا ضد المسلمين، كفاكم كراهية وتشويها للمسلمين، وهذه المرة لن يكون هذا النداء من أجل المسلمين، بل من أجل إنقاذ مستقبل البشرية
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، وماذا سيربح بنهضتهم، هو ما سنستعرضه معا،
في هذه الرحلة الوثائقية الاستقصائية الشيقة، المؤلمة كثيرا في بعض تفاصيلها، عندما
سادت الفوضى والمادية وشريعة الغاب، لكن المضيئة أيضا في بعض محطاتها، عندما سادت
قيم العدالة والحرية والكرامة الإنسانية والوسطية؛ الوسطية في الإنتاج والاستهلاك،
في الماديات والروحانيات، في الامتلاك والاستغناء، في الاهتمام بهذه الحياة الدنيا
المؤقتة وعدم تجاهل الحياة الآخرة الدائمة التي تليها.
نتمنى لكل القراء الكرام رحلة مثمرة في أرجاء الكرة الأرضية وأزمانها، حين نستعرض
أحداث مفصلية غيرت مجرى حياة الإنسان للأبد على هذا الكوكب، حين نستعرض وبشكل مختصر
تاريخ الأمم والحضارات المتعاقبة وأسباب علوها وخفوتها، حين نستعرض مبادئ رسالة الإسلام
التي أنزلها الله على البشرية كحل إلهي أخير ونهائي لمشاكل البشرية وأزماتها حتى يرث
الله الأرض ومن عليها، وحين نستعرض تراجع دور المسلمين بأيادٍ خارجية وبمعونة من داخله،
وآثار ذلك على البشرية حتى وصلت لحالها اليوم، التي وإن قطعت أشواطا مذهلة في إبراز
قدرات الإنسان الهائلة في الإبداع، لكنها في ذات الوقت، أظهرت أيضا مدى هشاشة هذا
التطور ودوره السلبي، إن ظل على حاله، في خلق مشاكل ستعيق الاستمتاع بهذا التطور، بل
ربما ستعيق استمرار الحياة ككل.
ثم نصل في النهاية إلى تبرير العنوان المطروح على شكل سؤال موضوعي: ماذا سيربح
العالم بنهضة المسلمين، وماذا خسر العالم بالفعل بتراجع المسلمين، بل ماذا سيخسر أكثر
باستمرار تراجعهم وتقهقرهم؟ لعلنا نتمكن من إطلاق نداء تسامح ومحبة لكل البشر، كفاكم
عنصرية وتمييزا ضد المسلمين، كفاكم كراهية وتشويها للمسلمين، وهذه المرة لن يكون هذا
النداء من أجل المسلمين، بل من أجل إنقاذ مستقبل البشرية ومستقبل أجيالها القادمة،
إن قدر للحياة أن تستمر. فلربما يحمل هؤلاء المسلمون، كما حملوا في الماضي حلولا لمشاكل
تسبب فيها غيرهم، لكنها قد تؤدي لكوارث أخرى قادمة، سيدفع ثمنها الجميع وليس فقط المسلمون.
[email protected]