قضايا وآراء

محمد أبو الغيط.. الذاهب إلى الضوء

عصام تليمة
محمد أبو الغيط انتقل من العمل بالطب إلى العمل الإعلامي والصحفي حيث عمل حتى وفاته
محمد أبو الغيط انتقل من العمل بالطب إلى العمل الإعلامي والصحفي حيث عمل حتى وفاته

امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بالترحم على الصديق الراحل الصحفي محمد أبو الغيط، والذي ظل أصدقاؤه ومحبوه، ودوائرهم المتماسة معه لبضع أيام تلهج بالدعاء لله عز وجل أن يشفيه، ويرفع عنه ما هو فيه، وذلك بعد دخوله في غيبوبة قبل وفاته بيومين، إثر إصابته بسرطان تطورت آثاره معه، على مدى أكثر من عام ونصف.

 

أبو الغيط طبيب، ولكنه انتقل من العمل بالطب إلى العمل الإعلامي والصحفي، وهو أمر جدير بالملاحظة في الحياة الإنسانية، فهناك كثيرون تركوا مجال العمل الطبي والهندسي مثلا، إلى العمل الإنساني، أو الصحفي والإعلامي والأدبي، فرأينا أطباء غادروا الطب إلى الأدب والكتابة الصحفية والبحثية.

 

أي أنهم انتقلوا من مداواة الأبدان إلى مداواة العقول والنفوس والقلوب، ومن بناء الجدران إلى بناء الإنسان، وفي كل خير ونفع، وفي كل عمارة للكون والحياة، وهو مطلب قرآني، وهدف كبير لخلق الإنسان، يقول تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) هود: 61، واستعمركم: أي طلب إليكم عمارتها، وسواء كانت العمارة مادية أم معنوية، فكل هذه الأعمال الصالحة تندرج تحت عمارتها.

 

ورغم ترك أبو الغيط الإخوان، لم ينشغل بالموضوع ويجعل له مساحة كبيرة في تفكيره، أو كتاباته، تشغله عن خطه ومراده، إلا لو التقى به في عمل بحثي، وربما أشار فقط إليه في أواخر أيامه، عندما كتب منشورين طويلين على صفحته على الفيسبوك، بعنوان: وردتي البيضاء الخارقة، حيث كتب تحت عنوان: خيبة الخديعة، يتحدث عن خديعته في كثيرين، فقال: (كما حدث بعد اكتشافي ارتكاب أشخاص كنت أظنهم مثاليين أتفاخر بكونهم قدوتي ومثلي الأعلى، لأخطاء فادحة، أفهم نواقص البشر، لكن الكوارث الأخلاقية ليست منها)، وإن لم يذكر من يقصد بذلك، سواء كجهة أو كأشخاص، وهو ينطبق على كثيرين يعرف من يتحدث مع أبو الغيط ويأنس بالحديث معه من يقصد، ومنهم تجربته في الإخوان، وغيرهم.

 

قبل وفاته كتب أبو الغيط تجربته في الحياة، وقد أطلق عليها هذا العنوان: (أنا قادم أيها الضوء) وقد نشر في كتاب عن دار الشروق بالقاهرة، ولعله يشير بالضوء هنا إلى الحقيقة الكبرى وهي الآخرة، فالحياة ما هي إلا نفق ينتهي بالضوء، والعنوان وما حمله من بعض كتابات نشرها على صفحته، تدل على مراجعات أبو الغيط مع نفسه، فقد اتضح من هذه الكتابات أن صاحبها يحمل نفسا وروحا شفافة، ولعل حكايته للرؤى المتكررة التي رآها، والأشواك التي تخرج من جوفه، وهي رؤيا تكررت معه أكثر من مرة، وقد كان ذلك قبل اكتشافه مرضه بالسرطان، وما يحمله له من آلام في معدته وجوفه، وقد فسرت رؤيته نفسها، وكان ما عاناه من مرضه جعله الله في ميزان حسناته.

 

كان آخر عهدي بأبو الغيط، يسير في نفس خط ذهابه للضوء، والبحث عنه، فرغم ما يعانيه من الألم، ومعرفته بأنه يعيش آخر أيامه، وساعاته في الحياة، كان مهتما ومشغولا بشأن حق الله عليه وهو: الصلاة، وكيف يصلي في حالته تلك، وهل يمكنه الجمع والقصر في حالته؟ ولم يكن يتواصل صوتيا، بل كتابة، فاتصل بي صديق مشترك هو الأستاذ محمد طلبة رضوان، يبلغني سلامه، وأنه يستفتيني في الأمر، وطلب منه فتواي تحديدا في الموضوع، وأن أوافيه بها حتى يرسلها له، وبالفعل كتبت له هذه الفتوى في رسالة على الواتس أب عن طريق طلبة، وكانت من أواخر الرسائل التي وصلته قبل دخوله في الغيبوبة التي أعقبتها وفاته، فأجبته بما يلي:

 

(أخي الحبيب محمد شفاك الله وعافاك وجعل ما يأتيك كله خيرا، وفي ميزان حسناتك، وأقول بخصوص مسألة الجمع في الصلاة: يجوز في حالتك الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، سواء جمع تقديم أو جمع تأخير، ويجوز لك القصر لو كانت المسافة من بيتك إلى المستشفى تقارب مسافة القصر، وهي في الأشهر 80 كيلو متر، وإن كان في عرف بعض الفقهاء أن تطلق كلمة السفر على كل ما يسمى سفرا سواء كان قصيرا أو طويلا، ولا اعتبار للمسافة.

 

ولا أعلم إن كانت تأتيك غيبوبة ولو مؤقتة، فهنا حكم آخر، أرجو أن تضعه في اعتبارك، فمن غاب وعيه مدة الفرض، أي مثلا: من صلاة الظهر لأذان العصر، فقد سقط عنه الظهر، ومن الفقهاء من جعله إذا وصل لخمسة فروض يسقط عنه صلاة فروض هذا اليوم، ومنهم من جعله أقل، ومنهم من قال بخروج وقت الفرض يسقط، لأن الإنسان لم يكن من أهل التكليف لهذا الفرض وقت وقوعه، وهو ما أفتيك به في حالتك.

 

فخلاصة الأمر هنا: يمكنك الجمع، ويمكنك القصر معه، ويمكنك عدم قضاء الفروض التي تقع في حالة يغيب عنك الوعي فيها فترة الوقت، وليس عليك القضاء، ويمكنك جبر ذلك بالتسبيح والذكر والنوافل الممكنة، أما إن لم تكن لديك قدرة على أداء حركات الصلاة، فأد منها ما يمكنك، إن لم تستطع قائما، فقاعدا، وإن لم تستطع قاعدا فعلى جنب، وإن لم تستطع على جنب، فيمكنك بالإيماء، أي بتحريك رأسك، فإن أصاب الإنسان عجز عن ذلك كله، ولكن لديه وعي بالحياة وإدراك، فيمكن أن يتخيل حركات الصلاة بأن يجريها على عقله، والله عز وجل يغفر لنا ولكم، ويتقبل منا ومنك، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشفيك، ويكتب لك الأجر والصبر، وتمام العافية في دينك ودنياك).

 

رحم الله محمد أبو الغيط، وجعل ما عاناه في ميزان حسناته، ورزقه الله إدراك الضوء في رحلته إلى الآخرة، ورزق أهله وولده الصبر والأجر.

 

[email protected]

التعليقات (2)
الكاتب المقدام
الجمعة، 09-12-2022 07:16 ص
*** -2- الفقرة التي أوردها الشيخ تليمة في مقالته عن الفقيد، غفر الله لنا وله، عن: "ترك ابو الغيط للإخوان، وعدم انشغاله بالموضوع بعدها.."، فقرة مبهمة وغير مفهومة، ومن غير الواضح لنا ما هو مقصد الشيخ تليمة من دسها في مقالته، وبالذات ما احتوت عليه من نقد مجهل، وتعميم مرسل لا يصح إطلاقة، لاتهامات لأشخاص في الجماعة بكوارث أخلاقية. فمن المعلوم أن جماعة الإخوان، كأي تنظيم سياسي أو جمعية أو مجال عمل، ينضم إليها أشخاص ثم يتركوها لظروف خاصة أو عامة يرتأونها، ولا تسريب عليهم، فالفقيد كما ترك ممارسة مهنة الطب، وقرر امتهان الصحافة والإعلام، وتركه لجماعة الإخوان، واتخاذه من قناة الحرة الإمريكية، ومن قبلها قناة أون تي في ON-TV مجالات جديدة لنشاطه الإعلامي، وهي منابر إعلامية ذات توجهات سياسية وطائفية معروفة، وهي خيارات شخصية له لا يلومه أحد عليها، وجماعة الإخوان عبر تاريخها انضم إليها وانفصل منها كثيرون، بعضهم قد اندس من الأصل داخلها كعيون للسلطة للتجسس على أعضائها، ثم انسحبوا منها بعد انكشاف أمرهم وانتهاء دورهم المخرب داخلها، والبعض الآخر انشق عنها بعد شقاق مع قياداتها، أواختلاف مع مبادئها واتجاهاتها، وبعضهم لظروف أو مصالح شخصية لهم، وغالبيتهم ابتعدوا عن الجماعة لما تعرض له أعضاءها من قمع إجرامي من السلطات القائمة وقتها، وما تعرض له وما زال أعضاء الإخوان من خصومات فاجرة، وتلفيق لاتهامات مكذوبة من شخصيات وأحزاب واتجاهات سياسية غالبيتها علمانية وطائفية حاقدة وكارهة لهم، وهناك من أعضائها السابقين من أرتأى أن دوره المستقل عن الجماعة أجدى وأنفع وأكثر مناسبة له في الحياة، وليس كل تلك الحالات للانفصال عن الجماعة مذمومة، بل أن بعض القيادات السابقة في الجماعة كانت لهم أنشطة خارجها، أكثر أهمية وأعظم أثراً، غفر الله لنا وللفقيد، وهدى الجميع لسبل الإصلاح النافع للأمة. ملحوظة هامة: هذا التعليق وجهة نظر شخصية خارجية، وليس دفاعاُ عن الجماعة وأعضائها، فهم أولى بذلك، وكاتب التعليق لم ينضم يوماُ للتنظيم، مع تقديره لأهمية دور الجماعة وإنجازاتها التاريخية.
الكاتب المقدام
الخميس، 08-12-2022 08:30 م
*** الموت من سنن الله الماضية في كل عباده، ولذلك نذكر أنفسنا بأن موتانا هم السابقون ونحن اللاحقون، والموت قد يأتي فجأة دون توقع قبلها من الإنسان بأن أجله قد حان، فقد يكون الإنسان في عز مرحلة الشباب، ويشعر بأنه في تمام الصحة والعافية، مقبلاً على الحياة فرحاً بها وسط أهله وأحبابه، يخطط لمستقبله لسنين طويلة يظن بأنه سيعيشها في الدنيا، وقد حذرنا منه في محكم الكتاب: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ? فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَاُ)، وصدمة الفراق بعد موت الفجأة على من يحيطون بالإنسان من أهله وأصدقائه ومعارفه تكون كبيرة، ووصفت في القرآن الكريم بالمصيبة «إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ»، أو قد يأتي الموت بعد مرض عضال طال أم قصر، يعاني منه المريض ومن يرعاه وأهله ومن يحيطون به، ولله في خلقه شئون، وله في ذلك حكمة، قد ندرك بعضها وقد نجهل أخرى، وهو ابتلاء صعب، يجب معه الرضى بما قسم الله لنا والصبر والاحتساب، وعظة موت الأحباب لنا، تحثنا على اغتنام كل يوم في الحياة الدنيا في حسن التوجه إلى الله تعالى، والتقرب إليه بالأعمال الصالحة، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، فحسب احمد شوقي: "دَقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلة ٌ له: إنَّ الحياة َ دقائقٌ وثوانــي"، وندعو الله أن يثبتنا، وأن لا يحملنا ما لا طاقة لنا به، وأن يحسن خاتمتنا، وأن يغفر الله لنا ويرحمنا نحن والفقيد وأهلنا والمسلمين أجمعين أحيائهم وأمواتهم.