هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يرى الداعية والسياسي الجزائري عبد الله جاب الله، في هذا الرصد لعمل الإسلاميين في العالم العربي، الذي كتبه للنشر المتزامن بين "عربي21" وصفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أن الفهم السيئ لمعنى التوكل والخلل في فهم الأولويات من عوامل الضعف الذي أصاب حياة المسلمين الدعوية والسياسية.. ويشرح ذلك بالتفصيل كما يأتي:
الفهم السيئ لمعنى التوكل:
من المعوقات التي تواجه عمل الإسلاميين الفهم السيئ لمعنى التوكل على
الله تعالى أفرز ـ في الغالب ـ مجموعتين بين جمهور التيار الإسلامي: واحدة
ترى التوكل على الله تعالى في ترك الأخذ بالأسباب والانصراف عن العمل واللامبالاة
بمستلزمات الحيطة والحذر،والثانية ترى التوكل على الله تعالى في توفير الأسباب والاهتمام
بالعمل والأخذ بمستلزمات الحيطة والحذر، وأن ذلك هو الذي يحقق لها أهدافها ويضمن
لها النجاح والنصر.
وكلتا المجموعتين على خطأ، فالأولى على خطأ، لأنها لم تأخذ بالأسباب، وما اعتبرته توكلا ليس
بتوكل، وإنما هو تواكل، والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أمرانا بالتوكل لا
بالتواكل، والثانية على خطأ، لأنّها علقت النجاح
على الأخذ بالأسباب؟ !
والفهم الصحيح الذي ينبغي أن يسود هو توفير الأسباب مع عدم الركون
إليها في النتائج، وإنما يفوض الأمر إلى الله تعالى فهو الفعال لما يريد، فالمسلم
الذي يفهم دينه فهما صحيحًا ويفهم ما جاء في القرآن والسنة في موضوع التوكل فهما
صحيحًا هو الذي يوفر الأسباب المعنوية وما يستطيع من الأسباب المادية ويضبط عمله
وجهده في توفير الأسباب بشرع الله تعالى، ويعتمد في النتائج على الله تعالى، فقلبه
متصل بالله تعالى، موقن بأنّه سبحانه الفعّال لما يريد.
وهذا الفهم هو الذي دلّت عليه النصوص الواردة في موضوع التوكل، وهو الذي
دلّت عليه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسير الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم
وغيرهم من خيار هذه الأمة في مراحل تاريخها المختلفة.
وعليه فهذا الفهم الصحيح هو الذي ينبغي أن يسود بين جماهير التّيار
الإسلامي وقادته، فإذا ساد هذا الفهم حسن عمل أبناء التيار وتنوع، وبذلك فقط يبدؤون السير في الطريق الصحيح
لامتلاك أسباب القوة المادية والمعنوية، فيجمعون بين عمل الجوارح الذي هو توفير
الأسباب، وعمل القلب الذي هو تفويض الأمر لله تعالى في النتائج والرضا بها، وتلك
هي عوامل النجاح وشروط النصر والتمكين .
الخلل في الفهم
من المعوقات الداخلية الخلل في الفهم، وأعني به كل ما اتصل بالفهم،
سواء الفهم المتعلق بالدعوة أو مناهجها أو أساليبها أو وسائلها أو المتعلق
بالإسلام نفسه؛ بأحكامه أو مبادئه وقواعده أو مقاصد، فالناظر لطروحات الدعاة ومواقفهم ومواقف أتباعهم يجد أن عند الكثير
منهم خللاً واضحًا في فهم الدعوة، فبعضهم يفهم أنّها مجرد تبليغ للإسلام، والبعض الآخر يفهم أنّها مجرد عمل خيري
يقدمه للمحتاجين إليه.. والبعض يفهم أنها عمل تعليمي وتربوي،والبعض يفهم أنّها عمل سياسيّ ثم يحصر
العمل السياسي في الانتخابات.
وكثيرون يرون أنّها واجب كفائي يؤدى بالجهد الفردي.. والبعض يرى أنها واجب كفائي يؤدى
بالجهد الجماعي، وقليل من يفهم الدعوة
فهمًا شاملاً: واجب الأداء بالجهدين الفردي والجماعي..
والبعض ممن يؤمن بوجوب العمل الجماعي تتضخم الجماعة عنده حتى تصير
عنده أهم من الدعوة نفسها، فتراه يتخلى عن الدعوة لأتفه الأسباب ويتمسك بحزبه أو
جماعته أو بعنوانها، ويخضع جميع مواقفه وعلاقاته لموقف الآخرين من عنوانه وتنظيمه
أو قيادته.
الناظر لطروحات الدعاة ومواقفهم ومواقف أتباعهم يجد أن عند الكثير منهم خللاً واضحًا في فهم الدعوة، فبعضهم يفهم أنّها مجرد تبليغ للإسلام، والبعض الآخر يفهم أنّها مجرد عمل خيري يقدمه للمحتاجين إليه.. والبعض يفهم أنها عمل تعليمي وتربوي، والبعض يفهم أنّها عمل سياسيّ ثم يحصر العمل السياسي في الانتخابات.
ولا شكّ أنّ مثل هذه المفاهيم بها الكثير من العلل، وأنّ تأثيرها على
سير الدعوة وانتشارها بالغ السوء، ومن ذلك أنّها تشوه الدعوة وتنتقل بها من كونها
دعوة ربانية تجمع ولا تفرق وتبني ولا تهدم، وتقرب الناس إليها وتحببهم فيها ولا
تنفرهم عنها إلى مجرد تنظيمات حزبية تغذي طمع أتباعها في الدنيا وحرصهم على خدمة
مصالحهم بكل الوسائل، وتساعد على شيوع الأمراض الفكرية واللّسانية والسلوكية بينهم
وبين غيرهم من المخالفين لهم في المنهج أو الوسيلة، فيزيد ذلك في تشويه صورة
رجالها لدى الأمّة ويعمق يأسها منهم.
ولا علاج لهذا المرض إلاّ بإشاعة الفهم الصحيح للدعوة منهجًا
وأساليبَ ووسائلَ، ونشر العلم بالضروري من علوم الشريعة ومبادئها وقواعدها
ومقاصدها، وتشجيع من يطلب ذلك ويسعى إليه.
قلة العلم بأنواع من الفقه ضرورية لسلامة السير:
من المعوقات أيضا قلة العلم بفقه الأولويات وفقه الموازنات وفقه
الاختلاف وفقه السنن وفقه المقاصد وإهمال الاهتمام به من معظم الدعاة وأتباعهم
جعلهم يخطئون في ترتيب الواجبات، وفي الموازنة بين الواجبات التي تتطلبها المرحلة
والإمكانات التي يتوفرون عليها، وجعل بعضهم لا يدري ما يقدم من أعمال وما يؤخر
فتجده يقدم ما ينبغي تأخيره ويؤخر ما ينبغي تقديمه، كأن يقدم ما هو كمالي على ما
هو حاجّي، أو يقدم ما هو حاجّي على ما هو ضروري.
ومثل هذا التخبط والأخطاء سبب لهم مفاسد وألحق بالدعوة أضرارًا هم في
غنًى عنها، وكان يمكنهم تفاديها لو كانت لهم عناية بأنواع الفقه التي أشرنا إليها .
ولا علاج لسلبيات الجهل بهذا النوع من الفقه إلاّ بالعلم به، فالعلم
به هو الذي يقود بتوفيق الله تعالى إلى القدرة على ترتيب الأولويات، فالأهم يقدم
على المهم، فالعقيدة مثلا تقدم على العبادة، والعبادة تقدم على الأخلاق، والضروري
يقدم على الحاجّي، والحاجّي يقدم على التحسيني، والواجبات تقدم على المندوبات
والنوافل، والمحرمات تقدم على المكروهات، والمصالح العامة تقدم على المصالح الخاصة
عند التعارض، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح وهكذا..
ويقود بتوفيق الله تعالى إلى القدرة على التدرج في تطبيق الأولويات
بمراعاة الأوضاع القائمة، وهي بلا شك أوضاع متغيرة وتختلف باختلاف المجتمعات أو
المجموعات التي يستهدفها الدعاة، كما تختلف باختلاف الأنظمة القائمة واختلاف طبيعة
حكامها، فما يمكن فعله في نظام ديمقراطي لا يمكن فعله في نظام استبدادي ـ مثلاً ـ وهكذا
يصار إلى تحديد واجب الوقت وإلى اختيار مادة الدعوة، وما يتم البدأ به وتقديمه،
وما يجب تأخيره ويحسن التأني فيه.
وقد راعى الله تعالى في نزول القرآن مبدأ التدرج، قالت عائشة رضي
الله عنها: "إنّـما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة
والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا
تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع
الزنا أبدًا".
وروى الشاطبي في الموافقات أنّ عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز
رحمهما الله قال يومًا لأبيه عمر: "ما لك يا أبت لا تنفذ الأمور ؟ فوالله ما
أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق" قال عمر: " لا تعجل يا بني،
فإنّ الله ذمّ الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإنّي أخاف أن أحمل الحق
على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة".