كتب

الرؤية الحداثية للنص الديني.. حرب والجابري وأركون نموذجا

الحداثة يمكنها تحويل الفكر العربي من العقلانية التقليدية والأحادية إلى العقلانية المفتوحة والمركّبة
الحداثة يمكنها تحويل الفكر العربي من العقلانية التقليدية والأحادية إلى العقلانية المفتوحة والمركّبة

الكتاب: "الحداثة في المنظور العربي المعاصر"
الكاتب: د. عامر محي الدين محمد، ود. ماهر وجيه إبراهيم
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، الطبعة الأولى 2022

(296صفحة من القطع الكبير) 

لا تزال الحداثة تشغل عقول المفكرين العرب، بوصفها من أهم المشكلات الفكرية في عصرنا الراهن، ولأنَها قدمت وصفاً كليّاً لمجمل التغيرات الفكرية، والاجتماعية والسياسية، والاقتصادية في المجتمع الغربي عموماً، والأوروبي تحديدًا، ولاتزال ً. فالحداثة هي بنت المشروع الغربي الذي حمل في سيرورته التاريخية ثورات متواصلة من التحولات الاستراتيجية من مفاهيم القرون الوسطى إلى النظريات والمشروعات الحداثية التي أعقبت المرحلة المذكورة، ناقلةً الفكر الأوروبي نقلةً نوعية من التقليدي إلى الحديث، ومؤثرةً في مُجمل سيرورة التاريخ الغربي، ابتداءً من عصر الإصلاح الديني والنهضة في القرن الخامس عشر الميلادي إلى الأزمنة المعاصرة. إذ تنعكس الأُطر الفكرية الحداثية الفرعية (الليبرالية، حقوق الإنسان، العلمانية ،الديمقراطية ، دولة الحق والقانون والمجتمع المدني) على الممارسة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية. فضلاً عن التكنولوجية، وعلى الواقع الغربي الحالي، مما يفسح المجال أمام التأويلية التحليلية لاكتشاف أثر النظرية الفكرية الحداثية في التطوّر الغربي الراهن.

إنّ مشروع الحداثة الغربية مشروع شامل يهدف إلى تطوير المجتمعات الغربية في المجالات جميعها، ويستند إلى فاعلية الإنسان في تحويل المفاهيم الحداثية من أنّها ثقافة نخبة إلى ثقافة شعبية، تؤكد مجموعة قيم مثل العدالة، الحرية والمساواة وغيرها. ساعد عصر التنوير في القرن الثامن عشر الميلادي على تطوير هذا المشروع الفكري الحداثي الغربي الذي كان يقف في طليعته فلاسفة كثيرون، أبرزهم: فولتير، وهيغل، إذ شكّلت أفكار هؤلاء أساساً لعملية التحديث الغربي فيما بعد. هذا التحديث أنتج، في ظل الفكر الغربي المعاصر في القرن العشرين، حقولاً علمية جديدة شكّل مُفكّروها أساس التقدم المعرفي "النظري والتطبيقي". أبرز هؤلاء المفكرين وليم جيمس (البراغماتية)، أنطونيو غرامشي (الديمقراطية الشعبية)، غاستون باشلار (العقلانية التطبيقية)، جان بول سارتر (الوجود الفردي العيني).

إذا كانت الحداثة على هذا النحو في العالم الغربي، فإنَّ الحداثة تعدُّ إشكالية في الفكر السياسي العربي المعاصر بوصفها ُ إحدى القضايا المهمة في تحويل الفكر العربي من العقلانية التقليدية والأحادية إلى العقلانية المفتوحة والمركّبة، أي بناء علاقة تفاعلية بين التراث والحداثة، لأنّ إحياء التراث يعني إعطاءه قيمة وظيفية حاضرة بتحويله إلى مؤثرات فاعلة في الثقافة السياسية العربية المعاصرة، وفي بناء المستقبل بالاعتماد على وسائل متعددة، منها تحقيق التراث الفكري ونشره، والتعريف به وإدراجه ضمن القاعدة الشعبية الواسعة في المجتمع العربي والإسلامي، لأنّ الحداثة الفكرية في المنظور العربي المعاصر لا تعني الاقتباس من الثقافة الغربية، وإنما حسن الاختيار والمفاضلة بين عناصرها، والتمييز بين الإيجابي والسلبي لجعلها منطلقاً إلى الإبداع والابتكار بنماذج يُعبَّر فيها عن ذاتية الفكر السياسي العربي المعاصر وتأصيل ثقافته، الأمر الذي يفرض توزيع هذا الفكر ضمن خريطة يُشكّل المفكرون العرب المعاصرون مرتكزاتها، أمثال: محمد أركون، وعلي حرب، ومحمد عابد الجابري.

هذا ما ما تطرق إليه الباحثان الدكتور عامر محي الدين محمد، والدكتور ماهر وجيه إبراهيم، في كتابهما المشترك، الذي يحمل العنوان التالي: الحداثة في المنظور العربي المعاصر، و المتكون من مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، والذي يحتوي على 296 صفحة من القط الكبير.

لقد قسم الباحثان الكتاب إلى خمسة فصول أساسية ،فقدَّما في الفصل الأول: عرضاً تاريخياً تناول فيه مراحل التطور الفكري للحداثة الأوروبية، ابتداءً من بروز ملامح هذا النشاط ورصد طبيعة تطوره عبر مختلف العصور (النهضة ـ التقدم العلمي والثقافي ـ التنوير)، وما تلا ذلك من ظروف وعوامل أدّت إلى تهيئة المناخ المناسب لولادة الفكر الأوروبي في العصر الحديث والمعاصر. هذا الفكر الذي ركّز على العقل بوصفه كياناً قابلاً للتوسع المعرفي، واستيعابه للمستجدات المتغيرة باستمرار في المجالات السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والعلمية.

وقام الباحثان في الفصل الثاني: بتوضيح أهم المفاهيم الحداثية التي ترسخت في الفكر الأوروبي المعاصر في المجالين السياسي والعلمي،ومنها الديمقراطية المركزية والعقلانية التطبيقية والبراغماتية. كما ركَّزَ الباحث في محاور هذا الفصل على دور المجتمع المدني في تشكيل الواقع الأوروبي. أي تحرير الإنسان الأوروبي من التبعية المطلقة للنظام الملكي في القرن الخامس عشر الميلادي، وتمكينه من تنظيم أفكاره بطريقة عقلانية تساعده على تنمية شخصيته العلمية، وإيمانه بقدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة القائمة على الملاحظة والتجربة، مما مكّنه من ممارسة تفكير منظّم لحل مشكلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وتضمن الفصل الثالث: عدّة محاور أساسية، أهمها: التعريف بالمشروعات الفكرية المعاصرة للمفكرين العرب (علي حرب، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري) وتحديد الاستراتيجية الفكرية لكلّ مشروع. فمشروع "علي حرب" تمثّل في توضيح أهم العقبات السياسية التي تواجه النظام العربي، منها غياب الحرِّية الفكرية وانفراد الحاكم بالسياسة العامة للدولة. إضافةً إلى توضيح أهمية الإصلاح السياسي في مواجهة هذه التحديات من خلال ممارسة شراكة الاعتراف، وممارسة الفكر التركيبي لأنه يمتلك القدرة على التكيف مع الأزمات الطارئة واحتوائها، كما رُكِّز على مفهوم العقل التواصلي بوصفه عقلاً حوارياً تعدّدياً يُخضع عقل الإنسان إلى النقد الذاتي. وذلك لتحريره من أحادية الأفكار، والتعاطي مع الواقع بطريقة تشاركية مع الآخر. 

أمّا مشروع "محمد أركون" فقد تجسد في ضرورة الاحتكاك المعرفي بين الشعوب. وذلك لفتح الحوارات، وإحداث التحولات الحضارية التي يمكن من خلالها صياغة رؤى فكرية تكسر المنطق المعرفي للعقل الدوغمائي ونزعته العنصرية، من خلال ممارسة ثقافة الأنثروبولوجيا الثقافية بين شعوب العالم، وتكريس العلمانية المنفتحة داخل المجتمع الوطني. وفيما يتعلق بمشروع "الجابري"، فقد اتبع منظور الفصل والوصل في فهم التراث العربي الإسلامي. أي النظر إلى التراث من حيث هو معاصر لنفسه، من خلال الاستفادة من قوته الإبداعية وقدرته على توظيف الوعي الإنساني والعلم المعرفي لتحقيق النهضة. والنظر إلى التراث من حيث هو معاصر لنا من خلال استيعاب وتجاوز ما يناسب المجتمع العربي، وتنقية ما ارتبط به من نواقص.

ويهدف الفصل الرابع: إلى التعريف بالفكر العربي الإسلامي وتحديد العوائق التي تواجهه وسبل تجاوزها، من خلال ممارسة التفكيك كإستراتيجية تقوم على تقويض الأساس المعرفي للنص، والذي يدّعي من خلاله امتلاك الحقيقة. وكذلك التعريف بالإسلام السياسي بوصفه نهجاً يوظّف النصوص الدينية لتحقيق أهداف سياسية مع إعطاء أهمية خاصة للمقولات التراثية التي لها الدور الكبير في بناء المواطنة، وتوطيد جسور التفاهم مع الآخر بما يُحقق المصلحة الوطنية التي تسهم في تنظيم العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع العربي وضمان حقوق الآخرين ومطالبهم.

ويشمل الفصل الخامس: عدّة مناهج أساسية في إطار مرحلة ما بعد الحداثة، منها النهج البنيوي في دراسة عمل السلطة داخل المجتمع الأوروبي، والمتمثل في الهيمنة على سلوكيات الفعل الإنساني بكلّ أبعاده. ولتجاوز هذا الواقع المفروض، لابدّ من ممارسة الحرية السياسية للفرد. أي تحريره من أيديولوجية السلطة، وإدماجها في البنية الاجتماعية للشعب الأوروبي. أي منحها الحماية السياسية له وإفساح المجال أمامه للمشاركة في الحياة السياسية. وكذلك المنهج التفكيكي في قراءة النص السياسي لاحتوائه واستثماره بطريقة عقلانية خارجة عم أيّ مرجعية أيديولوجية، وتجسيد التعددية الفكريّة في تحليل النص. كما عمدنا في هذا الفصل إلى دراسة مفهوم العقل الاستطلاعي بوصفه عقلاً شمولياً يحيط بالمعرفة النقدية الهادفة إلى تحرير الإنسان من الفكر الدوغمائي، وترسيخ التعددية الثقافية في التعامل مع الآخر بصورة إيجابية.

الرؤية الحداثية للنص الديني لدى المفكرين العرب:

يتناول هذا المبحث قضية أساسية مهمة تتعلق بالكيفية التي تعامل معها الفكر الحداثي مع النص الديني. بمعنى الطريقة التي نظر من خلالها هؤلاء المفكرين للنص الديني ومدلولاته. وبما أنّ إطار البحث المحدّد لنا، لا يسمح بالتعرض لكلّ آراء المفكرين العرب بهذا الخصوص، فقد اخترنا من بينهم ثلاثة نعتقد بأنّهم كانوا من أهم من تصدّوا لمعالجة هذه القضية. وهم: علي حرب، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري.

منهج علي حرب في قراءة النص: ينظر "علي حرب" إلى النص الديني بوصفه مجموعة متراكمة ومتلاحقة من العصور الزمنية التي لا يمكن الكشف عنها، إلاّ بامتلاك القدرة على فهم إخفاءات وبواطن النص المعرفي وأسراره. ولكن كيف يمكن الكشف عن هذه الإخفاقات والدلالات التي تحتويها النُصوص الدينية؟ يجيب "علي حرب" قائلاً: "يجب أن تقرأ النُصوص الدينية قراءة توليدية مبتكرة ومفتوحة على الأحداث والمشكلات الراهنة، أي يجب التعامل معها على حدّ تعبيره بعدّها رؤوس أموالٍ رمزية تحتاج إلى الصرف والتحويل لكي تُترجم إلى وقائع معرفية قابلة للتداول الفكري، بقدر ما تتيح إقامة علاقات منتجة مع الواقع والعالم المعاصر".

 

                                       علي حرب

يقول الباحثان في تعليقهما على منهج علي حرب:"يُفهم مما سبق بأن النص الديني بما يحمله من محتويات ليس سوى رموز تحتوي على دلالات وقيم ينبغي الكشف عن معانيها المستورة لكي تتحول إلى أدوات معرفية، توضح مبدأ التداول الفكري. ويعطي "علي حرب" مثالاً لما يجب أن تكون عليه قراءة النصوص، من خلال التوصية التي أوصى بها الإمام علي للأشتر النخعي في أثناء توليه لمصر، إذ قال في هذه الوصية: "أعلم أنّ الرعية طبقات لا يُصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض. فمنها جنود البلاد، ومنها كُتّاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها التجار، وأهل الصناعات، ومنها عُمّال الإنصاف والرفق، ومنها طبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، فليكن أحبُّ الأمور إليك أوسطّها في الحق، وأعَمَّها في العدل، وأجمعَها للرعية، فإنّ سخط العامة يُجحف برضا الخاصة، وإنّ سخط الخاصة يُغتفر مع رضا العامة. وإنّ عمود الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء، أهل العامة من الأمة، فليكن لهم ميول، واعمد لأعمّ الأمور منفعة وخيرها عاقبة"(ص211).

منظور محمد أركون في فهم النص الديني:

إنّ القارئ لكتابات كل من علي حرب ومحمد أركون حول فهم النص الديني، يجد أن الإثنين يتفقان على قضية واحدة. وهي ضرورة القراءة المبتكرة والمفتوحة للنص الديني، ولكنّ لكل منهما طريقته وأسلوبه في معالجة المسألة، فكلاهما يدعو إلى عدم الادعاء بامتلاك الحقيقة من فئة أو مذهب. وكلاهما ينتقد الفكر الأصولي في فهم الدين.

يرى الباحثان أنَّ "محمد أركون" في فهمه النص الديني ينطلق من تفكيكه وتحليله إلى فقرات متعددة، فالتفكيك ينطلق من التشكيك بما يزعمه الخطاب الديني من قول للحقيقة وامتلاكها، منطلقاً بذلك من عقلية دوغمائية ومبادئ عقلية رافضة لأية تفسيرات أخرى محتملة. فالحركات الإسلامية الأصولية مثل حزب النهضة الطاجيكي، وضعت مبدأ أساسي يتمثل في تجسيد الشورى في الحياة السياسية. أي التوصل إلى حلول بمساعدة اجتهاد العلماء الإسلاميين المتخصصين بشؤون القانون وحياة الأمة، كما يتحدثون في نصوصهم على أنّ الإسلام هو الدّين الأبقى للتوحيد الجوهري في الإسلام وليس للعبادات، وإنّما للعقيدة المتسامية التي تُصحّح الانحراف المرافق للوجود البشري والقائمة على السياسة النبوية التي تهدف إلى تهذيب النفوس ونقلها إلى الرُّشد. والغاية من هذه الأيديولوجية من وجهة نظرهم، هي العمل على نهضة المسلمين استناداً إلى تقاليدهم الحقيقية المتمثلة في القرآن الكريم والسّنة، بصفتهما المرجع الأساسي للمسلمين في كل مكان وزمان.

 

                                        محمد أركون

يقول الباحثان أنَّ "أركون" يهدف من خلال منهجه التفكيكي والتاريخي إلى فحص مبادئ التفكير الأصولي الإسلامي وآلياته. وذلك من أجل تطويق هذا الفكر ومعرفة الأهداف التي يسعى إلى ترجمتها على أرض الواقع. والمتمثلة في كسب المدّ الجماهيري الإسلامي لتوسيع دوره السياسي في الشؤون العامة للدولة بالتوازي مع رفضه لدمج العقلية الإسلامية في صلب الحداثة المعاصرة من جهة وإصراره على الاندماج في مخياله الاجتماعي متجاهلاً دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية لتجاوز سياجه العقلي المغلق من جهة ثانية(ص 215)..

وعلى هذا الأساس يتهم "أركون" الأصولية الراهنة، بأنها المسؤولة عن ممارسة العنف المهيمن في السّاحة الإسلامية المعاصرة، نتيجةً للقراءات الحرفية للنص الديني التي ينتهجها. ويرى "أركون" أنه لا وجود للتمييز بين السنّة والشيعة رغم وجود اختلاف بينهما في إطار الإيمان التقليدي لأنهما يعتمدان العقلية نفسها التي ترتكز على قدسية الأفكار المنضوية في احتكار الحقيقة التي تظهرها فرقة إزاء فرقة أخرى.

ويرى الباحثان أنَّ "أركون" في معالجته لمسألة تجاوز الفهم الأصولي للنصوص الدينية ، يطرح عدة حلول ممكنة، وذلك من خلال أداتين، الأولى: العقل الاستطلاعي. وتبرز أهميته من أنه عقل جماهيري يعانق هموم الشعوب العربية الإسلامية في ممارسة مهامه النقدية عبر أداتين متلازمتين، إحداهما عملية تطبيقية تبحث في جميع العقول الفرعية التي أنتجتها الحضارة العربية ـ الإسلامية في سبيل البحث عن ذات فاعلة إيجابية لها القدرة على التصدي للمشكلات التي تعترضها وإيجاد حلول لها، بهدف التخلص من التعصب الديني عبر إقصاء الحواجز وتكسير السياجات المغلقة التي تحاصر العقل الإسلامي منذ ظهوره إلى الآن. أمّا الأداة الثانية فهي ترتكز على تفكيك العقل التشريعي الإنساني المنسوب تعسُّفاً إلى المتعالي. وهذه الأداة يُطلق عليها "الإسلاميات القانونية" التي تتجسد في نزع الطابع المقدس عن العقل الإسلامي أصلاً وتشريعاً. وذلك لمنع خضوع هذا العقل إلى نص مثبت ومحدّد في مصحف مغلق، يُستغل على المستوى المعرفي وتحدده المؤسسات والقانون على المستوى السياسي والقضائي. فالدراسة العلمية للمقدس لا تعني الانتقاص منه أو المس به، وإنّما تعني فهماً أفضل لكلّ تجلياته وتحوّلاته وتحذيراً لبعض الفئات أو الأشخاص من التلاعب به لمصالح شخصية أو سلطوية(ص 218).

إنَّ ما قدمه "محمد أركون" من تحليل ونقد للفكر الأصولي الإسلامي وممارسات الأصوليين الإسلاميين لا يخلو من آراء ثاقبة وبعيدة النظر، إلا أنَّ ذلك يبقى على صعيد التنظير، ذلك أنَّ  ممارسة العقل الاستطلاعي من الإسلام التطبيقي والقانوني لإيجاد طريق نحو الحداثة المعاصرة، يصعب تحقيقه في الواقع الراهن. وذلك بسبب وجود عقول إسلامية تنافسية تحوّلت إلى عقول صلبة ومغلقة على ذاتها. وهذا يعني نزع صفة العقلانية عن هذه العقول ومنتجاتها الفكرية التي تشبّعت بمفاهيم وقيم موروثة عن عصور سيادة الشخصيات الكبرى التي شكّلت بنية معرفية ثابتة ومحددة داخل الثقافة الإسلامية.

محاولات الجابري في التعاطي مع النص الديني:

يرى "محمد عابد الجابري" في النص الديني معرفة خلفية توجّه مسار المثقف العربي دينياً وسياسياً وتنظيمياً لمعرفة الحاضر والاستهداء به للتكيف مع الواقع والآخر. فالتأويل الكلامي للنصوص الدينية لدى الجابري، فقد تجسّد في تحقيق أغراض سياسية تسترت بالعقيدة الإسلامية وليس من أجل حفظ عقيدة المسلمين، الأمر الذي سبّب فوضى مجتمعية تمثّلت في مختلف ألوان التفرقة التي قسّمت الأمة الإسلامية إلى فرق متحاربة يُكفّر بعضها بعضاً، وتدّعي كل واحدة منها أنها تُمثّل الفرقة الناجية، الأمر الذي أحدث خللاً في علاقة الدّين بالمجتمع، لأن حديث الفرقة الناجية الذي يشير إلى افتراق الأمة الإسلامية إلى ما يزيد على السبعين فرقة كُلّها في النار إلاّ واحدة، وقد أدّى دوراً خطيراً في تفريق هذه الأمة وانقسامها، وأسبغ الشرعية على حالات الاقتتال والتناحر بين فرقها ومذاهبها. وهو في حقيقته حديث تشكيكي ارتيابي تقسيمي يؤدي إلى تشظي روحي وتبعثر وجداني. فحديث الفرقة الناجية يشير إلى أنّ هناك أعداداً كبيرة من أُمة المسلمين ضالة، لا تستحق رائحة الجنة. والمرفوض في الجنة، مرفوض في الأرض، مرفوض في الحياة.

 

                                   محمد عابد الجابري

نستشف من الكلام السابق للجابري أن التأويل الخاطئ للنصوص الدينية وفهمها بعقلية مغلقة يؤدي إلى تصورات عدائية لا إنسانية تُشكل خطراً كبيراً على مستقبل المجتمع العربي من جهة، وتمنع إقامة جسور التواصل بين المواطن العربي ووطنه دون عقيدته الإسلامية من جهة ثانية.

ويقول الجابري في هذا الصدد: "إن عملية إشاعة التأويل بين عامة الناس دون ضوابط وقواعد، تُعدُّ سبباً رئيساً في ترسيخ الفتنة الفكرية والاجتماعية. فهذا التأويل للنصوص الدينية فرض نوعاً مُعيّناً من الفهم للدين، كان هو الوسيلة الاجتماعية التي تُمارس بها السياسة فكرياً وأيديولوجياً ضد الخصم السياسي دولة كانت أو معارضة".

من وجهة نظر الباحثين ،"تنطلق قراءة "الجابري" للنص الديني من صورة بنيوية تكوينية تستند إلى ثلاث خطوات منهجية أساسية. وهي: الطرح البنيوي الداخلي، والطرح التاريخي، والطرح الأيديولوجي. فالمعالجة البنيوية الداخلية تنطلق من النص كألفاظ ومعاني وقضايا إشكالية. بمعنى أن يُتَعَامل مع النص بوصفه معطىً وعدم الاهتمام بالأحكام الخارجية المسبقة حول النص، أو الانسياق وراء الرغبات الحاضرة. فلا بُدّ من الانطلاق من النصوص فهماً وتفسيراً وتأويلاً. فالمعالجة البنيوية لدى الجابري تعني: "ضرورة وضع جميع أنواع الفهم السابقة لقضايا النص بين قوسين، والاقتصار على التعامل مع النص كمدوّنة تتحكم فيه ثوابت، وتغتني بالتغيرات التي تجري عليه حول محور واحد. وهذا يقتضي محاورة فكر صاحب النص (مؤلف ـ فرقة ـ تيار) حول إشكالية واضحة قادرة على استيعاب جميع التحولات التي يتحرك بها ومن خلالها فكر صاحب النص. بحيث تجد كل فكرة من أفكاره مكانها الطبيعي (أي المسوّغ أو القابل للتسويغ) داخل الكل. إنّ القاعدة الذهبية هي هذه الخطوة الأولى، هي تجنُّب قراءة المعنى قبل قراءة الألفاظ (الألفاظ بوصفها عناصراً في شبكة من العلاقات وليس بوصفها مفردات مستقلة بمعناها) ينبغي التحرُّر من الفهم الذي تؤسسه المسبقات التراثية التي توضع بين قوسين، ثُم الانصراف إلى مُهمّة واحدة، هي استخلاص معنى النص من النص ذاته، أي من خلال العلاقات القائمة بين أجزائه (ص220).


التعليقات (1)
رياح
الثلاثاء، 08-11-2022 04:13 م
طبعا فقد تعبوا للوصول الى ما كنبوه ولكن لا اشارة لتاريخ الحكم الاسلامي من الصين الى الأندلس والذي استمر ثلاثة عشر قرنا كان فيها فترات رخاء وفترات انحطاط ولكن المهم جدا جدا أنهم حكموا عدد كبير من الأمم بعروقهم ولغاتهم وألوانهم وعاداتهم وتقاليدهم والجميع - الشعوب - عاشوا """" بسلام """" مع بعضهم البعض بغض النظر عما كان يجري في "" القصور "" من خلافات. مشكلتنا أننا نلاحق الغرب ونعتقد أن له الفضل في كل شيء وما وصل الى ما هو عليه الا من المسلمين علما وسياسة واجتماعيا. أما مقارنة الوضع الحالي """" لغثاء السيل """" مع الغرب فيجب دراسة الأسباب والكيفية التي أوصلت """ غثاء السيل """ الى ما هم عليه وهذا يأخذ وقتا طويلا جدا. فتاريخ الغرب الاستعماري مكتوب وموجود وتاريخ المسلمين موجود ومكتوب أيضا ولا مجال لمقارنة هذا بذاك وانما أخذنا قشور العلم والتكنولوجيا و """ الحرية والديمقراطية """ التي تعلموها من الاسلام وأصبحوا يتاجرون بها علينا بفضل جهلنا - غثاء سيل - لا نقرأ واذا قرأنا لا نفهم واذا فهمنا """" توقفنا """" عن الفهم. طبعا لله في خلقه شؤون فهو الخالق والجميع يسيرون بأمره وجميع الطرق تنتهي اليه جل جلاله.