كتاب عربي 21

النمو ومعدلاته الكاذبة.. مفاهيم ملتبسة (21)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600

تذكرت مع قراءتي لبيان الحكومة المصرية عن "معدل النمو الاقتصادي" ذلك الكتاب المهم الصادر في ستينيات القرن الماضي بعنوان "How To Lie With Statistics"، أو "كيف تكذب الإحصائيات"، والذي حرص مؤلفه "داريل هوف" (Darrell Huff) على بيان الكيفية التي يتم فيها استعمال التحليلات الإحصائية للمخادعة وخلق اللبس، كما شرح كيف يتلاعب الأشخاص الذين يريدون إخفاء الحقيقة بالأرقام للتوصل إلى إحصائيات تدعم مواقفهم.

وبعد مرور ما يقرب من ستين عاما على صدور الكتاب، بات البعض يرى أن ذلك المصطلح "الكذب الإحصائي"، قد تغير الآن في عصر المعلوماتية والتدفق الهائل للمعلومات والنسق المجتمعي الحديث، بحيث أصبح أمراً اعتيادياً يقوم به الجميع، خاصة لوكان متعمدا مع سبق إصرار وترصد، بقصد التمرير والتغرير والتضليل والتزوير.

وعلى ما يقول علال الفاسي: بين "الأرقام" تتوه القضايا الكبرى، فإن ترجمة بعض الأمور إلى صياغات رقمية في إطار العمليات "الإجرائية"، وتحويل التعريفات الإجرائية إلى تأشيرات وتحويل التأشيرات إلى أرقام، هي عمليات -إن لم تتسم بقدر من الحبكة المنهجية- في اختيار المؤشر ومدى ملاءمته ومناسبته، والمؤشر ومدى صدقيته، والمؤشرات ومدى فاعليتها (كفاءة وكفاية)، فإنها قد تصير إلى عكس المقصود في بيان الظاهرة موضع البحث، فقد يزيفها أو يتخير ويختزل بعض جوانبها في أشكال هامشية لا تمثل جوهر الظاهر أو نواتها الصلبة، بل قد تتعلق بالهامشي منها أو التافه فيها، لا لشيء إلا لأن ذلك أكثر مناطقها قابلية للقياس.

معدل النمو ليس مجرد رقم يلقى على عواهنه، ولكنه في حقيقة الأمر لا بد وأن يعبر وينعكس في حياة الناس ومعاشهم وفي عوائد النمو وتوزيعه، ومواجهة كل ما يتعلق بأحوال الفقر. ومن ثم فلدينا ثلاثة أسئلة جوهرية يجب طرحها: كيف يتولد معدل النمو؟ وعلى ماذا ينفق؟ وإلى من يذهب؟

ومن ثم من الضروري القول بأن معدل النمو ليس مجرد رقم يلقى على عواهنه، ولكنه في حقيقة الأمر لا بد وأن يعبر وينعكس في حياة الناس ومعاشهم وفي عوائد النمو وتوزيعه، ومواجهة كل ما يتعلق بأحوال الفقر. ومن ثم فلدينا ثلاثة أسئلة جوهرية يجب طرحها: كيف يتولد معدل النمو؟ وعلى ماذا ينفق؟ وإلى من يذهب؟ ومن هنا نؤكد على أن معدل النمو لا يمكن أن يقاس بإنجازات زائفة من مثل أكبر مسجد، أو أكبر كنيسة، أو أكبر برج، أو أكبر ساري علم، أو أكبر مدينة ترفيهية.. الخ؛ كل هذا الأمر إنما يعبر في الحقيقة عن اختلال الموازين والأولويات والمعايير التي يمكن أن يستند إليها النموذج التنموي.

في حقيقة الأمر فإن معدل النمو الذي أعلنته الحكومة المصرية والبالغ 6.6 في المئة خلال العام المالي 2021-2022 مقارنة بـ3.3 في المئة خلال العام 2020-2021، أي أن القول بأن معدل نمو الاقتصاد المصري تضاعف، لا ينطبق عليه إلا مصطلح "الكذب الاحصائي"، خصوصا أنه بعيد تماما عن الواقع من جانب وعن محاولات التبرير الرسمية للأوضاع الاقتصادية السائدة من تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا وكورونا، والتراجع الاقتصادي العام في الاقتصاد العالمي. الأمر الجدير بالملاحظة أن الرقم المعلن لمعدل النمو المصري يتجاوز توقعات البنك الدولي عن مصر، التي وصلت إلى 6.1 في المئة، ويتضارب مع بيانات رسمية صدرت عن لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي المصري قبل أيام قليلة من بيان مجلس الوزراء؛ أشارت إلى أن معدل النمو المصري 6.2 في المئة .

ونظرا إلى أن معدل النمو هو رقم سيادي لا يمكن لأحد أن يصدره إلا الدولة نفسها، فحقيقة التضارب المصري بين (بيان الحكومة 6.6 في المئة، وبيان البنك المركزي 6.2 في المئة) يؤكد أن هناك الكثير من الكلام المسكوت عنه في هذا الملف، وأنه على أفضل تقدير فهناك محاولات رسمية من نظام الثالث من تموز/ يوليو لهندسة رقم لمعدل النمو وصناعته على غير الحقيقة. وقد يكون ذلك بحساب قطاعات اقتصادية لا يمكن أن تندرج ضمن فئات وبيانات معدل النمو، أو أن الحكومة تريد أن تصدر رقما لمعدل النمو يكون جاذبا للاستثمارات وتصنع من خلاله حالة "كاذبة" و"زائفة" من الاستقرار والنمو، جذبا للاستثمار ورؤوس الأموال الأجنبية، وتزويرا وتزييفا لأرقام الدين الداخلي.
هناك الكثير من الكلام المسكوت عنه في هذا الملف، وأنه على أفضل تقدير فهناك محاولات رسمية من نظام الثالث من تموز/ يوليو لهندسة رقم لمعدل النمو وصناعته على غير الحقيقة. وقد يكون ذلك بحساب قطاعات اقتصادية لا يمكن أن تندرج ضمن فئات وبيانات معدل النمو، أو أن الحكومة تريد أن تصدر رقما لمعدل النمو يكون جاذبا للاستثمارات

ومن الممكن أن يكون أحد مبررات هذا الزيف ما رصده الدكتور أحمد ذكر الله في دراسة حديثة صدرت عن المعهد المصري للدراسات، بيّن فيها أن مصادر الاقتراض الخارجي تآكلت بعد استنفاد معظم مصادرها، وبلوغ الحدود القصوى الممكنة منها لدى بعض المؤسسات، علاوة على ما تعانيه سوق السندات المصرية من انخفاض حاد في الأسعار، مما يعني أن الاقتراض الخارجي كمصدر رئيس لتغطية فجوة الموارد الدولارية أضحى غير مجدٍ، سواء على مستوى المصادر أو المبالغ، بالإضافة إلى العجز في ميزان المدفوعات المصري الذي بلغ خلال تسعة أشهر منذ تموز/ يوليو 2021 حتى آذار/ مارس 2022 حوالي 7.3 مليار دولار تقريبا.

وأشارت الدراسة إلى تزايد ذلك العجز بشكل حاد خلال الربع الأول من العام الحالي نتيجة لهروب الأموال الساخنة، مما دفع بهذا الرقم لأن يكون أعلى رقم فصلي تاريخي للعجز بميزان المدفوعات المصري. أيضا تحول الاستثمار بمحفظة الأوراق المالية المصرية خلال فترة الدراسة (تموز/ يوليو 2021 حتى آذار/ مارس 2022) إلى صافي تدفق للخارج بحوالي 17.2 مليار دولار. وقد تركز هذا التخارج من السوق المصرية خلال الفترة من كانون الثاني/ يناير إلى آذار/ مارس، حيث سجلت خروجا بقيمة 14.8 مليار دولار (وذلك قبل بداية رفع الاحتياطي الأمريكي لسعر الفائدة والذي بدأه في آذار/ مارس الماضي، كما أنها خرجت قبل الحرب على أوكرانيا والتي بدأت في أواخر شباط/ فبراير 2022، أي أن هذين العاملين لم يكونا سبب هذا التخارج الكبير).

بعيدا عن الأرقام الرسمية الكاذبة أو التوقعات الدولية المتضاربة، فإن وضع الاقتصاد المصري لا يحتاج إلى كثير مراقبة لإدراك التدهور الشديد في الأوضاع على كافة المستويات. وقد رصدت تقارير صحفية مؤخرا تكدس العديد من السلع الاستراتيجية في الموانئ لشح الدولار، وترتب على ذلك ارتفاع أسعار كافة السلع والخدمات في مصر في وقت غير مناسب بالمرة لمثل هذه الارتفاعات، خصوصا وأن الموسم الدراسي قد بدأ وبطبيعة الحال يشهد زيادة مصاريف الأسر المصرية، في الوقت الذي تنشغل الحكومة ببناء خمسة كباري دفعة واحدة في إحدى المناطق شرق القاهرة، وهو إن دل على شيء فإنه يدل على اختلال الأولويات وغياب الاهتمام بالمواطن، وانسحاق الحكومة المصرية لتحقيق أحلام وأوهام المنقلب الذي يرى أنه حقق إنجازات لا مثيل لها، بدليل معدل النمو الذي لم يتحقق منذ 14 عاما. هكذا يتخيل أن إنجازاته باتت مثار اهتمام العالم، ومادة تدرس في كبرى الجامعات العالمية وخبرته تحتذى في كافة الهيئات والمؤسسات والدول الأخرى.
الإعلان عن معدل النمو الزائف بهذه الطريقة إنما تشكل واحدة من آليات الاستبداد والمستبد، وهو ما يمكن تسميته "الاستبداد بالأرقام"؛ ولعل هؤلاء حينما يحتكرون مثل هذا الرقم الذي يتعلق بمعدلات التنمية ويطلقونها كيفما شاءوا إنما يعبرون عن تلك الآلية الخطيرة التي يستخدمها هؤلاء في التغطية على الفساد أو الفشل

وبحسب ما ذهب إليه الأستاذ الاقتصادي المبرز "جلال أمين" في كتابه "تنمية أم تبعية: اقتصادية وثقافية؟"، فإن الاقتصادي الحديث على ما يبدو على استعداد للتضحية عن طيب خاطر بشخصية الأمة في سبيل معدل أعلى للنمو، ولا تكاد تكون هناك قيمة واحدة من القيم الاجتماعية أو الدينية السائدة في البلاد الفقيرة لا يعتبرها من "معوقات النمو". والنمو عنده، وإن كان نموا اقتصاديا، فإنه ينقسم الى مراحل، كل مرحلة منها لا تتسم فقط بسمات اقتصادية، بل بمختلف السمات الاجتماعية والعقائدية، ومن ثم فليست مستويات الدخل وحدها هي التي يرتبها الاقتصادي واحدة فوق الأخرى، بل والقيم الاجتماعية أيضا يمكن ترتيبها، في نظره، بعضها فوق البعض. على أن أبلغ رد على التصوير الاقتصادي لمشكلة مصر هي أن التصوير المعاكس، الذي ندعو إليه، يتيح فرصة أكبر لحل مشكلتنا الاقتصادية نفسها من أي موقف يتخذه الاقتصاديون "التكنوقراطيون".

إن الإعلان عن معدل النمو الزائف بهذه الطريقة إنما تشكل واحدة من آليات الاستبداد والمستبد، وهو ما يمكن تسميته "الاستبداد بالأرقام"؛ ولعل هؤلاء حينما يحتكرون مثل هذا الرقم الذي يتعلق بمعدلات التنمية ويطلقونها كيفما شاءوا إنما يعبرون عن تلك الآلية الخطيرة التي يستخدمها هؤلاء في التغطية على الفساد أو الفشل ضمن رقم مصمت يستخدمونه بصورة دعائية، الرقم المصمت هنا مسكون بالاستبداد، والزيف والتلبيس والكذب.

 

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)