كتب

عن السياسة والسلطة في الإسلام.. قراءة معاصرة

على المسلم إذا أراد أن ينتسب إلى الفضاء العام، وجب عليه تجاوز سؤال الحرية والإلزام في الدعاء لمن مات من ذوي السلطان
على المسلم إذا أراد أن ينتسب إلى الفضاء العام، وجب عليه تجاوز سؤال الحرية والإلزام في الدعاء لمن مات من ذوي السلطان

الكتاب: الدعاء والسياسة تحرير الفضاء العام في الإسلام 
الكاتب: الدكتور سمير ساسي 
الناشر: دار ميسلون للطباعة والنشر والترجمة
الطبعة الأولى حزيران (يونيو) 2022 

انطلاقا من سؤال هل يوجد فضاء عامّ في الإسلام؟ حاول الكتاب الإحاطة بمختلف القضايا التي يثيرها الفضاء العام في الإسلام، واقتضى ذلك العودة إلى مفهوم النشأة عند هابرماس ومنتقديه، الذين أبرزوا أن المفهوم ليس خاصا بالمجال الغربي.

وقد ساعدت هذه التوسعة المفاهيمية الباحث على تنزيلها في المجال الإسلامي من خلال عينتي المؤسسة المسجدية والسوق، كعينتين دالتين على شمولية هذا المفهوم واختلافه عن المفهوم الغربي.

ويبحث الكتاب الدعاء باعتباره خطاب سلطة أو خطابا يسعى للهيمنة على الفضاء العام وخلق توازن إزاء السلطة القائمة. وقد اختار الكاتب الانطلاق من موقف جزئي، هو رفض راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة في تونس الدعاء بالرحمة للرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، وأخضع لحظتي الرفض والتراجع للغنوشي إلى التحليل والدراسة، ووسع مبحثه في اتجاه حركة إسلامية أخرى تختلف مع الغنوشي في الفهم والمقولات، ودرس معهما مفاهيم الولاء والبراء والانتماء للجماعة المسلمة والتكفير، إلى غير ذلك من المقولات التي مثلت إشكاليات ما تزال مستمرة في زماننا المعاصر. نفي المقابل أخضع موقف منتقدي الغنوشي للتحليل، والنظر في الأسس التي قام عليها هذا الموقف؛ إن كانت عقائدية أم محاولة للهيمنة على الفضاء العام.

كذلك عرض إلى خطاب الإسلام الرسمي، من خلال نموذجي السعودية في يوم عرفة، والمغرب؛ لما للنظامين من علاقة بمشروعية الحكم الدينية في البلدين.
 
استدعى هذا كله من الكاتب العودة إلى التاريخ وتمحيص النصوص المتعلقة بالدعاء وموقف الفقهاء وتوظيف السلطة، وأخضع ذلك لدراسة مقارنة، واكتشف مضامين جديدة هيمن عليها خطاب السلطة عقودا فطمست.
 
ثم إن الكاتب ألزم نفسه ببحث منهجي نقد فيه منهج الباحثين السابقين له في هذا الموضوع، وقدم إضافات منهجية جديدة، مشيرا إلى أنَّ ثنائية الثواب والعقاب السائدة، تجعل من ضبط الفضاء العامِّ أمرا غير ممكن ولا دقيقا؛ نظرا إلى أنَّ الأمر يتعلّق بمسار خارج إرادة الفاعلين الاجتماعيين، على عكس ثنائية الصحة والفساد، التي يرى أنها المنهج الملائم لإعادة فهم الحكم الشرعي، وتفهّم وجوده داخل الفضاء العام.

 

إن احتكار سلطة التأويل من قبل العلماء في التجربة التاريخية الإسلامية، لم يكن مؤسسا نصيا، بل كان مخالفا للنص، وكان انحرافا عنه، وهو لا يعدو أن يكون "تواضعا اجتماعيا" فرضته شروط موضوعية أفقدت نظام الاجتماع الإسلامي، واحدة من أهم ميزاته؛ وهو انفتاح فضائه العام على كل أفراد المجتمع.

 



يعيد الكتاب قراءة علاقة الدين بالسياسة، وموقع الدين في الحياة العامة، وعلاقة الخاص بالعام، وقضايا الولاء والبراء، والانتماء إلى الجماعة المسلمة، وقضية التكفير، ومن ثمّ يطلُّ على خطاب الحركة الإسلامية المعاصرة، ويبحث في مدى قدرتها على تجاوز الفقه السائد، كاشفا عن كنوز من النصوص القديمة الأخرى التي طُمست لمصلحة منطق السلطة القائمة، تلك التي يمكن أن تعيننا في تأسيس الفضاء العام، وإعادة صوغ نظرتنا إلى تاريخنا الفقهي والفكري.

وزع الكاتب محاور بحثه على بابين ومقدمة وتمهيد منهجي، سماه بمسائل منهجية، وكان لكل باب ثلاثة فصول؛ الباب الأول الفصل الأول منه، كان عن الفضاء العام بحثا في المفهوم في بلد المنشأ وفي المجال الإسلامي وعلاقة الفضاء العام بالأحكام الشرعية. أما الفصل الثاني، فتناول مفهوم الدعاء وعلاقة الدعاء بالسلطة، وعودة إلى تاريخية هذه الإشكالية. أما الفصل الثالث، فكان تحت عنوان الدعاء للسلطان المتوفى، تناول فيه الكاتب نصوص الموت تمحيصا في الرواية والمتن، وعلاقة هذه الإشكالية بموضوع الاستمرارية والقطيعة في النظام، ثم بحث مفهوم البيعة وارتباطها بهذا الموضوع.

أما الباب الثاني، الذي جاء تحت عنوان الدعاء وصراع السلطة، ففيه أيضا ثلاثة فصول، تناول الفصل الأول الدعاء عند فقهاء العصر، وقد اقتضى منه ذلك العودة إلى التاريخ لبحث العلاقة بين الفقهاء والسلطة، ثم يبسط للدرس موضوع الفقه في الزمن المعاصر حضورا وتأثيرا في علاقة بإشكالية البحث.

وخصص الكاتب الفصل الثاني من هذا الباب لبحث موقف الحركات الإسلامية من الدعاء للسلطان، فسأل ما المقصود بالحركات الإسلامية وبحث قضية الخروج على الحاكم.

وجاء الفصل الثالث بحثا في القضايا التي يثيرها الدعاء، منها مفهوم الولاء والبراء والتكفير والانتماء للجماعة المسلمة، وختمه بتقييم موقف الحركات الإسلامية عند خصومها، لينتهي الكاتب إلى جملة من الخلاصات، تفتح آفاقا حديدة في بحث سؤال السياسة والسلطة في الإسلام.

ومن أهم هذه الخلاصات ما يلي:

رأى الكاتب أن كسر احتكار سلطة التأويل هو مقوم رئيس لبناء الفضاء العام بما هو مجال تواصل بين مختلف الفاعلين وتفاعل بينهم، وهو مقوم نشأ من حيث الأصل محاولة لتفكيك سلطة القمع التي تحتكرها الدولة، ونقلها إلى المجتمع في وجه عقلاني، لتتحول إلى "قوة غير مفروضة بالقوة" بتعبير هابرماس يمتلكها "الجدال الأفضل".

لكن هذا التأسيس خضع لنقد مستمر بسبب إهماله أو "تجاهله" لوضع الدين في الفضاء العام وجدل السياسي والديني، ويمكن هنا الرجوع إلى نقاشات مؤسسي مفهوم الفضاء العام هابرماس وشميث وتايلر. 

وما يهم الباحث هنا من هذا الجدل، بحث احتكار التأويل في المجال الإسلامي بالنظر لخصوصية موقع الدين في هذا الفضاء، فإذا كان الاعتراف بوضع ما للدين في الفضاء العام الغربي نتيجة لمسار نقدي لأفكار التأسيس التي همشت الدين بداعي مصادرة الدين للمعنى، فإن الصورة  في المجال العام الإسلامي تكاد تكون معكوسة؛ نظرا لكون الفضاء نشأ من الدين وبالدين، غير أننا نجد أنفسنا إزاء مفارقة في التعامل مع هذا الموضع، مفارقة مردها التناقض بين ما يقوله النص المؤسس وما تقصه علينا الوقائع التاريخية، ذلك أن الفضاء العام الإسلامي في مساره التاريخي اتجه واقعيا نحو مركزة سلطة التأويل لدى العلماء والفقهاء، وهذا مخالف لمبادئ التأسيس التي جعلت العلم ومن ورائه التأويل مفتوحا ومتاحا للجميع، كل بحسب قدرته.

 

رأى الكاتب أن كسر احتكار سلطة التأويل هو مقوم رئيس لبناء الفضاء العام بما هو مجال تواصل بين مختلف الفاعلين وتفاعل بينهم، وهو مقوم نشأ من حيث الأصل محاولة لتفكيك سلطة القمع التي تحتكرها الدولة، ونقلها إلى المجتمع في وجه عقلاني، لتتحول إلى "قوة غير مفروضة بالقوة" بتعبير هابرماس يمتلكها "الجدال الأفضل".

 



وإن فحصا لنصوص التأسيس يدعم رأي الكاتب الذي ذهب إليه، فرسول الإسلام لم يمنح العلماء سلطة مطلقة في مجال التأويل، وذلك حين رد على الصحابي الذي يستفتيه: استفت قلبك ولو أفتوك وأفتوك. ثم إن درجة أفضلية العلماء إنما تستمد من جهة اكتسابهم للعلم وليس من صفتهم كعلماء، واكتساب العلم ليس موضوعا حصريا لطائفة معينة أو فئة محددة.

إن احتكار سلطة التأويل من قبل العلماء في التجربة التاريخية الإسلامية لم يكن مؤسسا نصيا، بل كان مخالفا للنص، وكان انحرافا عنه وهو لا يعدو أن يكون "تواضعا اجتماعيا"، فرضته شروط موضوعية أفقدت نظام الاجتماع الإسلامي واحدة من أهم ميزاته، وهو انفتاح فضائه العام على كل أفراد المجتمع، وتخليهم عن دورهم في تأويل النص المؤسس، وتنزيله في واقع الحياة العملي بما سمح للسلطة السياسية بتوظيف هذه "العطالة" لصالحها، والدفع نحو ثنائية الأمراء والعلماء؛ غلقا لكل إمكانية للانفلات عن دائرة السلطة والحكم، وتخطيطا من أجل الهيمنة على السلطة المقابلة سلطة العلماء، بناء على التواضع على قواعد تضبط تقابل السلطتين، بما لا يسمح بالتضاد المطلق ولا يثير المجتمع.
  
إن قراءتنا لما آلت إليه العلاقة السلطوية داخل نظام الاجتماع الإسلامي ضمن الفضاء العام، لا تقلل من الدور الإيجابي للعلماء في كبح جماع السلطة السياسية ونزوعها نحو غلق الفضاء العام، لكنها ـ أي القراءة ـ تسلط الضوء على خطورة الانحراف الذي أصاب هذا الاجتماع حين قلل من إمكانية انفتاح الفضاء العام، وتفكيك سلطة التأويل في اتجاه العينية لا الكفائية.

الخاص والعام في الفضاء العام الإسلامي  

يمكن القول؛ إن مفهوم الفضاء العام من حيث النشأة، يحيل "الخاص" إلى خارج الفضاء العام بما أنه يشترط "اللغة المشتركة" بتعبير هابرماس للانتماء إلى الفضاء العام، فالمتدين لا يمكنه أن يكون داخل هذا الفضاء بلغته الخاصة، بل عليه أن يتحلل منها إلى ما هو عام مشترك، أي إننا غواء اشتراط مفاده إما أن تبقى في فضاء مغلق مكتفيا بهويتك الفردية باحثا عن التفاصيل الدقيقة في علاقتك بالآخرين، وإما أن تتجاوز هذا الانغلاق إلى الانفتاح على المشترك، ولأن هذا المشترك عقلاني بالضرورة، فإن الدين لا يمكنه أن يكون داخل الفضاء العام، إلا إذا تجاوز بعده الفردي المنغلق.

ولا تخفى مرجعية هذه القراءة ودوافعها، فهل هي كذلك في المجال الإسلامي؟ هل يمكن مثلا أن نقول إن على المسلم إذا أراد أن ينتسب إلى الفضاء العام، وجب عليه أن يتجاوز سؤال الحرية والإلزام في الدعاء لمن مات من ذوي السلطان، إلى سؤال الكيفية ومن ثم انفتاحه على مشترك جمعي يفرض نواميس معينة إزاء أصحاب السلطة أمواتا وأحياء، دون النظر إلى الموقف الشخصي المختلف عن المشترك.

في الواقع، هذا هو الذي يدعو إليه أصحاب رؤية الفصل بين الخاص والعام في المجال العام، وتعتقد أن الإنسان ليس حرا في التقيد بهذه الضوابط، إنما حريته فقط في اختيار أن يكون داخل الفضاء العام بالدعاء، أو أن يكون خارجه فلا يدعو أو يدعو بخلاف المشترك، أي ينغلق على هويته الفردية دون الإفصاح عنها؛ لأنها حين ذاك، تكون محاولة منه للهيمنة على فضاء لا ينتمي إليه، وهي الفكرة التي دعا إليها جون رولز لبعض الوقت، قبل أن يتخلى عنها حين دعا أصحاب الأفكار الدينية أن يتركوا أفكارهم عند مدخل الفضاء العام، وهي دعوة تستبطن مبدأ أن العقل الديني يتكلم لغة لا يفهمها إلا المؤمنون، عكس العقل العلماني الذي يتكلم لغة مشتركة، لذا فإن على العقل الديني أن يركن أفكاره جانبا، لأنه إن توصل إلى النتائج نفسها، كانت زائدة عن الحاجة، وإن كانت مغايرة أحدثت الانقسام.
 
وهذا الأمر يحتاج إلى تدقيق بالنسبة للمجال الإسلامي الذي هو مجال ديني، أي بني على الدين ومن الدين عكس المجال الغربي، الذي تأسس على القطيعة مع التعددية الدينية التي أربكت الفعل في المجال العام من خلال سلطة الكنيسة. 


التعليقات (0)