دخلت الحرب الروسية الأوكرانية شهرها السابع، دون أن يستطيع قيصر
روسيا أن
يحقق أهدافه التي أعلنها في بداية غزوه لأوكرانيا وقال حينها إنها مجرد عملية
عسكرية محدودة واعتبرها نزهة سياحية يعود بعدها بصيده الثمين، أوكرانيا، التي يراها
جزءاً لا يتجزأ من الأمة الروسية، فرّط فيها زعيم الثورة البلشفية ومؤسس الاتحاد
السوفييتي "فلاديمير لينين" الذي تسبب في تقسيم البلاد عبر الهيكل
الاتحادي الذي أسسه على أنقاض الإمبراطورية الروسية، كما تسبب بضياع أراض روسية
كثيرة تحولت إلى دول منفصلة مع مرور الوقت، وأنه أخطأ حينما منح الأوكرانيين
استقلالاً داخل الاتحاد السوفييتي وتخلى عن أراضي روسيا يسكنها الشعب الروسي لأوكرانيا..
فإذا ببوتين يقع في مستنقع عميق كلما هب للخروج منه وغرته بعض انتصاراته واحتلاله لبعض
المدن الأوكرانية؛ جاءته ريح عاتية أسقطته مرة أخرى في وحله، مثلما حدث عندما حاول
الهجوم على العاصمة "كييف"، فإذا به يواجه بمقاومة شرسة فانقلب على
عقبيه وولى مدبراً ولم يعقب.
أما ما حدث له مؤخراً بمقاطعة "خاركيف"، فهو انتكاسة عسكرية كبيرة
لجيشه؛ حيث استطاع الجيش الأوكراني استعادة ستة آلاف كيلومتر من الأراضي التي احتلها
الجيش الروسي منذ نيسان/ أبريل الماضي، وأخطر ما فيها أنه استطاع السيطرة على
مدينة "إزيوم" الاستراتيجية، مما تعتبر صفعة قوية لبوتين، قصمت ظهر
الجيش الروسي لأهميتها الاستراتيجية.
فمدينة "إزيوم"، رغم صغر مساحتها التي لا تتعدى 43 كيلومتراً
مربعاً وعدد سكانها لا يزيد عن 56100 نسمة، إلا أن موقعها على الحدود بين منطقتي
خاركيف ودونيتسك الموالية للروس جعل منها أهمية كبيرة. فهي القاعدة اللوجستية
الأساسية للقوات الروسية في خاركيف، حيث إنها نقطة الانطلاق للجيش الروسي لشن
هجمات بإقليم "دونباس"، إذ تعتبر "إزيوم" البوابة الرئيسية إلى دونباس
في شرق أوكرانيا ومنها إلى البحر الأسود، وكانت تتخذها القوات الروسية لتقطع
إمدادات الجيش الأوكراني القادمة عبر خاركيف إلى لوغاتسك، وتمهد الطرق لالتقاء
القوات الروسية في مقاطعة خاركيف مع القوات المدعومة روسياً في إقليم دونباس..
المعارك العسكرية في الحروب هي عمليات كر وفر ولا يستطيع أن يأمن طرفاها من الهجوم المضاد لكليهما، ولا نستطيع أن نجزم بانتصار أحد الطرفين على الآخر إلا بعد أن تضع الحرب أوزارها ويُسدل الستار على أرض المعركة، ليفتح الستار على غرفة المفاوضات وتوضع على الطاولة أوراق كلا الطرفين
والآن انقلب الوضع وانعكس الحال، وخاصة بعدما استعادت القوات الأوكرانية
السيطرة على "كوبياتسك" يوم السبت الماضي، ما يهدد بتعطيل خط الإمدادات
الروسي بشكل كامل وترك آلاف الجنود الروس على خط المواجهة في دونباس بدون إمدادات.
فالقوات الروسية أصبحت في شبه عزلة، مما عرقل مساعي روسيا في السيطرة الكاملة على
إقليم دونباس..
ويعد سقوط إزيوم "أسوأ تراجع عسكري لروسيا"، كما وصفته صحيفة
"نيويورك تايمز" الأمريكية، منذ تغيير استراتيجيتها من مهاجمة العاصمة
كييف إلى التركيز على شرق أوكرانيا..
ومن البديهي أن نذكر أن المعارك العسكرية في الحروب هي عمليات كر وفر ولا يستطيع
أن يأمن طرفاها من الهجوم المضاد لكليهما، ولا نستطيع أن نجزم بانتصار أحد الطرفين
على الآخر إلا بعد أن تضع الحرب أوزارها ويُسدل الستار على أرض المعركة، ليفتح الستار
على غرفة المفاوضات وتوضع على الطاولة أوراق كلا الطرفين التي رسمها الجنود
بدمائهم على أرض المعركة، ليملي المنتصر شروطه ويرفع المنهزم الراية البيضاء.
وترددت أنباء بأن قيصر روسيا يسعى للتفاوض مع الجانب الأوكراني سراً من
خلال إحدى الدول، ويُقال إنها تركيا التي يسعى رئيسها "رجب طيب أردوغان"
منذ بداية الحرب، لعقد لقاء بين الرئيس الأوكراني "فولوديمير زيلينسكي"،
ونظيره الروسي "فلاديمير
بوتين"، كان يرحب به الأول بينما يرفضه الثاني،
والآن تغير الحال وأصبح زيلينسكي يرفضه ويتوعد بهزيمة الروس واستعادة كل أراضي أوكرانيا
التي احتلتها روسيا، بما فيها شبه جزيرة القرم التي احتلتها عام 2014..
لا شك أن دب الكرملين العجوز "بوتين" في مأزق كبير، فقد بدأ
الحرب بغطرسة وغرور، والآن لا يعرف كيف ينهيها، ومن تابع خطابه المتلفز الأسبوع
الماضي يدرك مدى تأزمه. فتهديده باستخدام
السلاح النووي ما هو إلا هروب إلى الأمام،
وتعبير عن حالة اليأس التي ألمّت به من تحقيق الانتصار على القوات الأوكرانية
بالأسلحة التقليدية.
"بوتين" في مأزق كبير، فقد بدأ الحرب بغطرسة وغرور، والآن لا يعرف كيف ينهيها، ومن تابع خطابه المتلفز الأسبوع الماضي يدرك مدى تأزمه. فتهديده باستخدام السلاح النووي ما هو إلا هروب إلى الأمام، وتعبير عن حالة اليأس
أما عن إعلانه التعبئة الجزئية للمواطنين الروس من
قوات الاحتياط، وموافقته
على طلب وزير الدفاع الروسي باستدعاء 300 ألف من الاحتياط ممن لديهم الخبرة
العسكرية اللازمة، فهذا دليل واضح على فشل القوات الروسية في أرض المعركة، مما
استدعاه لزيادة عدد الجنود، وتردد في وكالات الأنباء العالمية أن العدد الحقيقي
يصل إلى المليون من قوات الاحتياط.
وجدير بالذكر أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ روسيا بعد الحرب العالمية
الثانية التي تعلن فيها التعبئة العامة وتستدعي فيها قوات الاحتياط!
وكسائر الأنظمة الديكتاتورية التي تحول هزائمها لانتصارات وهمية لا يراها
أحد غيرهم، فلقد هللت الأبواق الإعلامية الروسية والمسؤولون الروس، لخطاب بوتين
واعتبرت استدعاء قوات الاحتياط نابعا من مصدر قوة وانتصار، ولكن سرعان ما فضحتهم
مشاهد الهروب الجماعي من الشباب الروس عقب خطاب بوتين، هرباً من استدعائهم كقوات
احتياط وضمهم قسراً إلى القوات الروسية المنهزمة في الحرب، ولقد أعلنت شركات
الطيران نفاد كل تذاكر الطيران على الرغم من زيادة أسعار التذاكر من موسكو إلى
الدول المجاورة إلى أسعار فلكية!!
ومما يدل أيضا على حجم المأزق الذي يعيش فيه قيصر روسيا وجر فيه بلاده إلى
منزلق خطير سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، هو لجوؤه
لإجراء استفتاء صوري مسرحي على
المناطق الأربع التي احتلها في أوكرانيا (لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوريجيا)،
وهي تمثل نحو 15 في المائة من الأراضي الأوكرانية، لضمها إلى الأراضي الروسية.
وعلى الرغم من أن هذا الاستفتاء باطل ويعتبر انتهاكا صارخا للقانون الدولي وميثاق
الأمم المتحدة، إلا أن بلطجي العصر أقدم عليه كما فعل في شبه جزيرة القرم، ولم
يواجه برد حاسم وصارم من قوى الغرب وعلى رأسها أمريكا، ما شجعه على تكراره مرة أخرى
غير مبال بردود الفعل؛ من عقوبات اقتصادية يمكن تجاوزها والتحايل عليها بشكل أو
بآخر في الوقت الراهن.
كسائر الأنظمة الديكتاتورية التي تحول هزائمها لانتصارات وهمية لا يراها أحد غيرهم، فلقد هللت الأبواق الإعلامية الروسية والمسؤولون الروس، لخطاب بوتين واعتبرت استدعاء قوات الاحتياط نابعا من مصدر قوة وانتصار، ولكن سرعان ما فضحتهم مشاهد الهروب الجماعي من الشباب الروس عقب خطاب بوتين
وفي حال ضم هذه المناطق الأوكرانية إلى روسيا، وهو ما سيحدث بطبيعة الحال،
فإن أي محاولة من قِبل القوات الأوكرانية لشن هجوم مضاد عليها لتحريرها واستعادتها
لحضن وطنهم، سيعتبرها قيصر روسيا عدواناً على الأراضي الروسية. ومن هنا جاءت عبارة
"وحدة أراضينا" في خطابه، حينما قال: "إذا تعرضت وحدة أراضينا
للتهديد سنستخدم كل الوسائل المتاحة لحماية روسيا وشعبنا"!
وهذه الخطوة توفر لموسكو ذريعة لتصعيد حربها المتعثرة في أوكرانيا،
وبالتالي سوف تعطي لبلطجي العصر غطاءً شرعياً أمام شعبه المتذمر والغاضب من أعباء
هذه الحرب التي وقعت على كاهله وضيق المعيشة مما أفقده شعبيته، فيستميلهم عاطفياً
ويثير فيهم الغرائز أو النوازع القومية ويبررها لهم؛ إنه يحارب دفاعاً عن أراضينا
ويناصر الذين ينتمون لغة وثقافة وانتماء إلى الأمة الروسية، ويعانون من تمييز فادح
ضدهم..
إنه لا جدال في أن موسكو الآن وبعد سبعة أشهر من غزوها لأوكرانيا، قد
انتقلت عملياً من مرحلة الهجوم إلى مرحلة الدفاع عن المناطق التي احتلتها. ومن هذا
المنظور نستطيع أن نفهم قول "دينيس بوشيلين"، زعيم الانفصاليين في
دونيتسك المدعومين من روسيا: "الهجمات الأوكرانية المضادة الناجحة كانت سبباً
في تسريع وتيرة الاستفتاء"..
وعلى الرغم من إعلان الولايات المتحدة صراحة على لسان رئيسها "جو
بايدن"، أنها لن تعترف أبداً بالاستفتاءات الصورية التي تجريها روسيا في
الأجزاء المحتلة من أوكرانيا لتتخذها ذريعة كاذبة لمحاولة ضمها بالقوة، إلا أن
الولايات المتحدة لم تأخذ موقفاً حاسماً رادعاً تجاه الدب الروسي، وهي تستطيع إن أرادت
ولكنها لا تريد لكلا الطرفين أن ينتصر على الآخر في المدى القريب؛ لإطالة أمد الحرب
إلى أبعد مدى ممكن لأسباب جيوسياسية بحتة؛ فهي تريد أولاً تثبيت دعائم الهيمنة
الأمريكية على العالم والحيلولة دون صعود أي قوة مناوئة أخرى منافسة لها.
موسكو الآن وبعد سبعة أشهر من غزوها لأوكرانيا، قد انتقلت عملياً من مرحلة الهجوم إلى مرحلة الدفاع عن المناطق التي احتلتها
فأمريكا تحارب روسيا بالوكالة على أرض أوكرانيا وتمدها بالسلاح التقليدي
وتحجب عنها بعض الأنواع من الأسلحة النوعية التي من الممكن أن تحسم الحرب لصالح أوكرانيا،
والتي يلح على طلبها زيلينسكي، ولكن لا حياة لمن تنادي. ولقد هدد بوتين أمريكا
والغرب إذا أرسلوا صواريخ بعيدة المدى إلى أوكرانيا، وهذا مثال على غطرسته التي لا
مثيل لها وبجاحة منقطعة النظير، فالبلطجي يعتدي على دولة وفي نفس الوقت يهدد
حلفاءها إذا ساعدوها ويمنعها من امتلاك سلاح تدافع به عن أرضها!! وهذا موضوع آخر
لا يسع مقالنا هذا لتناوله، فربما نطرحه في مقال آخر، ولكن هذا لا يمنع أن أمريكا تساعد
أوكرانيا أيضا بالوسائل اللوجستية وتمدها بالمعلومات المخابراتية دون أن تتورط
بدخولها عسكرياً، ونستطيع القول إنها من على بعد آلاف الكيلومترات، تخوض الحرب من
خلف الشاشات وتتخذ القرارات عبر ضغط أزرار الكيبورد!
وقعت روسيا في المصيدة الأمريكية، وانزلق بوتين بغروره في المصيدة التي أعدتها له أمريكا بحنكة وخبث شديدين، كما دُفعت أوكرانيا لحرب، كانت في غنى عنها وكان من الممكن تفاديها، دمرت بلادها وشردت شعبها وحصدت الآلاف من جنودها
لقد وقعت روسيا في المصيدة الأمريكية، وانزلق بوتين بغروره في المصيدة التي
أعدتها له أمريكا بحنكة وخبث شديدين، كما دُفعت أوكرانيا لحرب، كانت في غنى عنها
وكان من الممكن تفاديها، دمرت بلادها وشردت شعبها وحصدت الآلاف من جنودها. ولكن
زيلينسكي بغبائه السياسي لم يدرك أنه لعبة في يد أمريكا استخدمته لتحقيق أهدافها،
فلتحترق أوكرانيا كي تظل أمريكا القطب الأوحد في العالم. فالغاية هنا تبرر الوسيلة
كما قال "ميكافيللي" منذ أكثر من 500 عام، إنها لعبة الأمم كما أسماها
"مايلز كوبلاند" في كتابه، والتي لم يفهمها الممثل الكوميدي!
ومما لا شك فيه أن الولايات المتحدة تريد استنزاف روسيا لأقصى درجة ممكنة،
بعد أن أغرقتها في المستنقع الأوكراني؛ لإضعاف قوتها الاقتصادية وقدراتها العسكرية
وإفقاد الجيش الروسي هيبته وسمعته وإظهار ضعفه وهشاشة أسلحته أمام العالم، فينفض
الطلب عليه وتخسر موسكو سوقاً مربحاً..
إنها الحرب التي كان يحسبها قيصر روسيا الجديد نزهة يقضي فيها سويعات ويأتي
بالغنيمة (أوكرانيا) ويبتلعها بمضغة واحدة ويعيدها للإمبراطورية الروسية، كما كانت
إبان فترة القياصرة التي يريد أن يعيد أمجادها ويتوج على عرشها. لذلك فقد البلطجي
عقله وبدأ يلوح علناً باستخدام سلاحه النووي، مؤكداً أنه لا يتحايل، أي لا يقول أي
كلام فض مجالس، أو كما يُقال في التعبير الشعبي "طق حنك" أو "فنجرة
بق"، وهي رسالة موجهة بالأساس إلى واشنطن، مفادها أن هزيمة موسكو قد تكلف
العالم حرباً نووية!
فهل هذا التهديد من قبيل حلاوة الروح، بعد أن لاحت أمام عينيه علامات
الهزيمة التي لم تكن في حسبانه، وهو لن يقبل بالهزيمة أمام شعبه والتي ستفقده
سلطته وجاهه وربما حياته؟ أم أنه بالفعل سيكون نيرون العصر الذي يحرق موسكو؟!
twitter.com/amiraaboelfeto