كتب

الخط المغربي.. مستودع الجمال الأمازيغي الفظّ

انتشر الخط العربي في شمال إفريقيا نتيجة لحرص المنتسبين الجدد إلى الإسلام على تعلّم العربية
انتشر الخط العربي في شمال إفريقيا نتيجة لحرص المنتسبين الجدد إلى الإسلام على تعلّم العربية

الكتاب: "الخط المغربي: تاريخ وواقع وآفاق"
الكاتبان: عمر أفا ومحمد المغراوي
الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، 2007
عدد الصفحات: 192 صفحة.


يؤثر عن بيكاسو قوله: "كان لدي شيء مفقود في الفنّ، وجدته في الخط العربي"، أو قوله "إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها، وجدت الخط الإسلامي سبقني إليها". ذلك أنّ الخط العربي ارتقى إلى مصاف الفن لاتصال حروفه وقابلتها للتّشكل هندسيا رَجعًا ومدا وتشابكا واستدارة وتركيبا وتداخلا. واكتسب قيمته المضافة من اقترانه بالزخرفة التي استخدمت في تزيين القصور والمساجد، أو في تحلية الكتب والمخطوطات. أما اليوم فقد انفتح على الفنّ التشكيلي وعلى فنّ النحت وتوشية الملابس والوشوم وغدا مولّدا لمساحات من الجمال البصري تحاول أن تقف في وجه قبح عالمنا الرّاهن.
 
1 ـ الخط العربي النشأة والتحولات

يعرض الباحثان شيئا من تاريخ الخط العربي. فقد تدرّجت الخطوط عامة من الكتابة الصورية إلى الأشكال الرمزية التي يغلب عليها التجريد حتّى أضحت تعبّر بالحروف عن الأصوات المختلفة المشكلة للكلمات. وتغلّب الأبحاث العلمية فرضية نشأة الحرف العربي من طريقة الكتابة عند الأنباط الذين امتدت دولتهم من شمال الجزيرة العربية إلى صحراء الأردن وسيناء، واستمرت حضارتهم حتى أسقط الرومان دولتهم سنة 106 م. ورغم استقلاله لاحقا بحروفه الخاصّة ظل بسيطا كما تثبت النقوش التي عُثر عليها في شمال الحجاز. ولم تستكمل الكتابة العربية نموها إلاّ مع نزول القرآن وتأكّد الحاجة إلى التدوين الدقيق. فاعتمدت التنقيط في عهد علي بن أبي طالب أولا ثم طورته لاحقا وشَكَلت الحروف بما يوافق علاماتها الإعرابية. واختير للمصاحف الأولى الخطّ الكوفي نظرا لوضوح حروفه بعد أن تطوّر الخط العربي وأصبح يمثل مدارس ونماذج. ومما يذكر من الخطوط عصرئذ الخط الكوفي اليابس والخط المكّي اللين.

ومع توسّع الفتوحات الإسلامية، انتشر الخط العربي خارج الجزيرة العربية. فوصل إلى شمال الهند ومنطقة تركستان الشرقية على مشارف الصين ومر عبر إفريقيا إلى أواسط أوروبا. وتسلل الحرف العربي لغات أخرى كالباكستانية والفارسية والتركية. فانفتح المجال عندئذ أمام مختلف الشعوب الإسلامية لتسهم في تطويره وإغنائه بجماليات خاصة مستوحاة من تراثها المحلّي.
 
هكذا نتبيّن من تاريخ الخط العربي حقيقة أولى مدارها على أن الفتح الإسلامي لم يكن عملا حربيا صرفا. لقد كان إلى ذلك، اتصالا ثقافيا بين شعوب باعدت بينها الجغرافيا فتقاربت حضاريا وفنيا. أما الحقيقة الثانية فتتمثل في تبيّن القيمة الرمزية لهذا الخط. فقد كان أكثر من أداة للكتابة وأكثر من فنّ. إنه هوية ترتبط بالكتاب المقدس أولا وبالحضارة العربية الإسلامية عمارةً وتزويقا ثانيا وبالذائقة وما لحقها من تهذيب المدنية ثالثا. ولا نبالغ إن قلنا إنّ عبقرية هذا الفن تكاد تضارع عبقرية رسم عصر النهضة الأوروبية، بعد أن اكتشف تقنية المنظور التشكيلي، فكلاهما تجاوز التشكيل على اللوحة ليعبر إلى العمارة وإلى عامة الفنون. ولئن تراجع الرسم المنظوري على أيامنا فإن الخط العربي أوجد فضاءات أخرى لينشر عبرها سحره كما أسلفنا في بداية هذه الورقة.

2 ـ الخط المغربي ومراحل تطوره

انتشر الخط العربي في شمال إفريقيا نتيجة لحرص المنتسبين الجدد إلى الإسلام على تعلّم العربية لمعرفة تعاليم دينهم. وصادف هذا الحرص حاجة أكيدة لدى شعوب هذه المنطقة للغة مكتوبة تعتمد في الاستعمال الإداري بسبب افتقادهم لكتابة محلية، ذلك أن استعمال اللغة اللاتينية ظل محصورا في دوائر النفوذ البيزنطي والروماني. ويعرض الكتاب نصوصا كثيرة تكشف عناية رجال العلم بالخط العربي ودعوتهم إلى تجويده في المستويات المختلفة من توظيفه. ففي فصل في آداب المؤدب وما ينبغي له على سبيل المثال يدوّن عمر بن عبد العزيز الكرسيفي ما نصّه "(...) فينبغي للمؤدب إذا تحسين نيته بقصد تجديد دين الله تعالى لا لغرض دنيوي (...) وإذا جلس لمراقبة الصبيان وتعليمهم فليقرّبهم منه سيما الصّغار ليتفقّدهم. 

 

للخطّ المغربي خصائص كثيرة تميزه عن شبكة الخطوط العربية الواسعة. أولها قيمته الجمالية المنحدرة من طبيعة تشكيلات الحروف وكيفية وتوزيعها في المساحة مخطوطا كان أو نقشا على الجدار أو لوحة فنية. وثانيها "تعانق الحروف مع بعضها وتداخلها الإبداعي".

 



وينبغي له تحسين الخطّ في الواحهم، بتقويم الحروف وتجويدها وتغليظها وترك الفرج فيما بينها، وجعل النّقط والاشكال حذو حروفها، وتمييز مزدوجها ومفردها وغير ذلك، فقد قيل: "الخط أحد اللسانين وحسنه إحدى الفصاحتين". من أثره "المؤلفات الفقهية الكاملة". 

وسمي النمط الذي نشأ هناك بالخط المغربي نسبة إلى عامة بلاد المغرب الإسلامي أولا، والمقصود بالتّعيين من هذه العبارة ، الشمال الإفريقي بداية من برقة الليبية وصولا إلى نهر الإبرو بالأندلس من القارة الأوروبية، ذلك الإقليم الذي تميز بوحدة ذهنية ومذهبية وتفاعل فيه المكون الأمازيغي مع الإفريقي جنوب الصحراء مع العربي الوافد من الجزيرة العربية أو الأوروبي. ثم بات يحيل إلى المغرب الأقصى. فهناك تفاعلت مؤثرات وفدت عبر القيروان وأخرى انحدرت من الأندلس. 

ويمثل الخطان الحجازي والكوفي الأصل في تطور الخط ببلاد المغرب. فقد تأثر أهل إفريقية بالخطّ الكوفي العراقي واتخذ اسم الكوفي القيرواني وكانت حروفه مركنة يابسة، ويراد بالاصطلاح اشتماله على أركان وزوايا حادة، ومنه ظهر الخط الإفريقي. أما أهل الأندلس فتأثروا بالخط الكوفي الشّامي. فهناك ولجذور خلافتها الشامية، تغلبت مدرسة دمشق الأموية. فظهور الخط الاندلسي اللين. ومأتى لينه من حروفه المقوسة بنعومة. وعن التزاوج بين المؤثرين، ستنبثق الخطوط المميزة للمغرب والجزائر وتونس والسودان (والمقصود هنا الغرب الإفريقي جنوب الصحراء).

3 ـ خصائص الخط المغربي

لقد مرّ الخط المغربي إذن بثلاثة مراحل هي المرحلة القيروانية التي اعتمدت الخط الكوفي اليابس والمرحلة الأندلسية التي أفادت من مؤثرات دمشقية وسمي بالخط القرطبي المبسوط. وفي القرن الرابع هجرياا أو العاشر ميلادي أي منذ العصر الموحدي بدأت مرحلة المغرب الأقصى. فاكتسب هذا الخطّ عناصر تميزه واكتسب ايضا تسميته التي تلازمه إلى اليوم. وصادف ازدهار أعمال النسخ والتدوين والزخرفة في جامع القرويين ثم في سائر العمارة المغربية. فكانت له عنصر تطوّر وانتشار.

للخطّ المغربي خصائص كثيرة تميزه عن شبكة الخطوط العربية الواسعة. أولها قيمته الجمالية المنحدرة من طبيعة تشكيلات الحروف وكيفية وتوزيعها في المساحة مخطوطا كان أو نقشا على الجدار أو لوحة فنية. وثانيها "تعانق الحروف مع بعضها وتداخلها الإبداعي". ويريد الباحثان هنا ذلك الانسجام والتناغم بين مختلف عناصر تشكل الحروف. ولم يخل من النزعة التجريدية المميزة للفن الإسلامي. أما حروفه فكانت كثيرة الصور وأحجامه المتباينة كانت تسمح للخطاط بخلق أشكال لا متناهية وابتكار تشكيلات معقّدة. 

وأفضى هذا كلّه إلى غناه وتنوّعه. فلا يكاد أسلوب التشكيل يتطابق بين فنان وآخر رغم إبداع الخطاطين ضمن النمط نفسه. لذلك يصحّ القول أنّ الخطوط المغربية تعدّد بتعدّد الخطاطين، كما يصح وسم هذا الفنّ بالممارسة التشكيلية الحرّة، نظرا لعدم صدور مبدعيه عن قواعد مضبوطة وقياسات دقيقة شأن الإبداع في بقية الخطوط. فقد كانت المقاييس بصرية، تعتمد الانطباع الذي يرصد كلّ نشاز البصري ويقوّمه تلقائيا.

جعلت هذه المقوماتُ، فضلا عن الإشعاع المغربي الحضاري والسياسي عصرئذ، الخطَّ المغربي ينتشر نحو الشرق، نحو المغرب الأوسط والأدنى (الجزائر وتونس وليبيا) ونحو السودان في الأسفل. وكان للتجارة والرحلات العلمية ولحركية الطرق الصوفية دور بارز في ذلك. وكان وهو يرتحل، يتغير في كل بيئة ويكتسب منها سمات جديدة، فمثلا، "تتميّز حروف الخط السوداني" وفق الباحثين "بكونها بسيطة وغليظة ويابسة، تعكس بساطة الحياة في الصحراء الإفريقية وقساوتها. لكنها تحتفظ مع ذلك ببقاء السمات البارزة للخطّ المغربي خاصّة منه المبسوط، كما تتشابه عناصره مع نماذج فرعية مغربية مثل الخطّ الدرعي الصحراوي".

4 ـ آفاق الخط المغربي

في الأثر شواهد كثيرة تبرز الحاجة إلى الاعتناء بالخط العربي في المغرب الأقصى اليوم. وفي هذا السياق يعرض الباحثان نصا طريفا للخطاط المغربي عبد الكريم سكيرج نُشر في مجلة الثقافة المغربية يقارن فيه اتجاه الشبان المغاربة إلى التأثر بالخطوط "المشرقية" ومحاكاتها بما يحدث في الموسيقى من إهمال للتراث الغنائي الثري والالتفات إلى كل ما هو وافد من مصر، والحال أنّ الخط، فضلا عن جماله لصيق بالهوية الوطنية المغربية. يقول: "والخط المغربي يلزم أن يبقى مغربيا مادام المغرب معروفا بجمال الزليج في تزويقه ونقش الجبس في تنميقه، وبالقرمود الاخضر في تنسيقه، وماء الفوّارات في تدفّقه، وما بقيت الجلابة والكساء والحياء في النساء، وما دامت فاس بجنّاتها وقصورها وشموسها وبدورها، والرّباط بحسّانه وشالته ومرسى الفلك وبحارته والحمراء بنخيلها وكتبيتها وجامع الفناء وضجتها".

 

رغم التفاؤل الذي غلب على الباحثين لا يمكننا أن نتجاهل التحديات الكبار التي يواجهها الخط العربي عامّة. فقد بات هذا الفن يواجه منافسة غير متكافئة من الحاسوب الذي يصنّف خطأً بصديق الخط العربي.

 



وفي هذا السياق أيضا ينزل الباحثان المرسوم الملكي الذي يضبط قانون جائزة محمد السادس لفن الخط المغربي أو يقدمان تصورهما لسبل النهوض به كضرورة إحداث معهد لفنون الخط الزخرف العربية أو العمل على تقعيد الخطوط المغربية الخمسة. وهي المطالب التي ترفع في مختلف الدّول المغاربية ولا يتحقّق منها إلاّ القليل مثل المركز الوطني لفن الخط بتونس الذي انطلق نشاطه منذ 1999 وعمل على تكوين مختصين في فنّ الخط وعقد الصلة بين فنانيه ومختلف محترفي الخط العربي في العالم. ولكن منجزه ظل دون التطلعات بكثير.
 
ورغم التفاؤل الذي غلب على الباحثين لا يمكننا أن نتجاهل التحديات الكبار التي يواجهها الخط العربي عامّة. فقد بات هذا الفن يواجه منافسة غير متكافئة من الحاسوب الذي يصنّف خطأً بصديق الخط العربي. وبالفعل يبدو كذلك فيما يتعلّق بالاستعمال الوظيفي. فالبرمجيات اليوم تقترح علينا مئات الخطوط وتتيح لنا المفاضلة بينها بعد الانتهاء من كتابة النصوص واختيار أجملها أو أكثرها مناسبة لأغراضنا. ولكن هذه الفضيلة لا تحجب إساءتين للخطّ في ذاته. فهو حرفة وفن في الآن نفسه. والفنان يحتاج ليمارس فن الخطّ إلى الحرفة وإلى مواردها حتى تكفل له توازناته المالية وتغطي حاجاته. أما الجانب الفني الذي يبعث في الحروف روحا فيستمدّ من روح الفنان وهو ما يستحيل على الذكاء الاصطناعي.

5 ـ "الخط المغربي" وبعد؟

لا يمكننا إلاّ أن نثمن صدور هذا الأثر القيّم الذي حاول التعريف بالخط المغربي، من جهة التاريخ والمقومات الجمالية والتشكيل. فسدّ فراغا في المكتبة العربية وأسهم في إعادة الاعتبار إلى فنّ مهمل رغم بهائه، ورغم جذبه لعديد الفنّانين العالميين الذين وجدوا الحرف العربي قدرات تشكيلية ومساحات جمالية فائقة. ولكن بعده المدرسيّ ونزعته المحليّة فوّتتا عليه البحث في خلفياته الفكرية والحضارية. فمعلوم أنّ فطرة التشكيل المغروسة في الإنسان، جعلت الفنان المسلم يتجه إلى تشكيل الحرف بعد أن سدّ بعض الفقهاء في وجهه باب المجسّد وحرموا الرسم. ومن ثمة جعله وسيلته ليعبّر من خلاله عن فلسفته وعن تصوره للكون وليحاكي بما فيه من تجريد، البهاء الإلهي المطلق والمجرّد. ومن هذه الناحية كان الكتاب فقيرا.  

ورغم بعض محاولات الرّبط بين بعده التشكيلي ونمط عيش الفنان المغاربي بكثير من الاستحياء، لم ينتبه إلى أنّ هذا الخطّ الذي يشذّ عن مختلف محاولات التقعيد والترويض مثّل مستودعا للجمال الأمازيغي الذي يجمع بين السذاجة والفظاظة اللتين حاول الفن التشكيلي المعاصر تجسيدهما بمدارسه المختلفة.


التعليقات (1)
غيور على لغة القرآن
السبت، 03-09-2022 10:12 م
أحيانا أشاهد لوحات "يقال أنها فنية"، يقتنيها بعض الناس المتحدثين بالعربية، ويعلقونها على حوائطهم، ويقولون هي لكلمات "يقال أنها كلمات عربية"، ولكننا جميعا؛ أصحاب هذه اللوحات وأنا معهم؛ نعجز تماما عن تمببز حرف واحد، ولا نعلم محتواها، ألا تمثل هذه اللوحات سخرية واحتقار ومحاربة للغة القرآن؟ علما ويقينا بأن الحرب على لغة القرآن وتشويهها هي حرب ممنهجة ومخططة ومتعمدة، وهي إحدى وسائل الحرب على الإسلام "السني" منذ الحروب الصليبية والتي هي مستمرة حتى الآن تحت مسميات مخادعة.