كتب

لماذا يفرض الغرب فرادته على العالم كهوية نرجسية؟ (1من2)

حيثما وصل الغرب حلَّ ثالوثه المشهور: الجندي، التاجر والمبشر
حيثما وصل الغرب حلَّ ثالوثه المشهور: الجندي، التاجر والمبشر

الكتاب: "صراع الهوية في العلاقات الدولية"
الكاتب: د. محمد جاسم زكريا
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، الطبعة الأولى 2021

(450 صفحة من القطع الكبير).

يحتاج الواقع الدولي المعقد إلى خبرة ودراية وإرادة لفهمه، ويستوجب أيضًا علمًا وعملاً وشجاعةً للوصول إلى حقائقه. وأولى هذه الحقائق موضوع القوة واستخدامها في العلاقات الإنسانية الفردية والجماعية، ومن ثم العلاقات الدولية؛ هو موضوع شائك ومعقد وتتداخل فيه جملة من العلوم وجملة من العوامل، توجد فلسفة وعلم نفس ودين، كما توجد أيضاً مصالح اقتصادية ومصالح استراتيجية بمطلق الكلمة، ثمة قضايا الامتيازات وقضايا المزايا، وكذلك قضايا العقائد المدنية وغير ذلك..

إذن نحن أمام كمّ هائل من المتناقضات التي تجتمع في قضية القوة، مفهوماً وغايةً؛ تلويحاً أو تسويغاً، تهديداً أو تنفيذاً؛ وتالياً لا يمكن إعطاء إجابة قاطعة وجامعة مانعة في هذا الأمر، لكن نقول إن القوة هي التعبير الأكثر فاعلية ومباشرة، لذلك هي الأكثر استخداماً. والقوة هنا هي مجموع الآليات بأبعادها والوسائل المادية والمعنوية المختلفة، لذلك تلجا الدول، ولا سيما عندما نتحدث في العلاقات الدولية، إلى القوة بمفرداتها المختلفة وغالباً ما ينتهي الأمر بالقوة العسكرية؛ لأن القوة هنا تعبير عن السياسة.

لعلنا لا نأتي بجديدٍ إذا قلنا إن هناك هيمنة غربية على العالم منذ قرون عدَّة بشكل أو بآخر، ثمة هيمنة ـ تكاد تكون شاملة ـ حتى في المصطلحات فمعظم المصطلحات التي يدرسها الدارسون في القانون الدولي وفي العلاقات الدولية هي مصطلحات غربية؛ حتى في المسميات يقولون ـ مثلاً ـ القرون القديمة الوسطى والحديثة، وهي كذلك أوروبياً، ولست بمعناها ومؤداها ـ بالمعنى عينه ـ عربياً وإسلامياً، بل حتى صينياً أو هندياً.. ويقولون "غروشيوس" أبو القانون الدولي، وقد يصح ذلك بالنسبة إليهم؛ لكن هل هو كذلك بالنسبة إلين، و يقولون الشرق الأقصى والشرق الأدنى والأبعد انطلاقاً من أوروبا، لأن أوروبا في "مركز العالم"، ونحن جميعا هوامش وضواحٍ وحدائق خلفية..

إنها تبعية حضارية كرسها صراع الهوية في العلاقات الدولية؛ تبعية تجاوزت حدود تقليد المغلوب للغالب الذي حدثنا عنه يوماً ابن خلدون؛ تبعية إرادية وتبعية نفعية وتبعية استلابية؛ تغلغلت في ثنايا الفكر والخطاب والعمل، فتركت كثيراً من الآثار حتى في المصطلحات، ولم تبق مكاناً للدور الفكري الذي تميز به كثيرٌ من الأمم ذوات الحضارة العريقة؛ بما لها من إسهاماتٍ مهمة جداً، إسهاماتٍ لها خصوصياتها التي توارت خلف سيطرة الغرب و فرادنه و سطوة الغزو وطغيانه.

لذلك، حيثما وصل الغرب حلَّ ثالوثه المشهور: الجندي، التاجر والمبشر؛ ومن ثم كانت ثمة استمرارية في العملية بأبعادها المختلفة، ولعل الأمر جلي في إطار العلم الذي تدرسه وندرّسه؛ القانون الدولي والعلاقات الدولية؛ ويعلم الأساتذة المتابعون والمختصون في هذا الأمر؛ أن معظم، إن لم يكن أغلب المفردات المتداولة الآن في هذا الميدان، هي نتاج غربي محض..

في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي:"صراع الهوية في العلاقات الدولية"، المتكون من مقدمة، ومن ثلاثة أبواب: الباب الأول تحت اسم:فسفة العلاقات الدولية، ويشمل خمسة فول، والباب الثاني: ملامح الهوية لدول العالم في الحضارات القديمة، ويشمل ستة فصول، والباب الثالث: الغرب والعالم: عقدة التفوق وعقدة الاسكبار، ويشمل أربعة فصول، إضافة إلى خاتمة للكتاب، يتناول الكاتب في كتابه هذا بالتحليل النقدي، حقيقة العلاقات الدولية التي أسفرت عن استمرارية البنية الطبقية للعالم.

 

لقد استطاع العالم الأول (الغرب) أن يظل أولاً، و العالمون الآخرون ظلوا وراءه في ترتيبات متفاوتة في الإمكانيات، لكنًّها متقاربة جدًّا في المكانة، وليكتشف كثيرٌ من الدول أن التحالفات التي عاشت في ظلها كانت خطأ، وأنَّ الإنجازات التي حققتها كانت زائفة، و أنَّ الشعارات التي رفعتها كانت كاذبة، وأنَّ ليس لها من الأمر شيء، وأنَّ السيادة وأحاديث السيادة لا مكان لها سوى في أحاديث أصحاب الياقات البيض (السياسيين والديبلوماسيين..)، وداخل أروقة المؤتمرات والاجتماعات والمنظمات الدولية،وأنَّ الظلم بات روح العصر الموسومة بالعلووالغلو والاستكبار، فطبعت الصراعات الدولية بسماتها، واستطاعت أن تحافظ على استمرارية وجودها بتغذية أسبابها،بل نجحت تلك الصراعات في أن تسير خطوة إلى الأمام، وتتحول إلى نزاعات مسلحة مفتوحة النتائج و الحسابات..لأنَّ روح العصر استولت عليها، فمكنتها من حجز مكانها في مرتكزات القرن الحادي والعشرين الذي بدأ في معظم أنحاء العالم-داميًا بائسًا جائعًا متوثبًا..

من أجل ذلك، فإن كثيراً من المفكرين الغربيين يذهبون إلى أبعد من هذا، ويقولون إن القانون الدولي ـ كله ـ صناعة غربية، كما أن الدولة اختراع غربي محض، علماً أن كثيراً من حقائق التاريخ التي كشفوها هم؛ إذ درسوا الرقُم التاريخية في مواطن كثيرة، بينها الوطن العربي؛ فأظهرت خلاف ذلك. بل تشير الدلائل إلا أن الاتفاقيات أو المعاهدات الدولية بصورها الأولى. 

هل تقبل العلاقات الدولية فلسفة؟

في هذا الباب الأول، تناول الباحث جاسم محمد زكريا موضوع الفلسفة في العلاقات االدولية،إذ تُعَدُّ قضية اختلاف المفاهيم إشكاليةً حقيقيةً في إطار الاختلاف والتنوع بين الحضارات والفلسفات والأمم، ولذلك فإن توحيد المفاهيم أسطورة قلَّ أنْ ترويها أساطير الأدب أو يزعمها أساطين الفلسفة  لذلك ظلت بعيدة ـ كأنها غدٌ مأمول ـ وطال المسير نحوها، ولا تزال البشرية تخطو من لدن آدم عليه السلام خطواتها إلى غدٍ؛ حتى إذا ما أصبح الحاضر ماضياً، والغد حاضراً أمسى الجميع في مرمى الانتقاد؛ وفي أثناء المسير، يكون الأمر محفوفاً بالمغامرة والمقامرة و المخاطرة، لأنَّ التداخل بين النقائض يكون على أشده في أكثر ما يشغل العقل وبشقيه ، الفلسفة و السياسة؟!

وإذا كان للسياسة القدرة أن تفرض نفسها، فتأخذ ما لها وزيادة؛ فهل للفلسفة في هذا العالم المتحول من دور تلعبه؟ 

من دون تردد، يقول الباحث جاسم محمد زكريا نعم. ففي نظره، مساهمة الفلاسفة أساسية لفهم حاضرنا وبناء مجتمعات الغد وهناك سببان رئیسان يفسران هذه القناعة، وهما:

السبب الأول: "يوجد في تراث الفلسفة الهائل عدد كبير من الأدوات التي يمكنها أن تتيح لنا فهماً جيداً للتغيرات التي تجري أمام أنظارنا؛ لا يتعلق الأمر بأن نطلب إلى الفلاسفة، القدماء أو الجدد، أن يكونوا أجوية جاهزة، ولكن من الضروري الالتفات إلى هذا الخزان الرائع من الأفكار والمفاهيم التي تقدمها المذاهب الفلسفية، حيث ستجد أدوات لبلورة تحليلات جديدة يتطلبها العصر الحالي. لا ننسى أنه في كل الثقافات يجد التفكير، متداخل الاختصاصات (Interdisciplinaire) ، عاداته الأكثر قدما والأكثر صلابة لدى الفلاسفة. بالنسبة إليهم، فإن ضرورة إزالة الحواجز أمام المعارف، مقارنة الإجراءات النظرية، وفتح مجال التفكير إلى أقصى حد، ليست ضرورة جديدة، إنه الأفق الطبيعي لأسفارهم الروحية، بهذا المعنى، فالفلسفة مدرسة للحرية، إنها تحفز الفكر على اليقظة الدائمة، ففي ضدّ الرتابة الفكرية يكمن العلاج الذي تقدمه في خلق مفاهیميتمثل التحريف الأساسي  الذي تقوم به الفلسفة في ما يلي: "لتجروء على أن تكون لكم أفكار جديدة ! لتكن لكم أفكار لم يسبق لأحد، أن كونها! "، وعليه، فمن واجب اليونسكو أن تدعو الفلاسفة إلى تحليل المشكلات الكبرى التي تطرح على الإنسانية في جميع المجالات".

السبب الثاني: "الذي يقنعني بأهمية الفلسفة في بناء مستقبلنا هو ـ أيضاً ـ من دون شك أكثر قطيعة. أريد الحديث عن النية، فتعلیم فلسفي واسع الانتشار بطريقة سهلة المنال وملائمة، يسهم بشكل أساسي في تكوين مواطنين أحراراً، إنه يدرب بالفعل على الحكم الخاص (الشخصي)، وعلى مواجهة مختلف الحجج، وعلى احترام کلام الآخرين، وعلى الخضوع لسلطة العقل فقط. إنه مرة أخرى، وبشكل أكيد، مدرسة للحرية. ويقود هذا التعلم العملي للحقوق الأساسية ـ أيضاً ـ إلى اكتشاف الكوني (L'universel)، إنه يوسع ـ فعلاً ـ قدرات التفكير وحقل الفكر من خلال فهم وجهات النظر غير المألوفة، فهو يسمح ـ بعيداً عن الأجوبة المختلفة ـ بإدراك إلى أي مدى تقرب أسئلة الحياة الأساسية بين الكائنات الإنسانية أكثر مما تباعد فيما بينها. هكذا، كم ستكون ـ في سبيل المثال ـ التساؤلات حول أسس معارفنا، وحول القيم التي يجب أن تقود أفعالنا، وحول احترام الغير، وحول مسؤوليتنا أنَّ تجاه الأجيال القادمة، كونية حقاً" (ص 24-25).

ولا مراء أنه في مقدور الجميع التدرب على تفكير فلسفي يجسد "مجتمع العقول" الذي سبق ـ " بول فاليري" أنْ عدَّهُ من آماله ـ بمجلس التعاون الفكري الدولي ـ في ثلاثينيات القرن العشرين، بهذا المعنى، فكل ما يساعد على إمكان تعلیم فلسفي يسهم في بناء "دفاعات السلام في عقل الناس"، وهي مهمة تأسيسية لليونسكو.

لقد ركزت الفلسفة السياسية الكلاسيكية تساؤلاتها، ابتداء بهوبز فهيغل مروراً بروسو وكانط، على هذا الغموض الذي يلف الدولة، أي على هذه الروح التي تسكن هذا الجسد. وقد عدَّ هؤلاء الفلاسفة، ا وإن بصيغ ومعان مختلفة إلى التناقض أحياناً، أنه من أجل استمرا وظائف السيادة المنوطة بالدولة، أي تقبل المواطنين إياها والخضوع لها والحفاظ على النظام الاجتماعي، رأوا أن على الدولة ألا تتوجه بخطابها إلى العقل فحسب بل عليها أن تخاطب الانفعالات والمشاعر .

 

لا مراء أنه في مقدور الجميع التدرب على تفكير فلسفي يجسد "مجتمع العقول" الذي سبق ـ " بول فاليري" أنْ عدَّهُ من آماله ـ بمجلس التعاون الفكري الدولي ـ في ثلاثينيات القرن العشرين، بهذا المعنى، فكل ما يساعد على إمكان تعلیم فلسفي يسهم في بناء "دفاعات السلام في عقل الناس"، وهي مهمة تأسيسية لليونسكو.

  

فالدولة في الغرب راحت تلعب الأدوار عينها التي كانت تؤديها الكنيسة؛ وذلك بعد أن حلت الأولى محل الثانية، لأن الدولة بهذه المسرحيات تضع الصيرورة الشخصية لكل مواطن، وذلك لأنها تمنحه إمكانية الحصول على هوية قد تربطه ـ من حيث النسب ـ صعداً بأحد الأجناد الأسطوريين والمرموقين..

ومما يجدر التذكير به هنا أن نظريات العلاقات الدولية والأنظمة الدولية والعالمية، تناولت الأبعاد الاقتصادية والسياسية للتفاعل الاجتماعي عبر الحدود. ففي الوقت الذي احتضنت فيه نظرينا العلاقات الدولية والأنظمة الدولية طويلا هيمنة مفهوم أن الحكومات وممثليها وحدهم؛ يمكن عدهم فاعلين مناسبين في النظام الدولي؛ فإن الوضع اليوم يعطي الأفضلية للاعتراف بالأفراد والجماعات ومنظمات المجتمع المدني الحديث كفاعلين يؤدون دورة بناة في النظام الدولي؛ إذ إن المفهوم "الجديد" للسياسة الدولية يجب أن يتضمن كل نتائج الأفعال المترابطة عبر الحدود الوطنية أو المجتمعية بكونها تحتوي على"... صنع أو تقوية القرارات المتعلقة بتوزيع القيم في مختلف مجالات الحياة، ولا سيما في حقول الإعلام والاتصال والتجارة والمال.

إذ من الواضح جدا أن في هذه الأفعال الوجيهة الأخيرة، التي تقوم بها أطراف غير الدولة، يجب أن تصنف بكونها سياسية. لهذا، فالذي يقوم به الفاعلون، غير الدولة،أي منظمات المجتمع المدني  يكتسي أهمية خاصة في العلم السياسي وفي حقل العلاقات التجارية والاقتصادية عبر الحدود. فكما أن التحليل السياسي يضع الآن بعض التشديد على معنى التفاعل عبر الحدود بين الأفراد والأعمال الخاصة؛ فإننا نعتقد كذلك أنه يتوجب على سوسيولوجيا القانون أيضا أن تعمل على تحليل مثل هذه التفاعلات، وألا تقتصر فقط على تقصى القوانين الخاصة للأمم داخل النظام الدولي.

الدولة و الهوية في أطوار العروبة الأولى
 
ويتناول الباحث جاسم محمد زكريا في الباب الثاني ملامح الهوية لدول العالم في الحضارات القديمة، ويخصص قسمًا مهمًا في هذه الباب لدرسة الدولة والهوية في أطوار العروبة الأولى.

مما لا شك فيه أن مهد ـ الحضارة الأول ـ سواء أكان الشام أم العراق أم مصر ـ كان في الوطن العربي . فالعرب أمة قديمة، أقدم من اسمها الذي تعرف به اليوم، لأنها أرومة ما سمي "بالجنس السامي"، التي تفرع عنها، الكلدان والبابليون والآشوريون والكنعانيون... فكلها تتكلم فروع لغة واحدة، دلَّ عليها اشتراك فروعها في بنية الفعل الثلاثي، الذي انفردت به بين لغات العالم.

يقول الباحث جاسم محمد زكريا:"بيد أن تسمية الجنس السامي Semitic race واللغات السامية Semitic Languon  هي تسمية حديثة، وضعها مستشرق نمساوي اسمه إبشهورن J.G.Ebchun ونقلها عنه،مستشرق آخر هو شلوتسهر في مقالة له يتحدث فيها عن الكلدان عام 1781، وتعود السامية، بتقديرهما، الى سام بن نوح، مقتفين – في ذلك – أثر (التوراة) ولا سيما سفر التكوين، الذي يعدّ، أن الأقوام الذين عاشوا في جزيرة العرب، والأقطار المجاورة لها هم ذرية سام بن نوح.

والسامية، تسمیة، مغلوطة، لا سند لها"، واستمراراً على ذلك الخطأ أو نتيجة له، كانت التفرقة بين تاريخ جزيرة وسكانها من جهة، والموجات التي انساحت منها في مطلع العصور التاريخية القديمة من جهة أخرى، لذا عدّ المستشرقون ـ ومن نقل عنهم ـ كل موجة من تلك الموجات المهاجرة في بلاد الشام ومصر والعراق والمغرب... أمة قائمة بذاتها ، ودونوا التاريخ ـ زوراً ـ على هذا الأساس.

من أجل ذلك؛ نرفض تلك التسمية بكل أبعادها وآثارها، وما السامية Semitic ـ بتقديرنا ـ سوی تسمية تلفيقية فحسب؛ لا سند لها ـ سوی أسانيد اليهود ـ من علم آثار ولا تاريخ، ونرى أن ثمة أصلا واحدة للأمة العربية، هو الأس المشترك للعرب قبل الإسلام. ويساند مذهبنا هذا قول المسعودي - أحد أئمة المؤرخين -: (إن جزيرة العرب كلها كانت مملكة واحدة، يملكها ملك واحد، ولسانها واحد) ، إذ إن وحدة الأصل تقتضي تماثل الفروع فيه؛ وإن بعدت بينهم الأرض أو تقادمت العصور، فإن كان الأمر كذلك، فقد جانب الصواب قولاً يفصل الفروع - التي انتشرت في شتى بقاع الوطن العربى - عن أصلها الأول، أو النظر إليها بغموض لا مسوّغ له حين التأريخ لها(ص 129).

والجدير ذكره في هذا المقام وجهة نظرٍ قيمة للمؤرخ الكبير جواد علي في تاريخ العرب قبل الإسلام،  يقول فيها:

"وطن الساميين الأول هو جزيرة العرب، ومنه هاجروا إلى الأماكن المعروفة التي استقروا فيها، فهم في ذلك مثل القبائل العربية التي تركت بلاد العرب، واستقرت في العراق وفي بادية الشام وبلاد الشام، لا يختلفون عن شيء، ثم قالوا: فإذا كنت قد تحدثت عن تلك القبائل المهاجرة بأنها قبائل عربية، فلم تسكت عن أولئك الساميين، ولم تجعلهم من العرب؟ و جوابي أن القبائل العربية المهاجرة هي قبائل معروفة الأصل، وقد نصت الكتابات والموارد الأخرى على عروبتها، ونسبت نفسها إلى جزيرة العرب، ولهجاتها لهجات عربية، لا ريب في ذلك ولا نزاع، وثقافتها عربية.

أما الشعوب السامية، فليس بين العلماء... اتفاق على وطنها الأول وليس بينها شعب واحد، نسب نفسه إلى العرب، وليس في الموارد التاريخ الواصلة إلينا مورد واحد يشير إلى أنها عربية؛ ولهجاتها وأن اشتركت كلها في أمور، فإنها تختلف أيضاً في أمور كثيرة، هي أكثر من مواطن الاشتراك والالتقاء. ففرقٌ كبير إذاً بين هذه الشعوب والقبائل العربية من حيث العروبة. ثم إن العروبة في نظري ليس بها حاجة إلى ضم هذه الشعوب إليها لإثبات أنها ذات أصل تؤول إليه، فقد أعطى الله تلك الشعوب تاريخاً ثم محاه عنه، وأعطى العرب تاريخاً أينع في القديم واستمر حتی اليوم، ثم إنَّ لهم من الحضارة الإسلامية ما يغنيهم عن التفتيش عن مجد غيرهم وعن تركاتهم، لإضافتها إليهم.

 

نحن إذ نطلق لفظة "عرب" و"العرب" على سكان البلاد العربية، فإنما نطلقها إطلاقاً عاماً على البدو والحضر لا نفرق بين طائفة من الطائفتين، ولا بين بلد وبلد. نطلقها بمعنى جنسية وقومية وعلم على رسٍّ لهخصائص وسمات وعلامات وتفکريربط الحاضرين بالماضين کما يربط الماضي بالحاضر.

 



فليس في العرب مركب نقص حتى تضيف إليهم من لم يثبت أنهم، لمجرد أنهم كانوا أصحاب حضارة وثقافة، وأن جماعة من العلماء أرى أنهم كانوا من جزيرة العرب، والراي عندالباحثيني أن العرب لو نبشوا تربة اليمن وبقية الترب لما احتاجوا إلى دعوة من يدعو إلى هذا الترفيع. 

ويستشهد ـ مفنداً ـ الأستاذ جواد علي برأي غربي مهمٍ فيورد الآتي:

وقد ذهب "د. ه. ملر" إلى أن القرآن الكريم هو الذي خصص الكلمة وجعلها علماً لقومية تشمل كل العرب، وهم يشك في صحة ورود كلمة "عرب" علماً لقومية في الشعر الجاهلي، كالذي ورد في شعر إمرئ القيس، وفي الأخبار المدونة في كتب الأدب على ألسنة بعض الجاهليين. ، ورأى "ملر" هذا، رأي ضعيف لا يستند إلى دليل، إذ كيف تعتمل مخاطبة القرآن قوماً بهذا المعنى لو لم يكن لهم سابق به؟ وفي الآيات دلالة واضحة لي أن القوم كان لهم إدراك هذا المعنى قبل الإسلام، وأنهم كانوا ينعتون لسانهم باللسان العربي، وأنهم كانوا يقولون للألسنة الأخرى ألسنة أعجمية:

ويخلص الأستاذ جواد علي إلى تحديد العرب بمفهومه الخاص قائلاً: 

نطلق لفظة "العرب" اليوم على سكّان بلاد واسعة، يكتبون ويؤلفون وينشرون ويخاطبون بالإذاعة و"التلفزة" بلغة واحدة، نقول لها لغة العرب أو لغة الضاد أو لغة القرآن الكريم. وإن تكلموا وتفاهموا وتعاملوا فيما بينهم وفي حياتهم اليومية وذلك بلهجات محلية متباينة، ذلك لأن تلك اللهجات إذا أرجعت رجعت إلى أصل واحد هو اللسان العربي المذكور، وإلى ألسنة قبائل عربية قديمة، وإلى ألفاظ أعجمية دخلت تلك اللهجات بعوامل عديدة لا يدخل البحث في بيان أسبابها في نطاق هذا البحث.

ونحن إذ نطلق لفظة "عرب" و"العرب" على سكان البلاد العربية، فإنما نطلقها إطلاقاً عاماً على البدو والحضر لا نفرق بين طائفة من الطائفتين، ولا بين بلد وبلد. نطلقها بمعنى جنسية وقومية وعلم على رسٍّ لهخصائص وسمات وعلامات وتفکريربط الحاضرين بالماضين کما يربط الماضي بالحاضر.

واللفظة بهذا المعنى، وبهذا الشكل، مصطلح يرجع إلى ما قبل الإسلام لكنه لا يرتقي تاريخياً إلى ما قبل الميلاد، بل لا يرتقي عن الإسلام إلى عهد جد بعيد. فأنت إذا رجعت إلى القرآن الكريم، وإلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت للفظة مدلولاً يختلف عن مدلولها في النصوص الجاهلية التي عُثر عليها حتى الآن، أو في التوراة والإنجيل والتلمود وبقية كتب اليهود والنصارى وما بقي من مؤلفات يونانية ولاتينية تعود إلى ما قبل الإسلام فهي في هذه أعراب أهل وبر، أي طائفة خاصة من العرب. أما في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي (...) فإنها علّم على الطائفتين واسم للسان الذي نزل به القرآن الكريم، لسان أهل الحضر ولسان أهل الوبر على حد سواء. 


التعليقات (0)