كتب

تاريخ الورق.. صفحة ناصعة من تاريخ الثقافة الإسلامية

اخترع الفكر الورق فكفى الكتّاب مكابدة "حرف الشؤم" على عبارة التوحيدي
اخترع الفكر الورق فكفى الكتّاب مكابدة "حرف الشؤم" على عبارة التوحيدي

الكتاب: "قصة الورق: تاريخ الورق في العالم الإسلامي قبل ظهور الطباعة"
الكاتب: جوناثان م. بلوم، ترجمة أحمد العدوي
الناشر: دار الأدب للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2021، الرياض- المملكة السعودية
عدد الصفحات: 464 صفحة

1 ـ  بين يدي الكتاب


للتأريخ مداخل عديدة. منها الاستناد إلى الوثائق والآثار لتحديد سجلّ أحداث الماضي. ومنها مداخل غير متداولة كثيرا، كأن يتتبع المؤرّخ ظاهرة جزئية أو مادة بعينها أو منتجات محدّدة فيتتبع مسارها لتكون واجهةً عمقها المجتمع بأسره. وغالبا ما يكشف هذا الاختيار عن صفحات أغفلها أسلوب التأريخ المعهود. و"قصة الورق" لجوناثان م. بلوم، ترجمة أحمد العدوي أنموذج جيّد لهذا الاختيار. فبحثه في تاريخ الورق في العالم الإسلامي عرّفنا على مسار هذا المنتج. فقد اُخترع في البداية لاستخدامات أخرى غير الكتابة، منها التغليف خاصّة ولم يكتشف الإنسان أنه يمثل محملا مثاليا للكتابة إلاّ بعد السّنوات الطوال. وتطورت أدواته بدورها من القلم المعدني المسماري إلى أقلام القصب أو أقلام الريش أو الفرش إلى الأقلام المعتمدة اليوم. ولكن البحث في التفاصيل غير ذات البال مثّل مدخلا لعرض حضارات عاشها العالم الإسلامي أو تأثر بها أو أثر فيها ولرصد مراحل من مسيرة الذهن الإنساني نحو التطوّر والتقدّم.
 
2 ـ التّدوين ما قبل صناعة الورق

استعمل الإنسان حوامل مخلفة للتدوين قبل اختراع الورق. فاعتمد الصينيون الحبال المعقودة لحفظ معلوماتهم. ثم لمّا ظهرت الكتابة ومثلت رموزا مصوّرة تعود إلى 1600-1050 ق. م. سجلوها على عظام الحيوانات وعلى اللوحات الطويلة. وكان بعضها يشد إلى بعض بالخيوط. ثم استعملوا أنسجة الخيزران والمنسوجات الحريرية. ويعود أقدم ما وصلنا من هذا الحامل إلى نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد. ووجدت قطع أخرى منسوجة من الحرير في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد. ومثّل الأمر تطورا كبيرا في طرق التدوين وفي لغته. فقد وفر مساحة مناسبة للكتابة بأريحيّة. 

غير أن الحرير كان مادة مكلفة وإنتاجه عملية شاقة للغاية. لذلك كاد استعماله يقتصر على تدوين الأهمّ من منظورهم وقتها. فنسخوا نبوءات العرافين والمنجمين وسجّلوا أقوال الملوك المأثورة للأجيال اللاحقة. واعتمدت حضارة ما بين النهرين الألواح الطينية والأقلام المسمارية منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد. أما في مصر فاستُخدمت لفافات البردي. فكانت وسائط عمليّةً تناسب الكتابة الهيروغليفية، تلك النّقوش والتمثيلات التصويرية. ومن بلاد النيل انتشر استعمال هذا الورق في عامة حوض البحر المتوسط. والشذرة المدونة الأولى على هيئة كتاب من هذا الورق تمثّل مصنفا لاتيناي لمؤلف مجهول يعود تاريخه إلى سنة 100 ق م.

وفي روما استعملت الألواح الشمعية في زمن مبكر. وظلّ استعمالها قائما حتى القرون الوسطى. فشمل المسودّات والرسائل والملحوظات والمراسلات التجارية وعليها دُوّنت عِضات البابا جريجوريوس الكبير نحو 600 م قبل أن يستنسخ نصها لاحقا على لفافات من أوراق البردي. وكانت هذه الألواح تُمحى لتصقل وتستعمل من جديد. ويُقدّر المؤرخون أن وسائط أخرى للتدوين قد ظهرت هنا أو هناك. ولكنها اندثرت ولم تقو على الصمود أمام فعل الزّمن لهشاشتها.

وبالموازاة مع هذه الحوامل المميّزة للحضارات القديمة كان الإنسان يستعمل الألواح الخشبية أو العاجية. فكانت تُربط معا بمشابك وتوظّف في تدوين المعطيات المؤقتة، كتسجيل الحسابات وإنجاز التمارين الرياضية واللغوية. وميزت استخدامات العبرانيين واليونانيين خاصّة. وصنعت لفافات الرّق من جلود الدواب، فكانت تنقع وتجفف. فتمثل مادة ملونة وصلبة. ولكنها كانت تفتقر إلى المرونة التي يحتاجها النسّاخ. وتعود أصولها إلى مدينة برجامون (Pergamon) وهي مدينة تاريخية تقع في تركيا اليوم. وخوّل ظهورها في المدينة لمكتبتها أن تنافس مكتبة الإسكندرية. وتوجد اليوم مخطوطات منها تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد تؤكد استعمال الرق في منطقة شرق البحر المتوسط. ثم شرع الرومان في استعمال الرق المطوي على هيئة كتاب منذ القرن الأول الميلادي. 

لقد احتفظت أوراق البردي في مصر بأهميتها بعد فتح المسلمين لها في القرن الأول للهجرة. ورغم أنّ العرب الفاتحين حافظوا على التقليد اليهودي والنصراني ونسخوا نصهم المقدس على الرّق لمتانته فإنهم استعملوا البردي بالتوازي وصدّروه إلى مختلف ولاياتهم واستعملوه في الحاجات الحينية التي لا تنشد الحفظ لأزمنة طويلة أو تتداول على نطاق واسع. وعامّة دُونت الآثار في على حوامل مختلفة ولكنها لم تصنّف في شكل كتب إلاّ خلال العصور المسيحية المبكرة. فكانت نادرة. ويقدّر المؤرخون أن الكتب ظهرت أولا في الشطر الشمالي لحوض المتوسط رغم أنّ أغلب ما عثر عليه من شذراتها جاء من مصر، ويرجحون أن للمناخ المصري الخاص دورا في عدم تحللها وحفاظها على تماسكها على خلاف مناخ الضفة الشمالية الرذطب.. ومهما يكن الأمر يُعدّ منتصف القرن الرابع للميلاد زمن فرض الكتاب شكلا مقبولا في مختلف أنحاء الإمبراطورية النصرانية. ويسجل التاريخ أنّ قسطنطين الثّاني أمر كتاب مكتبة بيرغامون بنقل النصوص المدونة على لفافات البردي إلى الرّق المطوي على هيئة كتب.

3 ـ ظهور صناعة الورق ودوره في تطوير المعارف ونشرها

يتّفق المؤرخون على أنّ الصين موطن اختراع الورق. فقد وجد علماء الآثار عينات من الورق المبكّر في مواقع كثيرة من غربيها. ولئن اختلف تقديرهم لزمن نشأته فإن أغلبهم يردّه إلى القرن الثاني قبل الميلاد. ويقدّر جوناثان م. بلوم أن اكتشافه تمّ صدفة. فقد يكون شخص ما وضع ألياف النفايات الرطبة على حصيرة فجفت، فأوحى له المكون بفكرة تشكيل الألياف على هيئة ورقية رقيقة. واعتمد الصينيون هذا المنتج في استخدامات مختلفة أهمها التّغليف وصناعة المناديل الورقية. ثم اكتشفوا لاحقا أهمية اتّخاذها محملا للكتابة. والثّابت وفق الباحث أنّ الورق لم يستعمل للكتابة إلا بحلول القرن الأول الميلادي. 

تشير المعلومات التي يوردها الكتاب إلى مكوناته وإلى تاريخ صناعته ومراحل ازدهارها. فيعرف معجم صيني قديم الورق على أنه "حصيرة مصنوعة من ألياف النفايات". ويرتبط الحقل المعجمي المتصل بكلمة ورق في اللغة الصينية بالألياف التي تستخص من الخرق أو خلي شرانق دودة القزّ أو الحصيرة التي تصنع من الألياف المنسوجة. وطوّر الصينيون المطابع بدوافع دينية. وتتطلب الطباعة عناء كبيرا. فقد كانت مكلفة أولا ومعقدة ثانيا، فطبيعة لغتهم التي تقوم على آلاف الأشكال لم تجعل الأمر هيّنا وتطلب الأمر نحو ثلاثة قرون لتأخذ الطباعة في الانتشار فاشتدّ الطلب على الورق لطباعة الكتب وكان للعامل الديني دور في هذا فقد عملوا على طباعة الكتب البوذية التبشيرية لنشرها في الأقاليم الصينية وفي بلدان آسيا مستعملين القوالب الخشبية. وأقدم كتاب مطبوع في العالم قائم اليوم يعود إلى 868 م. ثم صنعت أنواع مختلفة من الورق وتعدّدت أغراض استعماله. فاستخدمت قصاصاته في الاحتفالات أو المواد المنزلية أو الملابس أو الطائرات الورقية.

4 ـ انتشار الورق في العالم الإسلامي

لانتشار الورق في العالم الإسلامي [حكاية] يوردها الكاتب نقلا عن الثعالبي في "لطائف المعارف"، وهو كتاب موسوعي يأخذ من كلّ شيء بطرف خصّصه لما تتفرّد به الأقاليم، ومدارها على أن المسلمون عرفوا الورق عندما سبَوْا بعض صنّاع الورق الصينين في معركة طلاس (جنوب كازاخستان الآن). ولكن الأمر لا يعدو أن يكون "حكايةّ في تقديره. فعودته إلى المراجع الصينية التي تعدّد مَنْ وقع في أسر المسلمين من أصحاب الصنائع تدفعه إلى دحضها. ويجد أنّ رواية ابن النديم البغدادي في كتاب الفهرست المتقدمة زمنا أكثر حذرا. فقد أشار إلى أنّ إقليم خرسان شرق فارس هو مهد هذه الصناعة. يقول "فأما الورق الخرساني فيعمل من الكتان ويقال "إنه أحدث في أيام بني أمية، وقيل في الدولة العباسية، وقيل إنه قديم العمل وقيل إنه حديث وقيل إنّ صناعا من الصين عملوه بخرسان عملوه على مثال الورق الصيني". ثم يعرض إشارة ابن خلدون في مقدّمته إلى أن الفضل بن يحي البرمكي وزير الخليفة هارون الرشيد هو الذي أمر بصناعة الورق واستخدامه في الدواوين لمّا غدا الرَّق والبردي عزيزين: [فأشار الفضل بن يحي] بصناعة الكاغد وصنعه وكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه واتخذه النّاس من بعده صحفا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت".

 

كان التأريخ لتطوّر استخدامات الورق بشكل ما تأريخا لتطوّر الذهن البشري. وهو إثبات لكون صناعة الورق اتبعت طريق الحرير تقريبا. ولكن لمّا كان العرب والمسلمون الفاعلين الحضاريين الأساسيين قبل انحطاط حضارتهم انحرف الطريق عن اليونان وإيطاليا ليعبر إلى أوروبا عبر شمال إفريقيا والأندلس.

 



ومهما يكن من أمر فقد ظلّ الورق الصيني يتمتع بمكانة في نفوس المسلمين لعدّة قرون. فانتشرت مصانعه في بلاد فارس والعراق والشام ومصر والمغرب والأندلس. واستغرقت رحلته من سمرقند إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي قرنين فحسب فيما استغرقت من الصين إلى سمرقند خمسة قرون بحالها. ويعزو الباحث هذا الاختلاف إلى التحولات الفكرية السريعة التي عرفها العالم المسلمون. فنشاطهم العلمي والفكري والإداري جعل حاجتهم إلى الورق شديد. فأطلقوا عليه كلمة القرطاس ووردت الكلمة في القرآن بهذا المعنى. 

وللكلمة أصول يونانية khartes وتعني الورق أو الكتاب، وشاع استعمال كلمة [الورق] ومنها اشتقوا كلمة الورّاق والوراقة إشارة إلى صناعته. واعتمدوه لكتابة القرآن ونسخ المصنفات بعد عصر التدوين وكان له دور بارز في المراسلات السلطانية بعد أن استقام الحكم وأُسست أجهزة الدولة. وأضحت البيروقراطية الناشئة عصرئذ، من محاسبة وجباية وخراج وجزية، في حاجة إلى التوثيق. أضف إلى ذلك أنّ الكتابة على الورق أقل عرضة للتزوير. أما ورق البردي فيكشط والرّق يغسل وكانوا يعيدون التدوين عليهما في شكل طروس.
 
ومثّل العالم الإسلامي الجسر الذي عبرت منه صناعة الورق إلى أوروبا في حدود القرن العاشر ميلادي. ولم يصنّعوه بأنفسهم حتى القرن الثاني عشر ميلادي. فقد تعلموا صناعته من مسلمي الأندلس الذين أسسوا مصانعه في إسبانيا. ثم طوروا صناعته. فحولوا خرق الكتان وألياف النفايات الأخرى إلى مادة قوية ومرنة. فكانوا يخفقون الألياف باستخدام المطارق الثقيلة ثم ينشرون المنتج على الألواح ويجففونه ليعطي مادة مثالية تستخدم لتدوين السجلات والصكوك والوثائق التجارية. وعلى خلاف الصين والعالم الإسلامي لم يسهم الدين المسيحي في نشر هذه الصناعة. فقد ظل الرهبان على هامشها واستمروا في استعمال المخطوطات المصنوعة من جلود الدواب.

5 ـ صناعة الورق.. وبعد؟

في هذا الكتاب كم هائل من المعلومات التاريخية المختلفة. وعلى كثرتها وأهميتها يمكننا أن نميّز منه خلّتين: فهو برهان على أنّ العلاقة بين الوسائط والفكر جدلية تفاعلية. فقد اخترع الفكر الورق فكفى الكتّاب مكابدة "حرف الشؤم" على عبارة التوحيدي خاصة لما كان النسخ يتمّ على العظام والجلد. وأسهم الورق في تطوير الفكر بالمقابل. فكان الحامل الأمثل الذي دام لنحو خمسة وعشرين قرنا. ولم يتراجع إلا بعد اختراع العقل المعاصر للتخزين الرقمي. ومن ثمة كان التأريخ لتطوّر استخدامات الورق بشكل ما تأريخا لتطوّر الذهن البشري. وهو إثبات لكون صناعة الورق اتبعت طريق الحرير تقريبا. ولكن لمّا كان العرب والمسلمون الفاعلين الحضاريين الأساسيين قبل انحطاط حضارتهم انحرف الطريق عن اليونان وإيطاليا ليعبر إلى أوروبا عبر شمال إفريقيا والأندلس.


التعليقات (0)