يتخذ
استخدام القضية
الفلسطينية وما يتصل بها في السياسة العربية، أبعاداً جديدة في هذه
المرحلة الممتدة منذ اندلاع الثورات العربية قبل عقد من الآن. ويمكن تسمية هذه
المرحلة بمرحلة انتعاش ظاهري لـ"
الصهيونية السياسية العربية"، وفقاً
لمسار وتبعات التحالفات التي فرضتها أجندة التصدي للثورات العربية، بعودة استحكام
الاستبداد العربي لمقاليد القمع الشامل وضخ المليارت لتمويل الثورات المضادة، للوصول
إلى الهدف المعلن في عواصم عربية من دمشق والقاهرة إلى تونس والخرطوم وصنعاء
وبنغازي وأبو ظبي والمنامة والرياض. يلتقي الاستبداد مع المصلحة
الإسرائيلية في
المنطقة العربية، بالمصلحة المباشرة وغير المباشرة.
وبعيداً
عن المفهوم المطاطي لعبارة "دعم حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على حدود
الرابع من حزيران 67، وعاصمتها القدس الشرقية وفق القرارات الدولية، ودعم حل
الدولتين"، المستخدمة منذ مدريد وأوسلو والمبادرة العربية للسلام، يحضر
الموقف الأمريكي الذي أفصح عنه الرئيس الأمريكي جو بايدن في زيارته الأخيرة
لإسرائيل والسعودية، بعدم واقعية هذا الطرح بما فيه "المبادرة العربية للسلام"
التي لم تُبق منها إسرائيل شيئاً على الأرض يمكن التعويل عليه.
تم استبدال
كل ما سبق مقابل الفتات المالي الأمريكي للسلطة الفلسطينية، وقبله التمنين المالي
والسياسي العربي بدعم فلسطين، مع تحمل تبعات هذا الدعم وتحميله مسؤولية إخفاق بناء
الدولة والمجتمع، وفشل برامج التنمية العربية وبرامج التسليح والأمن التي أنفق
عليها مئات المليارات طيلة عقود تحت ذرائع مختلفة ومتبدلة؛ من دعم فلسطين ومقاومة
مشروع إيران إلى مكافحة الإرهاب، حتى تحقق لها سحق الإنسان العربي المقصود من وراء
كل مشروع.
وشكلية
الكلمات العربية في "قمة جدة للأمن" لا تختلف عن سابقاتها العربية بإيراد
المفهوم المطاطي عن القضية الفلسطينية، مع جملة المواقف السياسية للسلطة
الفلسطينية وغير البعيدة عن شقيقاتها العربية الراضخة للضغوط والشروط الإسرائيلية
الأمريكية، أنتجت ما تبتهج له المؤسسة الصهيونية من إنجازات واختراقات لم تكن
تتصورها في يوم من الأيام؛ بانضمام الصهيونية العربية للتحالف واعتبارها مظلة
أمنية ضرورية للدفاع عن مصالح النظام العربي، وضرورة اقتصادية "للتنمية
المستدامة والسلام".
وبالعودة
للبحث عن جوهر قيام المشروع الصهيوني المتمثل بقيام إسرائيل على اغتصاب الأرض العربية
الفلسطينية، وقتل وتهجير أبنائها وممارسة كل أشكال الجرائم والعدوان على الشعب
الفلسطيني، يصبح مجرد التعاطي مع الكيان القائم على نكبة الفلسطينيين بهذه المباهج
السخية من الاستثمار بهذا المشروع؛ مشاركة بالجريمة وتسهيلا لطمس الحقائق.
يقول
التبرير السعودي بعد فتح أجواء المملكة لطيران الاحتلال: "إننا لم نناقش مع
بايدن مسألة التعاون العسكري والتقني مع إسرائيل خلال قمة جدة، ولا قبلها"، وكأن
التعاون العربي مع إسرائيل بحاجة لقمم، وهو جارٍ على قدم وساق. والدليل على ذلك
الزيارات المكوكية لرئيس أركان جيش الاحتلال أفيف كوخافي للرباط وأبو ظبي والمنامة
والقاهرة وعمان، فضلا عن العلاقات الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تبرمها
إسرائيل في السر والعلن مع العديد من الأنظمة العربية، وكانت المشجع والمحرك
لسياسة أمريكية في المنطقة تعترف بضم القدس لإسرائيل وتنقل سفارتها إليها، وتشجع
الاستيطان، وتقول إن "الحلول السلمية السابقة" غير واقعية، وتصمت عن كل
الجرائم وتحميها.
إذا الثابت
في سياسة الإدارات الأمريكية والمحور فيها إسرائيل، والمحيط حولها تفاصيل مرممة
لثغرات وجودها واستمرارها كمشروع استعماري في المنطقة العربية، دون الأخذ بمخاوف
بعيدة تتعلق بتحديات كثيرة تتعلق بالأمن والسياسة والاقتصاد والمجتمع، وبعيدة أيضا
عن الحاجة الأساسية للمواطنة والكرامة والحرية للإنسان العربي، ما يعني التبني
الكلي للصهيونية السياسية التي يتفاخر بها جو بايدن وأصدقاؤه في النظام العربي
الخائف والمرتعد، ويتم كبح جماح حرية الشارع العربي التي تشكل الخطر الحقيقي الذي
ينعت بـ"الإرهاب" من قبل أمريكا وإسرائيل وحلفائهم في
العالم العربي.
الحديث بعد
قمة "جدة للأمن" عن مكاسب ضئيلة لإدارة بايدن من زيارته للمنطقة، يحمل
تسطيحا سخيفا للأمور، بعد أن أضحت الصهيونية صديقة وأسلوب حياة، ولم تعد إسرائيل
عدوا للمصالح العربية، فهي شريكة حالية أو مستقبلية بما لدى العرب من إمكانيات لا
يستطيعون إدارتها دون "التكنولوجيا" العسكرية والاقتصادية لإدارة
مواردهم حسب قاموس التصهين العربي المستثمر في المستعمرات الإسرائيلية.
والحديث
عن فشل وتعثر الصهيونية العربية في
التطبيع الشعبي مع الصهيونية أيضا فيه تسطيح
للعقل العربي المقموع والمسلوخ والمبعد عن دوره، فإذا كان الشارع والرأي العام
والمجتمع العربي، هو السلاح المتقدم للمجتمعات العربية في مواجهة المشروع
الصهيوني، فما هو دوره لإفشال وتعثر هذا المشروع، في حين يمارس عليه من قمع
واضطهاد، ما تعجز أجهزة الاحتلال وأمنه عن تحقيقه؟ فالنظام العربي الباحث عن أمنه
الغذائي والمائي والدوائي والعسكري في كل قمة عربية منذ إنشائها، لم يعثر على وصفة
علاجه إلا من المصحة الصهيونية التي تلقى رواجا كبيراً على حساب حصار الشعب
الفلسطيني في معابره العربية ومطاراته وحدوده، وتفتح الآفاق للفلسطيني في زنازين
الاستبداد العربي.
أخيرا، يتم الحديث عن تعثر الصهيونية العربية التي اتخذت إجراءات وسياسات عقابية ضد الشارع العربي وضد
قضية فلسطين بالتصهين، لبقائها والاحتلال على قيد الحياة، وإخفاق الصهيونية العربية
التي يعتمد بنيانها على الأمن والجيش والشرطة وعلى القمع والقهر والتحطيم، والتي
تضمن لنفسها امتيازات اقتصادية وسياسية بشكل يعوق عملية البحث عن أي حل سلمي
للأزمات الداخلية والخارجية، وتبعد الشعب عن صناعة القرارات السياسية والاقتصادية.
وتلك حجر الزاوية والمغزى للأمن العربي المشترك، المائي والغذائي والعسكري
والسياسي، بدلا عن إثارة العواطف الكلامية المخيبة للآمال في الحديث عن فلسطين
ودعم حق الشعب الفلسطيني.
الذي
يتعثر هو مشروع تحرير فلسطين من المشروع الصهيوني، والسبب انكشاف الصهيونية
العربية في خندق المستعمر الإسرائيلي، وهو بعد جديد في الصراع.
twitter.com/nizar_sahli