هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "استعصاءات التنوير العربي بين المأزق والمخرج"
الكاتب: حسن إبراهيم أحمد
الناشر: اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ سلسلة الدراسات 2019
(307 صفحات من الحجم الوسط)
كانت عوامل النهضة الفكرية والسياسية والاجتماعية تشكو من عدم الانسجام، فمن ناحية أولى لم تتمكن تلك اليقظة من إحداث بلورة جذرية للبنى الفكرية والاجتماعية المتوازنة (بما في ذلك البنى الاقتصادية والسياسية). ومن ناحية ثانية، عجزت تلك اليقظة عن استيعاب الطبيعة الحقيقية لمفهوم الحداثة.
فعلى الصعيد الفكري والثقافي كان هناك تياران: تيار الإصلاح الديني، وتيار ليبرالي. أما على الصعيد الاجتماعي السياسي، كانت ثمة حركتان متعاكستان حركة مجتمع متأخر بدأ يتلمس تأخره نتاج الصدمة مع الغرب، ويريد إعادة بناء ذاته وصياغة هويته، وتحديث بنيته بأدوات بعضها محلي ذو أبعاد تاريخية، وبعضها مضادة، مصدرها الضغط الخارجي، الذي كان يدفع إلى إعادة انتاج المجتمع المدني وفق معطيات العصر الحديث وشروطه، ولاسيما تحكم المراكز الاستعمارية، وإلى إعادة تشكيل بنى المجتمع وفق المصالح الرأسمالية الغربية، ومنطق التطور الرأسمالي اللامتكافئ لمصلحة ظهور رأسمالية تبعية و"هامشية" في الوطن العربي، حيث أصبح هذا الأخير منطقة هامشية وآمنة للسوق الرأسمالية العالمية، الأمر الذي قاد إلى ترسيخ علاقات التبعية البنيوية في المجالات الاقتصادية والثقافية إزاء الغرب، والحذو حذوه في نماذج الفكر والثقافة وأساليب المعيشة والحياة والاستهلاك .... إلخ.
لقد تشكلت فئة رواد النهضة العربية الحديثة، في عهد دولة محمد علي ثم لاحقا في عهد إسماعيل الذي دفع بالنهضة الفكرية إلى الأمام، وفي ظل حركة الإصلاح التي بدأ بها أحمد باشا (1837- 1855) في تونس، وعهدي خليفة محمد باي (1855 ـ 1859) ومحمد صادق باي (1859 ـ 1873). وكانت بعثات الطلاب ترسل إلى الدراسة في فرنسا بانتظام منذ العام 1826، حيث كانت مقتصرة في البداية على المسيحيين الاتراك والمشرقيين، ثم مالبث أن ازداد العنصر العربي المصري فيما بعد، وكان هوا لعنصر الذي تألفت منه الطبقة المثقفة الأولى لمصر الحديثة، هذه الطبقة التي أخذت، منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر، تلعب دوراً في شؤون البلاد. فكان أعضاؤها يترجمون وينشرون إلى جانب الكتب التقنية الصرف، كتباً أخرى. وكانوا يتعاونون تعاوناً وثيقاً مع اتباع سان سيمون في إعادة تنظيم المدارس. وقد تخرج من بين صفوفهم أول المفكرين السياسيين العظام في مصر الحديثة، أعني به رفاعة الطهطاوي ".
كان من المعاني الخاطئة، أو العمليات غير محكمة التوجه، الربط بين التنوير وضرورة التخلص من أسر التراث أو الماضي، باعتبار أن التنوير هو حركة باتجاه الأمام، باتجاه المستقبل، بينما التراث هو ربط الأمة وتوجهاتها بما أنجزته سابقا، في الماضي، واعتبار تجاوزه محنة ماحقة لا يجوز مجرد التفكير بها.
إن رواد النهضة العربية الذين تعاملوا مع واقع المجتمع العربي المتخثر، والذي كان يعيش بدوره حالة من التفكك في ظل النظام الاقطاعي العثماني القديم، الذي سيمهد تفككه لنشوء علاقات رأسمالية في عالم المدينة العربية، ولتغلغل الرأسمال الأوروبي في مصر وسوريا وتونس وباقي البلاد العربية الأخرى، مدمراً بذلك الصناعات الحرفية وإعاقة تطورها الطبيعي، وكذلك الكيان الصناعي التقليدي، على أثر دخول السلع الأوروبية، ولتحويل الوطن العربي كله إلى الرأسمالية التابعة، هؤلاء الرواد احتلوا موقعاً ودوراً توفيقيين وإصلاحيين في سيرورة التحديث التي بدأت تشق طريقها في دولة محمد علي باشا بمصر، وسلطة باي تونس، حيث أن سيرورة التحديث هذه لم تكن خارجة عن سياق خيارات الدولة العثمانية في التحديث أصلاً.
"وخصوصية الطهطاوي والتونسي تبدو هنا لافته ومثيرة.. فهما تربيا" تربية تقليدية "(على حد وصف البرت حوراني) قبل اتصالهما الفعلي بـ: المدنية الفرنسية"، فالطهطاوي، ابن البيئة الفلاحية الفقيرة، والأزهري، والواعظ والأمام، هو مثال حي لإحدى التجارب المتفرعة عن خيارات التحديث الناشئة داخل الدولة وأجهزتها أثر عملية التحدي الذي فرضته القوة الأوروبية الصاعدة. والاثنان معاً، نشأ وشكلا في سياق التجربة الجديدة التي نهضت من داخل الدولة العثمانية تجربة الإصلاح والتحديث. ولقد فتحت سياسة باشا مصر وباي تونس أمامهما آفاقاً صاغت توجههما اللاحق وشكلت تعبيراً دقيقاً عن واقع المثقف الملحق بمنطق الدولة الناشئة والمشارك في تنفيذ سياستها .
في هذا الكتاب الذي يحمل عنوان: "استعصاءات التنوير العربي بين المأزق والمخرج"، للكاتب السوري حسن إبراهيم أحمد، والمتكون من مدخل طويل، وخمسة فوصل، يتناول فيه الكاتب إخفاقات التنوير في العالم العربي، بعد أن عقدت عليه الآمال يوما، وأصبحت الظلمات السمة الغالبة عليها لا الأنوار، مع أن الأنوار كما الظلمات نسبية، وتعبر عن سويات مختلفة، لكن مقاييسنا للأمرين لا تصح في قياسها النسب الرياضية، إنها تخمينية .
يقول الكاتب حسن إبراهيم أحمد في المقدمة: "التنوير كما أراه و أفهمه، هو نشاط العقل، أو سلطته على الواقع، أو انعكاسه في حياة البشر. الخيبة مؤلمة فالمجتمع الأهلي لا تزال قيمه تهزم قيم المجتمع المدني ، والديمقراطية عجزت عن التوطن وإزاحة الاستبداد متيحة لعبث العابثين بالعباد والبلاد لا رافعة للتقدم و توطين الوعي، والعلمانية بضاعة بعض المثقفين في أحاديثهم بعدما خذلتهم الطوائف و المذاهب و الأحزاب السياسية والسلطات، ويجري تجريمها، والمواطنة ملاذ من لا قبيلة و لا طائفة له، و المثقف ملحق بأحد الاستبدادين، السياسي و الديني، أو بكليهما، و الثقافة ابقى في الكباش مع السلطات، و المثقفون خارج ذلك قلة لا سند و لا حرية لحراكهم، ومن كانت في يده سلطة من أي نوع جعلها متراسا يمكنه من الاستبداد بالآخرين، فـ " أنا مسؤول ، اذن انت احمق ، انت مسؤول ، اذن انا احمق" كما يقول علم الصراع ، و ليت الصراع يجري على مستوى العقل"(ص 9).
التنوير حاجة ضرورية للتقدم
ليس التنوير حاجة يمكن الاستغناء عنها مع إلقاء في مرتبة إنسانية رفيعة، فهي في حال لم تحصل لأن المقام تحصيل حاصل لنشاطه العقلاني. لكن التنوير في العالم العربي، يصطدم بالتراث، باعتباره مقدسًا، ومعيارًا، يجب أن يقاس عليه كل شيء. لقد تحول التراث إلى دوغما مقدسة، مصمتة ومانعة للتنوير.
ونحن إزاء التراث أمام موقفين: الأول، تعظيمه وتبجيله واعتباره موضع عزة الأمة ورفعتها، وفيه تتجلى المكانة المثلى التي لا يمكن تحاوزها لأنه بريء من الفساد، لذلك علينا الانتظام فيه لنصنع مستقبلنا الزاهر. والثاني، هو تجريم بعض الناس لبعض التراث أو كله، باعتباره سبب التخلف عندما ننحبس داخله ولا نحسن الخروج منه أو التبعية له، فلا نلحق بالأمم الحية .
كلا الموقفين لا عقلاني، والعلة ليست في التراث، بل في موقفنا منه، فالتراث ثقافة عصر ما، والحياة لا يصح سجنها عند لحظة معينة قبلها، كان لها سماتها وشروط وجودها، وبالتالي لا نستطيع تجريده مما أتاحه من إمكانيات ورؤى لا يزال البناء عليها ممكنا، وإن لم يكن بحرفتيها وشكلها، فبروحها وما نقدر على توليده منها بعيدا عن حاكميته المطلقة وهذا يتيح تمكين ما يمكن تمكينه منه عبر قراءات متواترة، نظريا وعمليا، لها قدرة تجاوز ما فقد إمكانية البناء عليه، في حين أننا نؤكد لم نخرج من هيمنة التراث كي تكون الدعوة للانتظام فيه مقبولة .
أوجد البشر أفكارا، وخلقوا عقائد وأوهاما تصورها، و تعاظم دور هذه الأفكار والأوهام، حتى حالت إلى قوى ماوروائية، وإلى إيديولوجيات، أصبحت حاكمة، كما يرى جاد الكريم الجباعي، فقد أصبح الإنسان محكوما بما خلق من أحكام و أفكار وأوهام، وأسير تصورات هو من أوجدها، فإذا الخالق مخلوق، وإذا واضع الأفكار خاضع لأحكامها ومفاعيلها. ويرى في الإيديولوجيا الألمانية لماركس وأنجلز مثالا على ذلك، علما أن المفكرين الكبيرين هما من سعى لتحرير البشرية مما أوقعاها فيه .
الخيبة مؤلمة فالمجتمع الأهلي لا تزال قيمه تهزم قيم المجتمع المدني ، والديمقراطية عجزت عن التوطن وإزاحة الاستبداد متيحة لعبث العابثين بالعباد والبلاد لا رافعة للتقدم و توطين الوعي، والعلمانية بضاعة بعض المثقفين في أحاديثهم بعدما خذلتهم الطوائف والمذاهب والأحزاب السياسية والسلطات..
كتب الكتاب والباحثون العرب كثيرًا في هذه المعاني والموضوعات إنما لم يتحقق المراد، أي التنوير، إذ أن كتلة الواقع الراكد والمتخلف أكثر صلابة، وبالتالي لا مناص من استكمال الطريق، أي أن يبقى التنوير مطلبًا سبيلاً لا يفقد وجاهته.
كان على الباحثين الجادين في الأمر أن يأخذوا تعريف الفيلسوف كانط للتنوير أو تحديده للمراد به منطلقا باعتباره أبرز، أو من الأوائل الذين قدموا فهما واضحا للتنوير .
في هذا السياق، يستشهد الكاتب حسن إبراهيم بقول دوريندا أوترام: "أطلق كانط على التنوير في واحدة من أكثر العبارات ترديدا، إنه خلاص الإنسان من سذاجاته التي جلبها لنفسه، وذلك باستخدام عقله دون أن يشوهه التعصب ودون أن يوجهه الآخرون)، "أن تكون عند الإنسان شجاعة أن يعرف فهذا جوهر التنوير".
ويورد أيضًا قول عثمان أشقرا عبارات كانط على الشكل التالي: "خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر ويجلب الإنسان عل نفسه ذنب هذا القصور عندما لا يكون السبب هو الافتقار إلى العقل، بل إلى العزم والشجاعة لاستخدام عقلك (ذلك هو شعار التنوير "(ص24).
لقد رأى كانط (1724 ـ 1804) أن التنوير عبارة عن عملية محفوفة بالمخاطر والمشاكل وليست مشروعا مكتملا. كما تنقل أوترام أن التنوير عند كانط ومندلسون، كان يعتبر بمثابة سلسلة من المهام والمشاكل أكثر من كونه قائمة من المشاريع العقلية القابلة للتوصيف السريع والمحدد، وبالتالي الأفضل أن نأخذ التنوير باعتباره سلسلة المعضلات والمساجلات التي دارت حول المواضيع الحساسة التي ميزت القرن الثامن عشر، كما أنه فترة زمنية تجمعت فيها مشاريع الإشعاع العقلاني حتى غيرت طبيعة النمو في المجتمع ونظام الحكم في كل مكان من العالم.. يفهم من بعض هذا الكلام أن التنوير ليس مشاريع فكرية ومماحكات عقلانية فقط، إنه نشاط عملي إنتاجي، ونشاط سياسي واجتماعي. بالتالي فهو لم يكن ظاهرة تنتمي إلى غرب أوروبا فقط .
يقول الكاتب حسن إبراهيم: "إن ما نراه من تطور في حياة الناس، أو في حياة بعض القطاعات الشعبية والمناطق، يشير إلى أن مجتمعاتنا لم تبق كما كانت، لقد حصلت لها تطورات في حياتها ومعاشها وثقافتها وغير ذلك، لكن كل هذا لم يكن نهضة لها قواعدها وأصولها ومنابتها الاجتماعية في أرحام مجتمعاتنا العقيمة، بل كانت عدوى، أي أن هذه المجتمعات وما ظهر فيها من تقديم و تطوير، هو مما نقله بعض من تواصلوا مع الغرب وثقافاته، وملاحظة ذلك سهلة، فالتغيرات الحاصلة ليست تطويراً لما تخزنه مجتمعاتنا. بل بمراجعة ما حصل من تطورات في السكن واللباس والطعام، وفي النظم القانونية والتعليم وتنظيم المدن والجيوش والادارة والبنية التحتية، أو غير ذلك، سنجد أنه استيراد ونقل عن الغرب، وربما كان هذا ما قصده اسماعيل صبري عبدالله من أن النهضة أو التنوير هو من صناعة الناس (ص 33) .
التنوير ومعضلة التراث
كان من المعاني الخاطئة، أو العمليات غير محكمة التوجه، الربط بين التنوير وضرورة التخلص من أسر التراث أو الماضي، باعتبار أن التنوير هو حركة باتجاه الأمام، باتجاه المستقبل، بينما التراث هو ربط الأمة وتوجهاتها بما أنجزته سابقا، في الماضي، واعتبار تجاوزه محنة ماحقة لا يجوز مجرد التفكير بها.
والتناقض بين الرأيين أو الاختلاف الشديد بينهما أحال إلى عدائية برزت معالمها في حياتنا الثقافية مبكرًا، عند التفكير بضرورة النهضة. وربما كان هذا التعطيل من أكبر المحن التي واجهها مسار التحديث، حيث انشغل الفكر التحديثي بإعلان التمترس وراء القناعات المتحصلة عن التواصل مع الحداثة الغربية الوافدة. وبدل أن يصرف الفكر جهوده في أرض التحديث والتجديد، كان انشغاله أكبر في السجلات التي دارت حول الفكرة، وأيها الأهم الذي يشكل المخرج للأمة،هل هو حصول التراث الذي تم ربطه بالعقيدة، أما اللحاق بالحداثة المرتبطة بالتنوير، ما آل إلى شلل الجهود، وعدم القدرة على الخروج من المأزق. ما يشكل وصمة لأمة ترى إعاقتها وتخلفها عن شعوب العالم لأنها تغرق في نكد السبل والبحث عنها من أجل الخروج من المحنة أو العودة إلى القيود .
علما أن طريق الخروج من واقع التخلف أصبح واضحًا عندما ارتادته شعوب أخرى ونجحت في إرساء نهضتها، ودخلت عالم الحداثة، وها هي تنطلق في عالم "ما بعد الحداثة" في الوقت الذي لا يزال غيرها يتخبط في طريقه، وبالتأكيد نحن العرب من هؤلاء .
تبدو الأحزاب التي نشأت وتنشأ على أسس عقدية دينية مهتمة بمصالح الجماعة أو الفئة، بل وتحرص على التسلط في رؤيتها مستبطنة شعور التفوق وسلامة العقيدة دون غيرها، وهذا بحد ذاته ومهما كان متوجها للحديث عن مصالح عامة، يزرع الفرقة والشقاء والتمايز بين مكونات المجتمع،
يقول الكاتب حسن إبراهيم: "كانت الاصطفافات حادة، وذهب بها إلى هذه الحدة التطرف في التفكير على الضفتين المتقابلتين. والمشكلة التي أمسكت بتلابيب الحراك بين الموقعين، هي تسليط الضوء على موقع الدين في العملية، والظهور بمظهر التنازع حول استبعاده أو التمسك به. هنا يجب التنبه إلى أن ربط التنوير بنفي حضور الدين وتأثيره على الناس أفراد أو مجتمعات، هو ربط خاطئ، لأن هذا لن يحصل، وفي ما لو اقتنع بعض من أعلنوا أنهم ملحدون أو يدعون إلى الإلحاد في إطار حركة النهضة، وبفعل الحماس والثأر من التخلف، أو للأسراع في الخروج من الماضي، فإن ذلك يبدو عبثا أو غير ذي فاعلية أو فائدة، ومن يفكر في اقتلاع الدين وتأثيره من مجتمع ما سيكون في حالة من الوهم (ص 48).
تبدو الأحزاب التي نشأت وتنشأ على أسس عقدية دينية مهتمة بمصالح الجماعة أو الفئة، بل وتحرص على التسلط في رؤيتها مستبطنة شعور التفوق وسلامة العقيدة دون غيرها، وهذا بحد ذاته ومهما كان متوجها للحديث عن مصالح عامة، يزرع الفرقة والشقاء والتمايز بين مكونات المجتمع، طالما أن كل فهم مثل هذا يوجهه الشك بالآخرين وعدم الثقة بهم، بل وإضمار العداوة لهم بسبب الخلل في إيمانهم المشكوك بسلامتهم والمنحرف عن جادة الصواب .
المسألة تشير إلى حراك داخل الفكر الإسلامي، ومحاولات لاستغلال طاقة الدين في التحريض، كما أن لها علاقة بطريقة التعاطي مع التراث التي يرى حامد خليل أن عاملين أساسيين كان لهما تأثير في حالة الإخفاق التي انتهى إليها العقل العربي: الأول، أن مسألة التراث جرى بحثها بطريقة نخبوية لغةً ومضمونًا ومنهجًا وفي عزلة عن الجماهير، الأمر الذي ترك الجماهير فريسة للقوى الظلامية المتخلفة. والثاني، أن مسألة التراث بدأت في ضوء تلك المعالجة وكأنها مسالة ثقافية بحثة لا صلة لها في بما يجري في الواقع.
هنا تبدو المشكلة مشكلة ثقافية تستجيب لهموم المثقف وتستهلك طاقته وجهوده، والمثقف منتج ثقافة ومستهلك ثقافة وحارس ثقافة، يجول في مناحي الفكر باحثا عن مخارج لاستعصاءات واقعه المنكمش.
لكن إحدى أهم مشكلاته أنه لم يجد الحلول عبر الخط الثقافي التنويري كما يفترض أن يحصل فبدأ يبحث عنه في السياسة، وهذه لم يستطع إخراجها من الإطار الذي تكونت داخله تراثيا وهو الإطار الديني، فلا تزال سلطة الفقيه ترسم الحراك وحدوده ومهماته وتوجهاته مستحضرين سلطة القراء في صفين، او ابن عباس وعائشة، وابن حنبل أو غيره، وهذا ينتج أحوال أنواع مثقفين كما يرى علي أومليل. وقد انعكس هذا على التكوينات السياسية الحديثة التي أنتجت قراءها وفقهائها وذهبت مذاهب القوى الإيمانية السابقة في تبادل العداء والتنافي .
ما وضع التنوير وثقافته في حال الخطر، أن القداسة لحقت بالتراث وشخصياته، وضعت حولهم أنسجة منيعة في دور المنسوب لهم، فأصبح مرفوضا وتحت طائلة العقوبة الماحقة، أو إعلام الاستعداد بالاستشهاد دفاعا عنه، أن يشار إلى أية سلبية في سيرة أي منهم.