هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "ثورة في الرؤوس: في الماركسية والاشتراكية واليسار"
المؤلف: عبد الإله بلقزيز
الناشر: المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع- الدار البيضاء
الطبعة الأولى، 2021
عدد الصفحات: 328
مقدمة:
منذ سقوط جدار برلين وتهاوي المعسكر السوفييتي، أسيل مداد كثير عن نهاية اليسار وموت الماركسية، ودخلت تيارات اليسار في أزمة السؤال، السؤال عن أين المشكلة؟ هل هي في النظرية؟ وحاجتها إلى إعادة تركيب أو تحيين؟ أم المشكلة في التأويلات والتمثلات التي أخذتها، والتجارب التي استلهمتها، وأساءت إليها من حيث ارادت أن تكون تجسيدا عمليا لتطلعاتها؟
البعض راح يقرأ في النظرية، أو في المرجعية عن الجينات الفكرية التي أسهمت في نكسة اليسار والاشتراكية في العالم، بما في ذلك العالم العربي، والبعض الآخر وجه نظره للتجارب: التجربة السوفييتة كما قادها لينين، ثم ستالين ثم القادة المتعاقبون إلى لحظة البريسترويكا مع غورباتشوف، أو التجربة الصينية، مع ماوتسي تونغ، أو التجربة الاشتراكية الأوروبية أو اللاتينية، أو التجربة العربية، بمختلف تشكيلاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية.
وظل سؤال العطب النظري أو السياسي، هو المركزي في كل التراث النقدي الذي انطلق بعد سقوط جدار برلين، ولم ينضج اليوم، أي أفق، سواء على مستوى تجديد النظرية، أو على مستوى بناء تجربة جديدة، تعيد الاعتبار للمرجعية الماركسية، وتقرأ شروط الواقع السياسي، وتأخذ موقعها في النسق السياسي، وتعيد الجماهير الالتفاف حول مشروعها.
يستثمر الباحث المغربي الدكتور عبد الإله بلقزيز ذكرى مرور المائوية الثانية لميلاد كارل ماركس، ليخوض هذه التجربة التقييمية والنقدية، في كتابه: "ثورة في الرؤوس: في الماركسية والاشتراكية واليسار"، ويعيد طرح الأسئلة نفسها، لكن هذه المرة، بوضعها في سياق نقدي، من موقع مستقل عن الظاهرة، يقرأ واقع الماركسية كنظرية، وتأويل في السياق السياسي (أي تجربة)، في ضوء الدينامية الجدلية التي تحكم علاقة الفكر بالواقع، أو علاقة النظرية بالثورة، أو علاقة المرجعية بالحركة السياسية، ويحاول منذ البدء أن يتبنى مقولة حاجج عليها كثيرا في مقدمة كتابه، تؤمن باحتفاظ الفكر باستقلاليته عن الواقع، وعدم جدوى مساءلته في ضوء التأويلات السيئة له، أو في ضوء التجارب التي أساءت توظيفه أو أخطأت استلهامه، لكن، دون أن يعني ذلك منه، التسليم بعدم حاجة الماركسية كنظرية إلى المراجعة والنقد والمساءلة، لاسيما في بعض طروحاتها الطوباوية والمثالية.
يرفع بلقزيز بكل قوة وحجاج تهمة الجمود والانغلاق عن الماركسية، ويرى أنها نبتت في سياق نقدي، إذ انبنت على نقد ما قبلها وما عاصرها من تيارات الفكر والفلسفة، لاسيما الفلسفة الألمانية الكلاسيكية في لحظتها الهيغيلية، والاقتصاد السياسي الانجليزي وفلسفة الأنوار، والاشتراكية الطوباوية الفرنسية، وأنها استمرت في ممارسة نقدها على مختلف مدارس الفكر المختلفة، وأن من كانت هذه طبيعته (الطبيعة النقدية)، يستحيل في حقه أن يكون نظاما فكريا مغلقا، يحمل معه يقينياته التي لا سبيل إلى نقدها، بدليل أن تيارات الفكر النقدي المعاصر، خرجت جميعها من رحم الماركسية، بما في ذلك التيارات التي أفادت منها، ثم تحول بعضها إلى خصيم لها، وأن ذلك يكفي حجة على أنها، نظرية منفتحة، تتطور وفق محيطها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتتكيف في بيئتها السياسية.
في ضرورة إقامة التمايز بين الماركسية النظرية، والماركسية التجربة
يحاجج بلقزيز بقوة الانتقادات التي تدفع بالتجربة السوفييتية لمحاكمة الماركسية، وخصوصا الأفكار التي تسوق ما استحالت إليه تجربة الماركسية اللينينية في الحكم، وكيف أضحت النظرية التي جاءت في الأصل للدفاع عن القوى الاجتماعية الكادحة، وعن العدل الاجتماعي، وتبشر بعالم تنتهي فيه الدولة، وتمسك فيه الجماهير بقوى الإنتاج، فصارت على العكس من ذلك، تمثل نموذجا للقهر والتسلط وكبت الحريات والتصفية الجماعية ومصادرة السياسة.
يرى بلقزيز أن هذا النقد ليس عادلا، إذ بدل أن يوجه إلى هذه التجارب، يؤتى بالماركسية كنظرية لتساق إلى المقصلة، بحجة أن الأفكار لا تقيم إلا في ضوء تجاربها وممارساتها.
يحاجج بلقزيز عن فساد هذا النقد، وأنه لا يمكن بحال أن يكون التطبيق أو التأويل حاكما على النظرية، وأنه إذا صح ذلك، لصار بالإمكان أن تحاسب كل فكرة كبرى في التاريخ، دينية كانت أم وضعية، في ضوء تطبيقاتها التاريخية، وهو ما لا يستقيم، إذ لا يمكن في تقدير بلقزيز أن تتم محاسبة الإسلام، بجريرة ما ارتكبه "نظام طالبان" في أفغانستان، أو "نظام الإنقاذ" في السودان أو "القاعدة" أو "داعش"، ولا يمكن أيضا محاسبة اليهودية كدين، بجرائم الصهاينة ودولتهم القائمة في فلسطين المحتلة، ولا يمكن أيضا محاسبة المسيحية وتحميلها أوزار الاستعمار والامبريالية والعنصرية في الغرب المسيحي.
يورد بلقزيز هذه الحجج، ليخلص منها إلى ضرورة أن يحتفظ الفكر باستقلاله النسبي، وأن يتم النظر إلى تجارب التاريخ باعتبارها تمثلات متعددة غير قابلة للحصر، وغير قابلة أيضا للحكم عليها بما هي التمثلات الوحيدة التي تطابق فيها التجربة الفكر، فالتجربة قد تخطئ التطبيق، وقد تأخذ التجربة بجزء من الفكر وتطرح الجزء الآخر، وقد لا تحمل من النظرية إلا ما يسمح به الواقع الذي تتحرك فيه.
يرى بلقزيز أن فهم المنظومة الفكرية الماركسية لم يكن واحدا من قبل الماركسيين، وأن هذا ما يفسر انقسام الماركسية إلى مدارس وتيارات لينينية وتروتسكية وستالينية وماوية وشيوعية أوروبية وماركسيات العالم الثالث، بل وماركسيات العالم العربي أيضا، لم يحصل دائما التوافق بينها، بل حصل كثير من الخلاف بينها، وأحيانا وصل الخلاف إلى درجة التخوين والاتهام بالعمالة.
يستدل بلقزيز بدليلين اثنين، للتأكيد على أنه يستحيل مساءلة النظرية في ضوء تأويلها أو تجاربها في الواقع: الأول، هو دليل استقلالية الفكر النسبية، والثاني، هو التمثلات المتعددة لها.
يحتم الدليل الأول، أي الاستقلالية النسبية للفكري، النظر إلى الماركسية باعتبارها منظومة فكرية مستقلة عن واقع وتجارب تطبيقها، أي يفترض النظر إليها كتراث فكري ما زال قائما، ومساءلتها بما هي مادة معرفية، أي مساءلة فرضياتها وأطروحتها ورؤاها للمجتمع والتاريخ وإلى الاقتصاد والاجتماع والسياسية والثقافة.
ضمن هذا الإطار الفكري والمعرفي، يرى بلقزيز أن السؤال النقدي، ينبغي أن يتوجه للماركسية من جهة المساهمة التي قدمته إلى المعرفة بقوانين الاجتماع الإنساني الحديث والمعاصر، وإلى المعرفة بالطبقات والتكوينات الاجتماعية والعلاقات بين عوامل الاقتصاد وعوامل السياسة وعوامل الاجتماع الأخرى، وبالحرية والعدالة كمبدأين إنسانيين رئيسين، وبالديني والروحي وصلتهما بالاجتماعي، وبأشكال السيطرة على العمل والفائض والحق الإنساني، وبتشييء الإنسان، وبالتجليات المختلفة للاستغلال، وهل كانت نظرة الماركسية إلى الاشتراكية واقعية، تمتلك شروط التحقق في الواقع والتاريخ، أم أنها طوباوية لا سبيل إلى تحققها التاريخي، وأين تتجلى أخطاؤها النظرية في التقدير والتوقع؟ ولماذا سوغت للعنف في السياسة؟ وهل قدمت نظرية حقيقية في السلطة والدولة؟ وهل لا يزال تحليلها الطبقي صالحا للاستخدام أم استنفذ غرضه؟ وهل ما زالت أطروحتها حول مركزية الطبقة العاملة ذات جدوى اليوم؟
هل كانت تجارب الاشتراكية نموذجا للتحقق الماركسي؟
أما في الدليل الثاني، فيرى بلقزيز أن أي فكر كيفما كان دينيا أم فلسفيا أم سياسيا، لا يكون حكما مسؤولا عن تمثلات الناس له واستيعابهم إياه، أو عن ترجمتهم أطروحاته إلى ممارسات وأفعال وتجارب.
يعزو بلقزيز ذلك إلى تعدد شروط التلقي وتباينها أو اختلاف المكان والزمان والاستعدادات الذاتية للمتلقين، والظروف والأوضاع التي يقع فيه تمثل الفكر، والحاجات التي تبرر الاستعانة بهذا الفكر أو استلهامه كلا أو جزءا.
وتبعا لذلك، يرى بلقزيز أن فهم المنظومة الفكرية الماركسية لم يكن واحدا من قبل الماركسيين، وأن هذا ما يفسر انقسام الماركسية إلى مدارس وتيارات لينينية وتروتسكية وستالينية وماوية وشيوعية أوروبية وماركسيات العالم الثالث، بل وماركسيات العالم العربي أيضا، لم يحصل دائما التوافق بينها، بل حصل كثير من الخلاف بينها، وأحيانا وصل الخلاف إلى درجة التخوين والاتهام بالعمالة.
يعتبر بلقزيز أن هذه القضية ليست خاصة بالماركسية وحدها، بل هي خاصية كل منظومة فكرية، بل لم تسلم منها حتى الأديان، ويستدل على ذلك بتعدد مداس الفهم للإسلام إلى شيعة وسنة ومرجئة وخوارج وزيدية وإسماعيلية، وتعدد مدارس الكلام إلى معتزلة وأشاعرة وماتريدية، وتعدد الفقه ومذاهبه، كما يستدل على ذلك بتعدد الفهم للعهد الجديد، ونشوء مدارس وتيارات متصارعة من آريوسية وأوطيخية ونسطورية ويعقوبية، وكاثوليك أوثودوكس وبروتستانت.
يخلص بلقزيز من ذلك إلى استحالة المطابقة بين الفكر وقراءته أو تأويله، واستحالة المطابقة بين الفكر والتجربة التي تستند إليه، وأن الانطلاق من التجربة لمحاكمة الفكر ناشئ من أطروحة زائفة تعتمد شرعية الخلط بين مستويات يفترض فيها التمايز، كالتمايز بين النص وتأويله، والتمايز بين المنظومة الفكرية والتجربة التي تسعى إلى تحقيقها في الواقع التاريخي.