هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
منذ أقلع قطار التطبيع من أرض أبو ظبي، منذ ما يقرب من العامين، وهو عازم على أن يدهس كل ما يعوقه من تضاريس طبيعية لا يمكنه تخطيها ولن تمكنه من الوصول إلى منتهاه.. ولأن القائمين عليه أو مَن يمسكون بمحركه جاهلون للتراث الحضاري والجذور التاريخية لتلك الأمة، فقد اعتقدوا أنهم يستطيعون أن يقلعوا جذورها ويسيروا بقطارهم هذا على جثتها، متغافلين أن هذه الجذور ضاربة في عمق الأرض بطولها وعرضها، وأنها سرعان ما ستعوق حركته وتوقفه عن السير بل وتُرجعه من حيث أتى خائبا..
منذ بدأ الكيان الصهيوني يوقع على اتفاقات سُميت بـ "معاهدات السلام"، مع مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهو يحاول جاهداً أن يحول بوصلة الأمة من العداء للصهاينة، إلى صداقة وتعاون بينه وبين الشعوب العربية، وافتعال صورة تجميلية له تمحو صورته القبيحة المترسخة في أذهان الشعوب على أنه محتل غاصب لأرض فلسطين، وكيان إرهابي سفاك للدماء الفلسطينية، كان هدفه واضحاً منذ البداية، إنه ينظر لأبعد من إقامة علاقات دبلوماسية بين تلك الدول، بل يبغي أن يحول تلك الاتفاقيات إلى واقع بين الشعوب وليس بين الحكومات فحسب، ولكنه لم يستطع أن يحول البوصلة، ولم يتحقق له ما ابتغاه، فقد ظل الحاجز الصلب بينه وبين الشعوب العربية التي لا تزال تراه عدواً مغتصباً لأرض فلسطين، ولم يستطع أن يُطبع مع هذه الشعوب العربية، لذلك أطلق عليه "السلام البارد"!
حاولت دولة الإمارات، أن تحول هذا السلام البارد إلى سلام دافئ باتفاقيات "إبراهام"، وعقد مزيد من اتفاقيات التعاون العسكري والاقتصادي والثقافي والرياضي بينها وبين دولة الاحتلال، وبالزيارات المتبادلة بين المسؤولين في كلتا الدولتين واستضافة الفرق الرياضية الصهيونية على أرضها إلى آخره من كل أشكال التطبيع، بل ذهبت لأبعد من ذلك؛ إذ حاولت أن تزيف التاريخ من خلال الدراما التليفزيونية، لتظهر الفلسطيني فظاً غليظ القلب، بينما الصهيوني وديعاً مسالماً يريد العيش بسلام مع جاره الفلسطيني الذي يعاديه ويكيد له كيداً!!
لم تهدأ محاولات التطبيع الفاشلة طوال هذه السنوات، إلى أن توجت بمشهد الخزي والعار في صحراء النقب في فلسطين المحتلة، الأسبوع الفائت، فلأول مرة في التاريخ يجتمع على أرض فلسطين المحتلة التي روت بدماء الفلسطينيين، أربعة وزراء خارجية لأربع دول عربية، مصر والإمارات والبحرين والمغرب مع وزيري خارجية أمريكا ودولة الاحتلال، أطلق عليها قمة النقب، بدعوى تعميق التطبيع والتعاون بين الدول العربية والكيان الصهيوني.. ووصل الفُجر بالقول إن الهدف من هذه القمة؛ هو إظهار الوحدة بين الدول المجتمعة في وجه إيران!
إنها قمة العار التي تُقام على أرض فلسطين المحتلة وتجمع بين العدو الذي يحتلها ويسفك دماء شعبها، وبين دول عربية بعضها خاض حروباً مريرة معه وبينهم أنهار من الدماء.
لأول مرة في التاريخ يجتمع على أرض فلسطين المحتلة التي روت بدماء الفلسطينيين، أربعة وزراء خارجية لأربع دول عربية، مصر والإمارات والبحرين والمغرب مع وزيري خارجية أمريكا ودولة الاحتلال، أطلق عليها قمة النقب، بدعوى تعميق التطبيع والتعاون بين الدول العربية والكيان الصهيوني..
لقد أراد وزير خارجية الكيان الصهيوني اليميني المتطرف "يائير ليبيد"، أن يُظهر نجاح دولته في الوصول إلى أربع عواصم عربية متخطياً كل العوائق الفلسطينية والتزامات دولته تجاهها من مستحقاقات أقرتها الشرعية الدولية وأولها إنهاء الاحتلال!
ولقد عبر وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن"، عن سعادته الغامرة بهذا الاجتماع الذي لم يكن يتوقعه أحد، وهو بالفعل اجتماع لم يكن أحد يتوقعه حتى غلاة التطبيع أنفسهم!
بينما أعرب وزير خارجية الإمارات "عبد الله بن زايد"، عن ندمه لضياع ثلاثة وأربعين سنة من تأخر العلاقة الحميمية بينهم وبين العدو الصهيوني!!
هذا هو الناتو العربي الصهيو ـ أمريكي، الذي بشر به وزير خارجية الولايات المتحدة السابق "مايك بومبيو"، إبان عهد ترامب، فقد قام بجولات مكوكية في المنطقة ودعا إلى حلف عربي إسرائيلي ضد إيران، عُرف إعلامياً باسم "ناتو الشرق الأوسط"، لإحياء مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي أعلنه رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق "شمعون بيريز" في التسعينيات، وباء بالفشل الذريع وهو نفس المصير الذي ينتظر "ناتو النقب"؛ لسبب بسيط وهو استحالة تجاوز القضية الفلسطينية في أي اتفاق يخص المنطقة..
لقد اعتبرت كافة وسائل الإعلام الصهيونية قمة العار انتصاراً كبيراً رقصت على وقعه أقلامهم وألسنتهم، آملين بمزيد من الدول العربية للحاق بالركب الصهيوني، فإذا بعرس المحتفلين بعارهم في لقاء النقب يتحول إلى مأتم، فقبل أن ينتهوا من احتساء نخب الانتصار، والاستعداد للحفل الساهر والذي كانت ستغني فيه المغنية الصهيونية أغنية "هاليلويا هاليلويا" باللغات الثلاث الإنجليزية والعبرية والعربية، أتتهم الضربة القاتلة من حيث لم يحتسبوا، فأفسدت عرسهم المشين، إذ جاءت عملية الخضرة التي قام بها شاب فلسطيني من الداخل الفلسطيني المحتل، بإطلاقه النار على جنديين إسرائيليين وأودى بحياتهما، وجاءت هذه العملية بعد أربعة أيام فقط من عملية بئر السبع والتي قتل فيها أربعة صهاينة، ثم لحق بهما هجوم "بني براك" شرق تل أبيب والذي نجم عنه مقتل خمسة مستوطنين وبطله الفلسطيني "ضياء حمارشة" الذي ارتقى شهيداً..
كان من الطبيعي أن يدين هؤلاء المجتمعون في "قمة العار" تلك العمليات، التي بعث القائمون بها رسائل واضحة وقاطعة للكيان الصهيوني مفادها أن التطبيع مع قادة الدول العربية لن يغير من الوضع شيئاً، وستظل دائماً وأبداً دولة احتلال ولن تهنأ يوماً بما اغتصبته حتى لو أضافت لاحتلالها احتلالاً جديداً في بلادنا العربية، فالقضية الفلسطينية في وجدان كل عربي ولن تموت أبدا مهما تعاقبت عليها العقود وطال الزمن، وتخلى عنها كل الحكام العرب المتورطين في وزر التطبيع..
الواقع مختلف تماماً وليس له علاقة بما يدور في الغرف المغلقة ولا في القمم واجتماعات العار، الواقع ليس ما ينقله الإعلام أو ما تسطره الاتفاقات التي توقع في الغرف المظلمة، فهؤلاء القادة قلة في الأمة، ولا يمثلون شعوبهم التي تحمل فلسطين في قلبها، بل إن ما حدث في بئر السبع والخضيرة وبني براك وبيت لحم وممن سبقهم من عمليات تؤكد تمسك الفلسطينيين بأرضهم، هؤلاء هم الذين يمثلون الأمة وأن الواقع هو ما يكتبه أبطال فلسطين بدمائهم على تلك الأرض..
ورحم الله الشاعر الفلسطيني الراحل "توفيق زياد، حيث قال":
هنا.. على صدوركم باقون كالجدار
وفي حلوقكم، كقطعة الزجاج، كالصبار
وفي عيونكم، زوبعة من نار