هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: تأثير الثورات العربية في النظام الإقليمي العربي 2011 – 2019.
المؤلف: فتوح أبو دهب هيكل.
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، 2021.
بينما كانت بريطانيا تُلملم أوراقها من الشرق الأوسط، بعد ما أُثقلت بتكلفة الحرب العالمية الثانية، سعت لترتيب البيت العربي من داخله، حفاظا على مصالحها، وضمانا لاستمرار تأثيرها على القرار، فكان ميلاد "جامعة الدول العربية" (1945)، لتكون الوعاء الجامع للنظام الإقليمي العربي، المدين بالولاء للإمبريالية، فلا يخرج عن السيطرة؛ هكذا تأسس النظام الإقليمي العربي، وهو الذي ذهب إلى ذات المنحى، في أعلى مراحل المد القومي، حينما أراد القادة العرب احتواء المقاومة الفلسطينية المتنامية، ضد الاحتلال الصهيوني، خشية أن تُورِّطهم في حرب مع الكيان، فأنشأت الجامعة العربية "منظمة التحرير الفلسطينية"، عام 1964.
تتبَّع الكتاب تفاعلات النظام الإقليمي العربي، مع "الموجات الثورية"، والتحوُّلات التي ترتبت عليها، سواء في تحالفاته الداخلية، التي شهدت تبدُّلات، وتغيُّرات، أو في سياساته، وموازين القوى الداخلية، "لا سيما في ضوء ما شهدته مراكز القوى العربية التقليدية المؤثِّرة، مثل مصر، وسوريا، والعراق، من اضطرابات سياسية، أو حروب أهلية، بفعل الثورات، والانتفاضات الشعبية، في الوقت الذي وفَّرت هذه الثورات الظروف المناسبة لقوى عربية أُخرى، لتعزيز مكانتها في موقع القيادة بالنظام الإقليمي العربي، والتحكُّم في تفاعلاته"؛ وإلى أي درجة أتاحت تلك "الموجات" لغير العرب، إقليميّا، ودوليّا، أن يتدخل ويؤثِّر في النظام الإقليمي العربي وقراراته.
المؤلف، الذي عمل مديرا لتحرير مجلة "شؤون خليجية"، له اهتمام بالشأن العربي، وتأثيرات القضايا الكبرى، فهو صاحب كتاب "التدخل الدولي لمكافحة الإرهاب، وانعكاساته على السيادة الوطنية"، ودراسة "التجسُّس، الاقتصادي والصناعي، وموقع العالم العربي".
نظر المؤلف للنظام الإقليمي "كمستوى تحليلي وسيط، بين المستوى الدولي، الذي يهتم بتحليل أنماط التفاعلات الدولية، بين القوى الدولية الكبرى، التي يترتب عليها تحديد بنية النظام الدولي، ككل؛ ومستوى سلوك الوحدات المكوِّنة للنظام الدولي، الذي يركِّز على السياسات الخارجية للدول"، متتبعا مراحل تطوُّر النظام العربي، من النشأة، فمرحلة المد القومي، ثم مرحلة الانحسار، والأزمات، وسمات العقد الأول من القرن الحالي، وكيف عزَّز من قيام الانتفاضات الشعبية. تعرَّض هيكل، في الفصل الأول، لجدليات مصطلح "الثورة"، وما يدور في فلكه من مصطلحات أخرى، ثم استخلص من التعريفات المختلفة سمات الثورة، ومدى قرب المفهوم، أو بعده من مفاهيم أخرى، كالانقلاب، والانتفاضة؛ وقياسا على تلك السمات، في محاولة لتوصيف مرحلة "الربيع العربي"، فقد ساق المؤلف جملة من الملاحظات، تقضى بالتريُّث في إطلاق التعميمات على تلك المرحلة، نظرا للتباينات بين كل حالة، وأخرى، فضلا عن أن المعالم النهائية لتلك المرحلة لم تتضح بعد.
ساق أبو الدهب، في ذات الفصل، جملة من العوامل التي أفضت إلى اندلاع تلك الانتفاضات، لكنه أغفل عاملا، ربما ظهر جليّا، بعد ما شهدته دول "الربيع العربي" من انتكاسات متتالية، وهو صراع مراكز القوى داخل النظام نفسه، على النفوذ والصلاحيات، وبالأخص المؤسسات الأمنية؛ فقطع الطريق على التوريث في مصر، وتقليص نفوذ الأجهزة الأمنية الداخلية، وتهميش دور المؤسسة العسكرية في تونس، كانت أحد العوامل المؤثِّرة في سلوك المؤسسة العسكرية من الحراك الداخلي المعارض للنظم القائمة، ومن ثم موقفها من الانتفاضة الشعبية.
عرض الفصل الثاني للنتائج السلبية لموجات "الربيع العربي" على قدرات وإمكانات النظام العربي، الاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، التي تزامنت مع بعض التطورات التكنولوجية العالمية، لتزيد من انكشاف العالم العربي أمام القوى الخارجية، ما جعله "عاجزا في مواجهة قوى التفكيك الطائفية والإرهابية التي انتشرت في أرجائه، مستفيدة من حالة الفراغ الاستراتيجي، التي أفرزتها هذه التطورات". كما زاد "الربيع العربي" من تراجع تأثير مراكز القوى التقليدية في النظام العربي (القاهرة، ودمشق، وبغداد)، لصالح التنامي المطرد للنفوذ الإقليمي لدول مجلس التعاون الخليجي، مع استمرار تقلُّص ميزان القوة العربية أمام دول الجوار الإقليمي، فاستفادت تركيا وإيران، نسبيا، من مآلات "الربيع العربي"، وإن كانت إسرائيل قد خرجت الرابح الأكبر، حيث التحالف الاستراتيجي، بينها وبين دول المحور السعودي ـ المصري ـ الإماراتي، في مواجهة المحور التركي ـ القَطَري، كما شهد العالم العربي محاولة إحياء للمشاريع المناهضة للنظام الإقليمي العربي، متمثلة في مشروع " تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي"، الذي أطلقه الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، من الرياض، في 21 أيار/مايو 2017.
وقع المؤلف تحت تأثير أسطورة "الإسلاموفوبيا"، أو "الفزَّاعة" من الإسلاميين، في تحليله لأهم تبعات "موجة المد الثوري، التي شهدتها المنطقة العربية، منذ أواخر عام 2010، وما تلاها... [حيث كان] حدوث تغيُّر في طبيعة التحالفات القائمة في المنطقة، ونشوء نمط استقطابي جديد، مبني على اعتبارات أيديولوجية، ومصلحية، بين محورَيْ قوى الإسلام السياسي، والدول الداعمة له، [وهو المحور التركي ـ القَطري]، ومحور الدول المناهضة لهذه القوى [وهو المحور السعودي ـ المصري ـ الإماراتي]"؛ كما استخدم المؤلف "الفزَّاعة"، في حديثه عن تحديات الهوية، متبنَّيا تسمية فترة "الربيع العربي" اسم "الربيع الإسلامي"، أو ربيع "الإسلام السياسي"، ولعل هذا نتيجة استناده، في مراجعه، إلى كتابات بعض المفكرين، الذين تقلدوا مواقع تنفيذية في الأنظمة البائدة، وهو ما خالف الحقيقة، فمنذ بدء موجة "الانتفاضات العربية"، برزت معالم استقطاب بين أنظمة الدول العربية، حيث تيار "الدعم" السياسي، والإعلامي، والمادي، للثورات العربية، في مقابل تيار "الردة"، الساعي لوأد الانتفاضات الشعبية، وتقليص تأثيرها، خشية أن تُصدِّرها لدولهم، وهو التيار الذي نجح في صك منطق "الفزَّاعة"، وروَّج، إعلاميّا، لشكل التحالفات، على أرضية "الإسلام السياسي"، كأساس للاستقطاب، والتدافع بين الأنظمة العربية، ما أحدث ضوضاء إعلامية ضد إفرازات "الربيع العربي"، خُدِعت بها الشعوب العربية، واستغلتها بعض التيارات السياسية؛ سعيا لتحقيق مكاسب سياسية ضيِّقة، على مستوى المواقع التنفيذية في الدولة، مستفيدين من اندفاع قيادة التيار الإسلامي، وغرورهم بشعبيتهم، وغياب الرؤية، ما انتهى بـ"الربيع العربي" إلى واقعه الحالي.
"المشروعات الإقليمية البديلة"، كفكرة "الناتو الإقليمي"، ومشروع "ميسا"، وهي البدائل الرامية لدمج إسرائيل ضمن المنظومة العربية، حيث "إن طرح هذا المشروع، جاء في وقت شهدت فيه المنطقة العربية تحوُّلات غير مسبوقة، في قائمة الأولويات، وقضاياها.
ولعل المكالمة الشهيرة بين باراك أوباما، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق، وأحد حكام الخليج، فور تنحي مبارك، التي أوردها الأول في مذكراته، دليل على أن الفرز كان على أرضية "الثورة" ومآلاتها، ومن ثم ما تبعه من تحالفات؛ أما قضايا العروبة والهوية العربية، فقد دُفنت في كوبري القبة، مع الرئيس عبد الناصر، وخير دليل على ذلك ما شهدته الساحة العربية بعد وفاته، سواء اتفاقية "كامب ديفيد"، أو الغزو العراقي للكويت.
لقد شكَّل الصراع بين تيار "الدعم"، وتيار "الردة"، عامل التأثير الأول على مسار استجابة الجامعة العربية للثورات، والانتفاضات الشعبية، "حيث مثَّلت اللقاءات، التي جمعت رئيس الوزراء، ووزير الخارجية القَطَري، آنذاك، حمد بن جاسم آل ثاني، بأمين عام الجامعة العربية، نبيل العربي، إعلانا لقرار عربي دعما لهذه الثورة، أو تلك، تأكيدا لهذه الرغبة القَطَرية"، حتى إن "تعيين نبيل العربي جاء بعد تحفُّظ قَطَر على ترشيح مصر لمصطفى الفقي للمنصب... بدعوى أنه محسوب على نظام مبارك، الذي أسقطته الثورة المصرية"، ووصل الأمر بالجامعة إلى أن "تكسر أحد المحرمات، التي قيَّدت عملها، طوال أكثر من ستة عقود سبقت (الربيع العربي)، وهو المتمثل باحترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، واحترام نظم الحكم القائمة فيها، كما جاء في قرارت الجامعة، بشأن الأزمة الليبية، والسورية".
ومع تغيُّر موازين القوى بين ذات التياريْن، تبَّدلت مواقفها، ولعل المثال الأبرز لذلك، هو قرار الجامعة العربية، في آذار / مارس 2016 بـ"اعتبار حزب الله اللبناني منظمة إرهابية"! وفي النهاية، فإن الجامعة العربية لم تكن إلا انعكاسا لموازين القوى، في الداخل العربي.
استعرض المؤلف، في الفصل الثالث، محاولات نبيل العربي لإصلاح الجامعة العربية، كأحد تأثيرات "الربيع العربي" على الجامعة العربية، حيث عرض العربي المشروع على المجلس الوزاري العربي، في أيلول / سبتمبر 2011، واستمرت لجان العمل على مستوياتها المختلفة، وتم عرض نتائجها، إلا أن المشروع قُبر بمجرد رحيل العربي من منصب الأمين العام، في عام 2016.
جاءت أحداث "الربيع العربي" في مرحلة انتهجت فيها أمريكا "سياسة ترمي إلى الانسحاب من المنطقة العربية... والتركيز على مناطق أخرى، ولا سيما في شرق آسيا؛ حيث الصعود الصيني". كما برز الدور الروسي، وخصوصا في الأزمة السورية، وتأثر الموقف الأوروبي من الحراك الشعبي العربي، بالأزمة المالية والاقتصادية التي عاشتها منطقة اليورو
أما "المشروعات الإقليمية البديلة"، كفكرة "الناتو الإقليمي"، ومشروع "ميسا"، وهي البدائل الرامية لدمج إسرائيل ضمن المنظومة العربية، حيث "إن طرح هذا المشروع، جاء في وقت شهدت فيه المنطقة العربية تحوُّلات غير مسبوقة، في قائمة الأولويات، وقضاياها... فتراجُع القضية الفلسطينية، وصعود الدور الإيراني، وخطر ظاهرة الإرهاب، وتحوُّل إسرائيل من عدو صريح للنظام العربي، وقواه الرئيسية، إلى حليف محتمل لبعض الأنظمة العربية، في مواجهة إيران والإرهاب، كل ذلك كان من شأنه أن يجعل البلدان العربية أكثر قبولا لفكرة النظام الشرق الأوسطي البديل، مقارنة بما كان يحدث في السابق". كذلك استعرض الفصل مشروعات تفكيك وإعادة تركيب المنطقة العربية، أو ما عُرف بـ"سايكس ـ بيكو" الجديد، والتأثير الطائفي في تلك الأفكار.
عن الدول الإقليمية (تركيا، إيران، وإسرائيل) التي تحركت بشكل ملحوظ، منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحراك الشعبي العربي، للاستفادة من "حالة التفكك، وعدم الاستقرار التي أنتجتها هذه الثورات، في المنطقة العربية"، حيث تبنَّى حزب "العدالة والتنمية" التركي سياسة خارجية، اعتبرت العالم العربي بمنزلة "العمق الاستراتيجي" لتركيا، أو هوامش للمركز التركي، كما اعتبرت إيران العالم العربي، وفي القلب منه منطقة الخليج، مجالا حيويّا مهمّا؛ بينما كان لإسرائيل أكبر الأثر في مسارات الأحداث، إلى أن خرجت، حتى الآن، بنصيب الأسد، وفي هذا أشار الفصل الرابع إلى عشر محددات لسياسات تلك الدول تجاه "الموجات الثورية"، وكيفية الاستفادة وعرض لمعالم تلك السياسات، ومدى تنقلها بين السياسة الناعمة والسياسة الخشنة، في بعض الحالات.
تعامل الفصل الخامس مع علاقة النظام الإقليمي العربي بالنظام الدولي، وتأثير الثورات العربية على تلك العلاقة، ورأى المؤلف أن النظام الدولي يمر بحالة من اللانظام، أو، على الأقل، حالة من السيولة الدولية، وأن هيكل النظام الدولي، في القرن الحادي والعشرين، يعاني ثلاثة تحديات رئيسة؛ أولها: يتعلق بطبيعة الدولة نفسها، وثانيها: التعارض بين منطق المؤسسات الاقتصادية من جهة، والمؤسسات السياسية من جهة أخرى؛ فبينما ينصبُّ العمل الاقتصادي العالمي على إزالة الحدود، والعقبات المعرقلة لانتقال السلع، ورؤوس الأموال، نرى بنية العالم السياسية قائمة على أساس الدول القومية، وثالثها: عدم وجود آلية فعالة للتشاور، والتعاون بين القوى الدولية الرئيسة، في شأن القضايا المهمة والملحَّة.
وبيَّن المؤلف انعكاسات تحوُّلات النظام الدولي على النظام الإقليمي العربي، في مرحلة "الربيع العربي"، فلم تنفرد أمريكا بالتأثير على مسارات الأحداث، في تلك المرحلة، حيث جاءت أحداث "الربيع العربي" في مرحلة انتهجت فيها أمريكا "سياسة ترمي إلى الانسحاب من المنطقة العربية... والتركيز على مناطق أخرى، ولا سيما في شرق آسيا؛ حيث الصعود الصيني". كما برز الدور الروسي، وخصوصا في الأزمة السورية، وتأثر الموقف الأوروبي من الحراك الشعبي العربي، بالأزمة المالية، والاقتصادية التي عاشتها منطقة اليورو، "ما أضعف الاتحاد الأوروبي، إجمالا، ودفعه إلى تقليل اهتمامه بالقضايا الخارجية، وحدَّ من قدرته على تقديم الحوافز المالية، في إطار سياسة المشروطية".
حملت الخاتمة تقويما لجملة المآلات، والنتائج المترتبة على "الربيع العربي"، وعمق تأثيرها على النظام العربي، مشيرة إلى التحوُّلات الثلاثة الكبرى، كأمثلة على ذلك؛ وهي: أولا: حالة الفوضى العامة، والفراغ الاستراتيجي غير المسبوق في قلب هذا النظام، وثانيا: صعود قضية "مكافحة الإرهاب"، لتحتل مكانة القضية الفلسطينية، التي شهدت تراجعا غير مسبوق، خاصة مع تحوُّل إسرائيل من عدو إلى صديق، وحليف لبعض الدول العربية، وثالثا: درجة الاختراق للنظام العربي، من قبل الدول الإقليمية. وعرض المؤلف لسيناريوهات مستقبل النظام العربي، في المدى المنظور.
إننا بين يدي كتاب، دسم في محتواه، وعميق في تحليله، تناول مرحلة من أهم وأخطر المراحل التي مرت بها أمتنا العربية، ولازال تأثيرها ممتدا إلى الآن؛ لذا، فهو كتاب لا يسقط من يد الباحثين في الشؤون السياسية، وصنَّاع القرار السياسي في وطننا العربي، والقارئ المهتم بالشأن الوطني والقومي.