قضايا وآراء

الاعتقالات والقبض في السودان: دائرة عبثية وغبينة عمياء

إبراهيم الصديق علي
1300x600
1300x600
(1)
ما بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤م، تمسك التيار الإسلامي بمبدأ العهد والموثق الذي تم التوافق عليه خلال مفاوضات انتقال السلطة من حكومة عبود إلى القوى السياسية بعد الثورة الشعبية، بينما نكصت قوى اليسار وسارعت في الدعوة للمحاسبة والتطهير ورفعت ذات الشعارات المكررة الآن "الردة مستحيلة". ولم يكن ذلك عن ضرر أصابهم، فقد كانوا شركاء مع عبود في مجلسه التشريعي الذي قاطعته كل القوى الوطنية إلا الحزب الشيوعي، وإنما انبنى موقفهم على غريزة سلوك سياسي عنيف ولا يقبل بالآخر، وهو غرس لينين والشيوعية الدموية.. وهو ذات نهج اليسار البعثي الذي كان حصاده المخزي إبادة أكثر من ٢٠ ألفا في ليلة واحدة في حماة بسوريا في شباط/ فبراير ١٩٨٢م، وإبادة الكيماوي في حلبجة في العراق في آذار/ مارس ١٩٨٨م، وهو ذات الذي أنتج: "إن نذبح أسهل من إلقاء تحية"، كما قال الشاعر والقيادي الشيوعي كمال الجزولي، بعد مجازر الجزيرة أبا في ١٩٧١م.

هذه أحزاب لم تحقق في تاريخها السياسي في المنطقة العربية منذ القومية العربية في ستينيات القرن الماضي؛ فوز عشرة نواب في برلمان شرعي وانتخابات نزيهة، ولذلك تلجأ للخداع والادعاءات وإثارة الفوضى..

ولئن كان هذا السلوك معلوماً، فإنه لا يصح أن يكون قاعدة للبناء عليها، ولمصلحة الوطن ومستقبل الأجيال أن تتم إجراءات القبض وفق صحيح القانون، وإطلاق سراح من تثبت براءته وتقديم المتهمين للمحاكمة العادلة..

(2)
في يوم ٧ شباط/ فبراير ٢٠٢١م، أصدرت لجنة التمكين تعميماً لكل ولايات السودان لاتخاذ ما يلزم ضد "كل رموز حزب المؤتمر الوطني وكل عضويته الأنشطة وقيادات واجهاته في المركز والولايات"، ونشطت حملة اعتقالات طالت الآلاف في الخرطوم والولايات، وتم الزج بهم في السجون، من بينهم طفل لم يتعد عمره ١١ عاماً وشيوخ جاوزوا السبعين، واعتقل في وقت لاحق أحد كبار رجال القانون المعروفين وتم الزج به في حراسة ٤٥ يوما، هكذا دون جريمة سوى الانتماء السياسي، ووقع هذا القرار شخص معروف الانتماء السياسي وصارخ العداء للتيار الإسلامي، وهو من المعتقلين اليوم..

ومن تلك الحادثة التي تعبر عن الدائرة الجهنمية في السودان نخلص لعدة شواهد:

أولاً: صمت المجتمع الدولي والمنظمات الأممية وخاصة بعثة اليونتاميس ورئيسها فولكر بيرتس؛ على هذا التعسف في استخدام وتوظيف القانون وانتهاك الحقوق، وقد وصلتهم هذه المعلومات ولمنظمات عديدة، ولم يحركوا ساكناً، ولو بكلمة قلق أو إبداء مشاعر أسف. وكشف ذلك أن هذه المجموعات الدولية تفتقر للبعد الأخلاقي والحس الإنساني وأصبحت جزءا من المشكلة في السودان، ونذكرهم اليوم أن لسانهم لم يكن رطباً بالإدانة العام الماضي، وآذانهم كانت صماء، وقد فك لسانهم فجأة مع اعتقالات هذا العام، ونقول لهم إن الحرية حق للناس جميعاً، فهذا دوركم ومناط تكليفكم، وقد تم اختباركم وفشلتم..

وثانياً: نذكر قوى الحرية والتغيير، وكافة القوى السياسية، بأن من مصلحة الوطن أن تدار المعارك السياسية بنزاهة، فهذا أوفق للبلاد وأرفق للعباد، والمعاول التي تم تسليطها على رقاب الإسلاميين، هي ذاتها ما تدق على "قفاكم" اليوم، وبذات أدواتكم الصدئة تدخلون السجون والاعتقالات، قبل أن يخرج ضحاياكم منها. إنها دائرة مقيتة، وغبينة عمياء، وقد تلطخت أيديكم فيها بكل رذيلة ومنكر، فلا استفاد الوطن ولا كسبت جماعتكم سوى بؤس المسعى وخيبة المردود..

وثالثاً: للنشطاء والميديا وللمحامين وأصحاب الرأي، وبعضهم كان منتشياً بقرارات التمكين قبل عام، وهي أسوأ مخرجاً ومقصداً من اعتقالات هذا العام. راجعوا مواقفكم ولتكن هذه تذكرة، وبعضكم في هيئات الادعاء لمحاكمة خصوم سياسيين بقرارات جائرة، ويدافع عن بطلان ذات القرار عن رفاقه اليوم، ترفّعوا عن هذا الانفصام البائس والنفاق النكد، وابدأوا حالة مراجعة وتأسيس مواقف مبدئية تتوافق وقناعاتكم..

ورابعاً: نقول للإسلاميين والوطنيين لقد ظلمتم وصبرتم، فلا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا، ومن العدل أن نطالب لهم بإطلاق السراح أو محاكمة عادلة وسريعة، وغاياتنا الوطن والمواطن، وبذل الجهد في ذلك بإخلاص وسماحة قصد، وكل ما نلاقيه فهو تعبد لله.. ثم إن القبض على هؤلاء لن يداوي جرحاً ولا يشفي غليلاً، فالأولى كظم الغيظ، والتسامي فوق الجراحات.. ومعاركنا أكبر من التشفي، هذا الوطن في حالة الاحتضار وينتظر مساهمتنا في إقالة عثرته، والوطن بحاجة للجميع..

(3)
رحم الله الإمام الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة القومي، فقد كان يردد دائماً المثل السوداني "من فش غبينته خرب مدينته"، وهذه حالة متفشية في السودان.

إن أكبر التحديات هو: بناء دولة المؤسسات، ودولة القانون، والابتعاد عن توظيف أجهزة الدولة في المعارك السياسية وتصفية الحسابات وإقصاء الآخرين أو حظرهم..

وسبق للفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، في مؤتمره الصحفي يوم ٢٦ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢١م أن قال: "لن يحكم السودان بعد اليوم حزب عقائدي"، وهذا تدخل سافر في خيارات الشعب وإرادته الحرة وهو جزء من نوايا جهات وأجندة إقليمية، وتوظيف المنابر الحكومية وصولاً لتطلعات وقناعات شخصية..

إن كل هذه الظواهر مؤشرات سالبة في الحياة السياسية السودانية، في وقت يتناسى فيه الساسة والنخبة معاناة المواطن في معاشه، فقد بلغ سعر جوال الذرة هذا الأسبوع في أسواق المحاصيل بمدينة القضارف وأكثر الولايات إنتاحاً ١٤ ألف جنيه، وهناك شح في الدواء، وازدادت حالات كورونا وعادت الإصابات بالملاريا أكثر قسوة، مع تردٍ في الأمن وخلخلة في النسيج الاجتماعي..

ومع نداءات خافتة بضرورة تجاوز الاحتقان السياسي، فإن وحدة الصف الوطني ومن خلال حوار سوداني- سوداني أكثر إلحاحاً اليوم..
التعليقات (0)