هل تسعى "التنويرية العربية" لخلخلة الثوابت الدينية وتجاوزها؟

يُنظر إلى تيار التنوير العربي الحداثي في أوساط دينية واسعة بوصفه تيارا يسعى لخلخلة اليقينيات الدينية، ويدعو إلى تجاوزها، ويمارس دورا ممنهجا لهدم الثوابت الدينية، وتجاوز الأحكام الشرعية المقررة، تحت ذرائع عديدة كتاريخية النص الشرعي، وتقييد اجتهادات الأئمة ببعدها الزماني والمكاني، وانتقاد السنة النبوية وعدم اعتبارها مصدرا من مصادر الأحكام والتشريع.

شيوع ذلك التصور عن التنويرية العربية في تلك الأوساط، يوحي بأن التنويريين العرب يشتركون جميعهم في تلك التوجهات، وينطلقون منها، وهي الحاكمة لنسقهم الفكري، والموجهة لمواقفهم من الدين في تفاعلاته وتجلياته في المجال العام، ما يثير تساؤلات حول التنوير العربي ـ على اختلاف اتجاهاته ـ إن كان بالفعل ينطلق من تلك الأفكار، ويمارس ذلك الدور على أرض الواقع. 

في هذا الإطار أوضح الأكاديمي الأردني، المختص بالبراغماتية وتحليل الخطاب، الدكتور عاصم الخوالدة أن "الناظر في تاريخ وأدبيات التنوير يجد أننا أمام "تنويرات" ـ إن صح التعبير ـ لا تنويرا واحدا، فالتنويرية العربية لا شك أنها في نشأتها المعاصرة استجابة للتنويرية الغربية، لكن من الظلم التعامل مع التنويرية العربية كقطعة واحدة، وأن نجمع دعاتها في سلة واحدة". 

وأضاف: "فلا بد من ضبط مصطلح التنوير، وتحرير المفهوم والمضمون حتى لا نقع في "الخداع المفاهيمي" الذي حذر منه محمد عمارة، فكون التنوير أوروبي النشأة ليس سببا كافيا لنبذه ومعاداته، فضبط المصطلح، ومعرفة خلفيات دعاته ومنطلقاتهم وغاياتهم ضروري للتمييز بين "التنوير والتغريب" بعبارة جلال كشك، أو بين "التنوير والتزوير" بعبارة محمد عمارة". 

                      عاصم الخوالدة.. باحث وأكاديمي أردني

وقال الخوالدة في حديثه لـ"عربي21": "هذه التنويرات تختلف في حدودها وسقوفها واتجاهاتها واستراتيجياتها، وإن اتفقت في جوهرها الإصلاحي المتعلق بالتراث، ففي السياق العربي نجد شكلا بارزا من التنوير الذي يستنسخ التنوير الغربي العلماني المتطرف الداعي لخطاب القطعية المعرفية مع الدين باعتباره عائقا أمام التقدم والنهضة، ومصدرا للتخلف والخرافات والأساطير والإيمان المطلق بالعقل الطبيعي والعلم التجريبي، والثقة بالإنسان وقدراته بعيدا عن سلطة الدين ورجاله والتراث والتقاليد، فكل ما هو تراث فهو ماضٍ، وبهذا فإنه ينتمي لغيرنا لا لنا، فلا سلطة على العقل إلا العقل".

وتابع: "ثمة تنوير عربي أقل تطرفا مع الدين، وهو متأثر بالنسخة الناعمة من التنوير الأوروبي التي لا تعادي الكنيسة، وتعتبر الدين والتدين داخلا في الحيز الفردي لا الجمعي، أي قيمة أخلاقية فردية لا مجتمعية، لكنه دين لا يحكم ولا سلطة له، وليس شريكا في النهضة والتقدم". 

وأردف: "وهناك تنوير عقلاني إصلاحي وهو أكثر شيوعا يشتبك مع الموروث الديني لبعث التنوير من داخله يقوم على إعادة قراءة الموروث، وخاصة القرآن ـ باعتباره نصا مركزيا في الحضارة الإسلامية ومحل اتفاق بين طوائف الإسلام وفرقه ـ قراءة إنسانية علمية وفق آليات وأدوات منهجية عصرية خاصة تحليل الخطاب والسيمائية لفتح باب تأويل القرآن على مصرعيه، وفهم مقاصده وفك رموزه باعتباره منتجا ثقافيا في لحظة تاريخية دون الانصياع لضغط الموروث الكلاسيكي الذي يصلح فقط لزمان أصحابه وفق ما تيسر لهم من أدوات قراءة وفهم". 

ووفقا للخوالدة فإن "الخطورة تكمن هنا في تفريغ الإسلام التراثي من محتواه، ليصبح لدينا دين جديد وكتابه (القرآن) على يد هذا التنوير العقلاني، بل ربما (إسلامات) بدلا من (إسلام واحد) فهو يحتكم لأدوات ومناهج قراءة وفهم غريبة عن النص عبر تاريخه الكلاسيكي".

ورأى الخوالدة أن "التنوير العربي ـ على وجه العموم ـ لم ينجح في إحداث تغيير جذري، فقد ظل حراكا تاريخيا ثقافيا محصورا في فضاءات النخبة بخطاب فوقي ومتعالٍ على العامة، وتنحصر جرأته في نقد التراث والسلطة الدينية، ورجال الدين، وبغض من صوته في قضايا الحريات السياسية ونقد الأنظمة والحكومات، وحق اختيار المواطن من يحكمه". 

ووصف ما يقوم به التنوير العربي بأنه "استجرار الاعتراضات نفسها بشكل استفزازي موسمي كمسألة أحاديث الصحيحين، وإنكار السنة والفتوحات الإسلامية، وميراث الأنثى، وحرية الردة والزواج المختلط، والحجاب والختان والأضحية، ما بات يخشى معه أن يوظف التنوير ليكون سلاحا بيد الغرب، أو السلطة الحاكمة لمواجهة التنوير الإسلامي الحقيقي"، على حد قوله. 

من جهتها قالت الباحثة السورية، مُؤسِّسة ومديرة دار نشر مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، الدكتورة ميادة مصطفى كيالي: "يوحي مصطلح "التنويرية العربية" وكأنّ حركة تنويرية واضحة لدينا فعلا ومؤثرة، وفي اعتقادي أن هذا لم يحصل بعد، نعم يوجد تنويريون خاضوا التجربة من خلال طروحات عديدة تعاملوا معها بأدوات وأساليب مختلفة، حسب الزمكان الذي عاشوا فيه، والمحيط الذي تأثروا به".

                           ميادة مصطفى الكيالي.. باحثة سورية
 
وتابعت: "وقد نجح هؤلاء في خلخلة الجمود الذي أصبح عليه العقل العربي منذ عقود، حين تمت تنحيته، وهو عصب التنوير وأساسه؛ فالتنوير كما وصفه الفيلسوف الألماني إمانويل كانط "هو تغلب الإنسان على قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، وافتقاره إلى الشجاعة لأن يستخدم عقله من دون مساعدة الآخرين، فمبدأ التنوير هو "كن شجاعا واستعمل عقلك بنفسك". 

وأردفت: "ووفق هذا، حاول التنويريون العرب إعادة موضعة العقل في المكان الصحيح، ولا سيما في موضوعة الدين، حيث تم الاعتماد على النقل كأساس لا مندوحة عنه في صلب الدراسات الدينية، بينما تمت تنحية استعمال العقل". 

ووصفت الباحثة السورية كيالي "اللاهوت الإسلامي بأنه أُصيب بالجمود، وامتد إليه ما سمي بقانون التوقف، واستمرت عملية الاشتباك ما بين الديني والمدني في المجتمعات، وما فعله التنويريون العرب ـ كل حسب تجربته ـ هو إعادة الاشتغال على النص المقدس الأول، وهو القرآن، حيث أعادوا موضعته في المركز، بعد أن انسحب للأطراف، تاركا الصدارة لكتب الحديث النبوي والشروحات والسير والتفاسير وكتب الفقه". 

وأضافت في حوارها مع "عربي21": "كما أعادوا الأهمية والاعتبار لقضية النقد، التي تم إلغاؤها تماما من الدراسات الدينية، والتي كانت تكرر نفسها وتدور في حلقات مفرغة" لافتة إلى أن "القطعية المعرفية مع التراث هي جزء من منهج البعض وليس الكل، وليست هي السمة الأساسية التي يمكن أن نَسم بها كل اشتغالات التنويريين وطروحاتهم". 

أما عن القاسم المشترك بين التنويريين العرب، فيتمثل، بحسب كيالي "في إعادة الاعتبار للعقل والشجاعة في استعماله، واستعمال النقد حتى مع بديهيات القداسة في الدين، مؤكدة أنها "لا تخشى من مآلات القطيعة ولا من مآلات النقد، فالإيمان وتجربة الإنسان معه عبر التاريخ تؤكد أن الإنسان قادر على تطوير أنماط إيمانه ضمن كل الظروف، والدليل هو ما حدث في الغرب، ونجاحه في جعل معادلة متوازنة ما بين الدين والدولة، حيث لم يعد الدين عائقا للتطور والتقدم". 

ورأت مديرة دار نشر مؤمنون بلا حدود، كيالي أن "التنويريين العرب أعادوا القيمة للإنسان المعاصر ومقدرته من خلال التراكم المعرفي الكبير، ومن خلال الاستعانة بالأدوات التي تسهل الحصول على المعرفة، حتى تمكنوا من إعادة تشغيل العقل، وإعادة إعطاء القيمة للسؤال، ولضرورة البحث والتقصي قصد الوصول إلى ما يحقق طمأنينة القلب والعقل".

وعن مدى نجاح التنويريين العرب في إنجاز مشاريعهم، وبلوغ أهدافهم أشارت كيالي إلى "أنهم حاولوا جاهدين مساعدة الإنسان العربي في تطوير فكره ليلحق بركب التطور، لكن ذلك المبغى لا يمكن تحقيقه، إلا بتغيير الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؛ فالتنوير كحركة اجتماعية ثقافية فلسفية، تدعو إلى استخدام العقل والمنطق في تفسير الأشياء، وتنبذ الفكر الذي يعتمد على الخرافات، وترفض في الوقت نفسه، الوصاية على المجتمع من قبل رجال الدين، والمؤسسة الدينية".

بدوره شدد الكاتب والباحث المصري، الدكتور حاتم الجوهري على "ضرورة وضع الأمر في سياقه الصحيح، فالذات العربية حاليا لم تقدم تمثلا فكريا متجذرا يعبر عنها بعد، وعن "مستودع هويتها" بطبقاته ومستوياته المتراكمة والمتجاورة، لا في "فرق الدين السياسي" التكفيرية، ولا في دعاة "التطرف العلماني" ونفي المطلق والإلهي"، حسب تعابيره.  

وأردف: "فالجانبان ضيعا على الذات العربية فرصة سانحة في التمفصل حول لحظة الثورات العربية في القرن الحادي والعشرين، ويريدان احتكار تمثيل الذات العربية، وأنه على الناس إما أن تختار بين هذا أو ذاك". 

وقال لـ"عربي21": "التنوير لا يجب أن يكون على طريقة "التكفيريين" أو على طريقة "المنسلخين" عن الذات العربية الإسلامية، فالتنوير كان مفردة من مفردات الصراع الحدي بين الطرفين، نحن بحاجة إلى مدونة ثقافية جديدة تجترح مفاهيمها الجديدة، التي تتجاوز تناقضات القرن الماضي، واستقطاباتها بين اليمين واليسار العربيين". 

وتابع: "كان "للتنويرية العربية" سياقها التاريخي، فالبعض تعامل معها بوصفها آليات وطرق في التفكير الإجرائي لإنتاج عملية التحديث في العموم للذات العربية، وهؤلاء لم يتبنوا العلماني المتشدد الذي ينفي وجود مطلق أو غيبي أو إلهي، ولم يتبنوا مشروع القطيعة المعرفية، وبعضهم الآخر تبنى السياق الأوروبي برمته والتفكير المادي المطلق خارج منطق وجود الذات العليا الحاكمة، ومعظم هؤلاء تبنوا القطيعة المعرفية مع الذات العربية كلية بتراثها كله الديني والثقافي والحضاري على السواء". 

واستدرك "لكن في المقابل تبنى الفريق الآخر (فرق الدين السياسي) الخطاب الديني بالطريقة نفسها، بعضهم نظر للدين بشكله كدافع قيمي وأخلاقي ومثالي يصلح كقاعدة مشتركة للانطلاق الحضاري والقيام بعملية التحديت، دون الخروج على المجتمع وتكفيره، والبعض الآخر ادعى معظمهم امتلاك حق الحديث باسم المطلق الإلهي واستسهل التكفير عند الخلاف السياسي والخروج على المجتمع بشكل ناعم أو خشن".

وأشار في ختام حديثه إلى أن "التناقضات السياسية وتوظيفها جمدت اللحظة التاريخية العربية (ما بعد الثورات) للاستفادة من التناقضات والاحتفاظ بها لحين  الحاجة، حيث تم تفويث الفرصة بمهارة شديدة لخروج تيار ثقافي عربي جديد يتجاوز خطاب (التكفيريين) و (المنسلخين)، عن الذات العربية على السواء، لكن اللحظة التاريخية كامنة وحاضرة ولم تعلن استسلامها بعد"، وفق تعبيره.