هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
حافظ الجنيه المصري على قيمته أمام الدولار الأمريكي خلال عام 2021 على عكس غالبية عملات دول ناشئة تراجعت متأثرة بتداعيات جائحة كورونا وتراجع الإنتاج، وزيادة التكاليف وانخفاض الإيرادات العامة، ولم تكن مصر استثناء من آثار تلك التداعيات لكن البنك المركزي دعم الجنيه عند مستوى 15.50 -15.80 جنيه للدولار من خلال ما يعرف بعملية التعويم المدار.
ويقول مراقبون وخبراء إن البنك المركزي ينتهج سياسة التعويم المدار من أجل تثبيت قيمة الجنيه، وهو مقوم بأكثر من قيمته الحقيقية بنحو 15% رغم تحرير سعر الصرف نهاية عام 2016 استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض قيمته 12 مليار دولار، وكسب ثقة المستثمرين الأجانب للاستثمار في أدوات الدين المحلية.
لكن هل يستمر هذا الدعم طويلا خاصة مع ظهور تحديات جديدة أمام الجنيه المصري إلى جانب تداعيات أزمة كورونا؛ مثل ارتفاع التضخم في أوروبا وأمريكا وتوجه العديد من البنوك المركزية لزيادة سعر الفائدة وبالتالي سحب جزء من أموال المستثمرين الأجانب في أدوات الدين الجديد الأكثر أمانا، فضلا عن زيادة حجم التزامات مصر الخارجية لسداد فوائد الديون وأقساطها، وارتفاع تكلفة الواردات.
في آذار/ مارس 2021، توقع كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي روبن بروكس أن تلجأ الحكومة المصرية لتخفيض قيمة الجنيه المصري مرة أخرى، وبروكس هو خبير معروف وسبق له العمل مع بنك غولدمان ساكس الأمريكي وهو أحد أهم بنوك الاستثمار في العالم.
بحسب كبير الاقتصاديين والمحللين ومعهد التمويل والنموذج الرياضي الذي بُني على الميزان التجاري المصري فإن الجنيه مُقيّم في حزيران/ يونيو 2020 بـ 15% أعلى من قيمته الحقيقية في السوق، أي ما بين 2 – 3 جنيهات عن سعر الصرف الحالي.
كيف ثبت المركزي المصري الجنيه؟
واعتمدت الحكومة المصرية في توفير الدولار من أجل دعم الجنيه على أدوات الدين من سندات وأذون خزانة محلية، وتوسعت في أسواق السندات الدولية ولجأت إلى أنواع جديدة مثل السندات الخضراء، وسوق الصكوك السيادية، والإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة لجذب المزيد من المستثمرين الأجانب في أذون الخزانة المحلية.
وبلغت استثمارات الأجانب في أذون وسندات الحكومة المصرية بالعملة المحلية 33 مليار دولار، أو نحو 13 في المائة من إجمالي الأوراق المالية المصدرة خلال العام الحالي 2020-2021، وفق تقرير صدر في أيلول/ سبتمبر الماضي عن وكالة "ستاندرد اند بورز".
إلى جانب التعويم المُدار الذي يديره البنك المركزي المصري، يقوم الأخير برفع أسعار فائدة السندات وأذون الخزانة المحلية والدولية من أجل الحفاظ على معدلات منخفضة من التضخم، لكن يدفع المصريون تكلفة تلك الإجراءات من ضرائبهم وجيوبهم الخاصة.
الجنيه والاقتصاد والتعويم قبل وبعد
وتراجع الجنيه قبل عملية التعويم بالفعل عدة مرات، ففي عام 2012 كان الدولار يساوي 6.50 جنيه ثم 7.10 جنيه في عام 2014، ثم 7.8 في عام 2015، ثم 8.8 في عام 2016 ثم 17 و18 و19 و20 جنيها على التوالي بعد تحرير سعر الصرف، ما أدى إلى انخفاض مدخرات المصريين بنحو 50%، وحدوث قفزة في الأسعار بنحو الضعف قدرتها بعض التقرير بـ100% في أول عام بعد التعويم.
وراهنت الحكومة المصرية على زيادة الصادرات بسبب انخفاض قيمة الجنيه، وتراجع الديون، وزيادة الاستثمار، وتحسن إيرادات قناة السويس والسياحة، ولكن توقعات الحكومة ما كانت في أغلبها إلا مبررات واهية لخداع المصريين بضرورة وأهمية التعويم، وأنه العصى السحرية لحل أزمة الاقتصاد، وفشلت معظمها في تحقيق المستهدفات، بحسب تقارير ومحللين محليين ودوليين.
وراوحت الصادرات المصرية غير البترولية مكانها بين 21 مليار دولار و25 مليار دولار فقط، وظلت إيرادات قناة السويس عند نحو 5.5 مليار دولار، وتراجعت إيرادات السياحة بسبب أزمة كورونا إلى أقل من 4 مليارات دولار مقابل نحو 12 مليار دولار ، في حين تضاعف الدين الخارجي من نحو 60 مليار دولار إلى نحو 140 مليار دولار؛ وبالتالي تضاعفت أعباء الفوائد، وترتب على كذلك ارتفاع الأسعار 3 أمثالها وإنهاء الدعم عن الوقود والكهرباء بشكل شبه كامل.
لا خفض للجنيه إلا في هذه الحالة
يرى الباحث الاقتصادي، عبد الحافظ الصاوي ، أنه "رغم تحرير سعر صرف الجنيه فإن الحكومة المصرية تفرض حماية عليه للحفاظ عليه من التراجع بغرض التمويه على المستثمرين الأجانب وجذب الأموال الساخنة لخزانتها ومن ثم دفعها لهم مرة أخرى عبر سلسلة معروفة من الاقتراض من أجل سداد القروض، وهذا لن يجعل قيمة الجنيه غير حقيقية ولذلك ترتفع الأسعار".
وتوقع الصاوي في تصريحات لـ"عربي21" أن "يستمر البنك المركزي في دعمه للجنيه عبر المزيد من الاقتراض، فاللجوء إلى تخفيض قيمة العملة مرة أخري ليس قرار اقتصادي وإنما قرار سيادي، وتدرك الحكومة حجم الفقر الذي انتشر بين المصريين بعد عملية التعويم؛ لذلك هي مستعدة لدفع فاتورة حمايته من جيوب المصريين إلا إذا تعرضت الاستثمارات الأجنبية لضغوط أكبر من حجم وقدرات البنك المركزي المصري".
وفي الآونة الأخيرة كشف بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي عن نيته العمل على إنهاء برامج التيسير الكمي أسرع مما كان مخططاً من ذي قبل، ومن ثم البدء برفع معدلات الفائدة أكثر من مرة (ربما ثلاث مرات) قبل نهاية العام القادم، للحد من ارتفاع معدلات التضخم الذي وصل إلى أعلى مستوياته في البلاد في ما يقرب من أربعة عقود، وهو ما يلقي بظلاله على مصر المتعطشة لمزيد من القروض.
يقول أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة في جامعة هارفرد الأمريكية، ، كينيث روجوف، بشأن توقعاته حول تأثير خطوات البنك الفيدرالي المتوقعة خلال الفترة القادمة على الاقتصادات الناشئة والنامية، إن مصر ستكون معرّضة لمخاطر شديدة عند رفع البنك الفيدرالي الفائدة على أمواله، بسبب ارتفاع الدين الخارجي، وصعوبة وصولها في كثير من الأحيان إلى أسواق السندات للاقتراض، بالإضافة إلى ارتفاع معدل التضخم فيها.
وفي أيلول/ سبتمبر الماضي، حثت وكالة "ستاندرد آند بورز" الأميركية للتصنيف الائتماني، الحكومة المصرية على أن تجد وسيلة لخفض دفعات فوائد الدين الأجنبي إذا كان لها أن تتفادى الوقوع في أزمة في حال ارتفاع سعر الفائدة العالمية في المستقبل، حذرت وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني العالمية، من أن اعتماد مصر على التمويلات الخارجية يجعلها عرضة لتغيرات الظروف النقدية العالمية.
المواطنون يدفعون ثمن تثبيت الجنيه
في تقديره يرى الخبير الاقتصادي عبد النبي عبد المطلب أن "معاناة المصريين منذ تعويم الجنيه منذ نحو 5 سنوات مستمرة، ورغم تحسن المؤشرات الاقتصادية لكن واقع حياة المصريين لم يتجاوب مع تلك المؤشرات لسببين الأول هو انخفاض حجم مدخراتهم والثاني هو زيادة الأسعار بشكل كبير وارتفاع التضخم ".
وأضاف لـ"عربي21": "رغم "تثبيت" قيمة الجنيه منذ مطلع عام 2019 عند نحو 15.7 جنيه، نزولا من نحو 19-20 جنيها لم يحدث أي استقرار في أسعار السلع والمواد الاستهلاكية والغذائية، وكان من المفترض أن تنخفض الأسعار مع ارتفاع الجنيه والحفاظ على قيمته لأكثر من 3 سنوات رغم الضغوط الخارجية وتراجع غالبية عملات الدول الناشئة المنافسة لها".
وفي حزيران/ يونيو 2021، بلغ إجمالي ديون مصر الخارجية 137 مليارا و850 مليون دولار مقارنة بـ123 مليارا و490 مليون دولار حزيران/ يونيو 2020، وفقا لبيانات البنك المركزي المصري، فيما تعدت ديون مصر هذا الرقم بكثير في الأشهر الستة الأخيرة من العام.