هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الماسورة كما هو معلوم عمود/ أنبوب أسطواني مجوف تختلف أطواله وأقطار دائرته حسب الغرض الذي تستخدم فيه، والذي يتمثل عادة في نقل السوائل والغاز، ولكن وصف شخص بأنه ماسورة، صار يعني في قاموس العامية السودانية أنه مخادع/ كاذب/ غير أهل للثقة، والتساؤل في العنوان أعلاه مأخوذ من هتاف رددته جموع السودانيين في مسيرة احتجاجية يوم 21 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.
وقد ظل الشارع السوداني يعيش حالة غليان شعبي شبه متصلة رفضا للانقلاب الذي قام به عبد الفتاح البرهان في 21 تشرين أول/ أكتوبر المنصرم، وأطاح بحكومة كان الشق التنفيذي منها مدني الطابع، وزج برئيس الوزراء عبد الله حمدوك وعدد من الوزراء في السجون، ثم في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، والملايين تهدر كالسيول في الشوارع مطالبة برحيل عسكر الانقلاب عن المشهد السياسي تماما، فاجأ حمدوك الناس بأن قدم من محبسه المنزلي إلى القصر الرئاسي، ليجلس على المنصة مع البرهان وشريكه في الانقلاب الجنرال حميدتي ليوقع على ما أسموه بـ"الإعلان السياسي".
ومن المصادفات أن ذلك اليوم شهد مسيرات لرفض الانقلاب والمطالبة بالإفراج عن حمدوك وصحبه الوزراء، وكان ذلك بمثابة تحدٍ للعسكر لأنهم تصدوا بعنف لمسيرات ضخمة تطالب بنظام الحكم المدني وعودة العسكر إلى الثكنات، قبلها بأربعة أيام، وخلال نصف ساعة كان الرصاص الحي قد حصد 15 من الأرواح وأصاب نحو 120 بجراح، وما أن تسرب أمر توقيع حمدوك على الإعلان حتى علا الهتاف "بالصوت والصورة، حمدوك طلع ماسورة"، وطلع في العامية السودانية تعني "صار/ ثبت أنه"، بمعنى أن حمدوك خيب آمال الملايين التي خرجت مرارا إلى الشوارع طوال قرابة شهر كامل رافضة للانقلاب.
وحتى قبل إشهار انقلابه الأخير كان البرهان عازفا عن العمل المؤسسي والتقيد بالمواثيق، وقد استغل منصبه كرئيس لمجلس السيادة منذ آب/ أغسطس 2019 لعرقلة أمور الحكم التي لا تتوافق مع هواه، وبعد الانقلاب أعطى نفسه رخصة إصدار الفرمانات: يسجن هذا وينهي خدمات ذاك ويرفع من قدر فلان الوظيفي، ومن ثم كان مستهجنا من قبل كثيرين في السودان أن يجاري حمدوك "المدني" البرهان فيضع توقيعه على ورقة يكرس محتواها السلطة الانقلابية، ويجعل من البرهان ورهطه في مجلس السيادة، الذي قام بإعادة تشكيله بعد استبعاد من كان فيه من أعضاء مدنيين في مرحلة ما قبل الانقلاب، رقباء وأوصياء على الحكم.
ومن يقولون إن حمدوك خان عهده مع القوى المدنية التي اختارته وأسندت إليه رئاسة الحكومة يحاججون بأنه لا حمدوك ولا البرهان يملك صلاحية أو سلطة تقرير أمور الحكم، طالما هما يزعمان أن المرجعية فيما يفعلون هي الوثيقة الدستورية التي تحكم ميكانيزمات الحكم بعد سقوط نظام عمر البشير في نيسان/ أبريل من عام 2019، لأن تلك الوثيقة تجعل القرار بيد كيان مدني محدد هو تحالف قوى الحرية والتغيير (قحت)، وما صار يعرف بالمكون العسكري المتمثل في البرهان وعسكر مجلس السيادة، واستنادا إلى عدم حجية ذلك الإعلان وكونه لا يلزم أحدا من الناحية الدستورية سوى الشخصين الذين وقعا عليه، فهو ليس أكثر من اتفاق بين شخصين.
من يقولون إن حمدوك خان عهده مع القوى المدنية التي اختارته وأسندت إليه رئاسة الحكومة يحاججون بأنه لا حمدوك ولا البرهان يملك صلاحية أو سلطة تقرير أمور الحكم، طالما هما يزعمان أن المرجعية فيما يفعلون هي الوثيقة الدستورية التي تحكم ميكانيزمات الحكم بعد سقوط نظام عمر البشير
والمأخذ على حمدوك إذاً هو أنه لم يقم فقط بتجاهل القوى المدنية التي أتت به الى الحكم وظلت تنادي بالحرية له خلال أسابيع وقوعه في أسر جند البرهان، بل في أن ذلك الاتفاق الذي قبل به هو في حقيقة الأمر نسخة مخففة من بيان الانقلاب البرهاني، بل إن ما غاب عن البيان أخطر من كل ما ورد فيه، فعدم ذكر أيلولة رئاسة مجلس السيادة إلى المدني يعني القبول بأن يبقى البرهان رئيسا للمجلس حتى نهاية الفترة الانتقالية، كما أن إغفال أمر أعضاء مجلس السيادة المدنيين الذين عزلهم البرهان في سياق انقلابهم وزج بهم في السجون يعني مباركة حمدوك للأمر، وفوق هذا كله هناك قرارات البرهان بعزل من لا يأنس منهم "التدجين والتبعية له" من الخدمة والإتيان ببدائل لهم من رهطه، وليس في الأفق ما يشي بأن حمدوك سيبطل تلك القرارات التي اتخذها البرهان بوصفه قائد الجيش.
ومنذ أن وضع توقيعه على البيان/ الاتفاق/ الإعلان، وحمدوك حريص على الظهور في العديد من شبكات التلفزة لتبرير ما أقدم عليه، وأول مبرر يردده هو "حقن الدماء"، وهو أمر ليس في يده، بل في يد العسكر الذين أثبتت الوقائع أن أيديهم تبادر باللجوء إلى زناد البندقية كلما استشعروا حراكا شعبيا يناهض تدابيرهم، وعندما قيل لحمدوك أن إقدامه على التوقيع على وثيقة تراضٍ مع البرهان سيعود عليه بخسران قسم كبير من السند الشعبي الذي ظل يحظى به، قالها صراحة إنه غير معني بأمر "شعبيته"، ومن حيث يدري أو لا يدري يكون قد قال: أنا وحدي أدرى بمصلحة بلادي، ولا يهمني أمر الرأي العام والرضاء العام
فهل تعسكر حمدوك فكريا أيضا؟