البرهان عصِيُّ الفهم شيمته الغدر

جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم نصان في شأن علامات المنافق، أولهما قوله: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". والنص الآخر: "أربع من كن فيه كان منافقا، ومن كانت خصلة منهن فيه كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدَعها: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر".

وعبد الفتاح البرهان كان مؤتمنا على حماية الثورة الشعبية التي أسقطت حكم عمر البشير، ونتج عنها تشكيل حكومة انتقالية كان نصيبه فيها أرفع منصب دستوري وهو رئاسة مجلس السيادة، وتعهد بحماية وحراسة اَلثورة والحكومة، وإذا بالوقائع تثبت أنه كان يكذب فقد قام في 25 تشرين الأول/ أكتوبر، وبوصفه قائدا للجيش السوداني بانقلاب عسكري، وغدر بشركائه في الحكم واعتبرهم خصوما وزج بهم في السجون، وما أن تحركت الجماهير رافضة للانقلاب حتى اعتبر الشعب خصما له وفجَر في الخصومة بتفجير الرؤوس وبقر البطون بالبارود.

ومنذ حدوث ذلك الانقلاب، شهد الشارع السوداني ثلاثة مواكب احتجاجية شديدة الضخامة تصدى لها جند البرهان بوحشية مفرطة، والعالم كله يشهد أن الحراك الشعبي في السودان والذي بدأ ضد نظام عمر البشير في كانون الأول/ ديسمبر من عام 2018 تميز بالسلمية التامة، ونفس الجماهير التي خرجت لإسقاط نظام البشير هي التي خرجت وستخرج رافضة للحكم العسكري بقيادة البرهان أو غيره، ولكن البرهان ورهطه عمدوا لاستخدام الذخيرة الحية للفتك بالمحتجين، وقد شهد يوم 17 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري مجزرة كاملة الأركان في مدن الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، وبلغ من وحشية جند البرهان انهم داهموا المستشفيات التي تم نقل المصابين اليها وأطلقوا فيها القنابل المسيلة للدموع واعتقلوا الأطباء الذين كانوا يشرفون على علاجهم.

وآيات المنافق هي نفس آيات الديكتاتور، فالديكتاتور يداهن ويكذب ويبذل الوعود ثم يحنث بها، ولكن الديكتاتور الذكي يتَمَسْكن حتى يتَمَكَّن، فيكون في أول عهده ودودا مع شعبه ويسعى لتأليف القلوب لضمان قبول الناس له، ثم بعد ان يضع جميع خيوط السلطة في يده يكشر عن انيابه ويشرع في ممارسة القهر والبطش بالخصوم، بجعل نفسه فوق القانون، وصولا حتى إلى إضفاء قداسة على شخصه، كما يفعل رؤساء كوريا الشمالية منذ كيم إيل سونغ وانتهاء بحفيدة كيم جونغ أون..

وتميز ديكتاتورين كثر بكاريزما جذبت نحوهم شرائح واسعة من المواطنين، فقد كانت لجوزيف ستالين في روسيا وهتلر في ألمانيا النازية وموسوليني في إيطاليا الفاشية وفرانكو في إسبانيا قدرات خطابية عالية ومهارات في التحكم في وسائل الإعلام، مصحوبة بقسوة مفرطة في التعامل مع المعارضين الفعليين والمحتملين.

وتولد الأنظمة الديكتاتورية عادة من رحم الأزمات، فيأتي الديكتاتور طارحا نفسه كمنقذ وقادر على حسم الفوضى فيتحكم في جميع مفاصل الحكم، وفي سبيل إحكام قبضته على السلطة لا يتورع عن ترويع المواطنين وانتهاك حقوق الإنسان وتدجين وسائل الإعلام، وخلق مناخ من الخوف والتوجس بسفك الدماء وسجن الخصوم، وما فعله البرهان لتوطيد قدميه في السلطة هو أنه افتعل خلال حقبة ما قبل الانقلاب أزمات سياسية تضعف الحكومة التنفيذية، ثم ها هو اليوم يسعى لطرح نفسه كمخلِّص للبلاد من تلك الأزمات، ولا يجد بين يديه سلاحا سوى البندقية، خاصة وأن المواكب الهادرة الرافضة لانقلابه أكدت له أن ظهره إلى الحائط.

يفوت على كثيرين أن الوثيقة الدستورية التي كانت تحكم الفترة الانتقالية التي انقلب عليها البرهان، تنص على أنه لا يحق لشاغلي المناصب الدستورية والتنفيذية العليا في الحكومة الانتقالية تقلد مثل تلك المناصب في الحكومات اللاحقة، وفي هذا قطع لطريق طموحات البرهان وخدنه الحميم محمد حمدان دقلو (حميدتي).

ومن الواضح أن البرهان لا يعي دروس التاريخ القريب، فقد سبق له ولرهطه من الجنرالات أن خططوا لكسر شوكة الجماهير المطالبة بالحكم المدني بعد خلع عمر البشير، فكانت مجزرة 3 حزيران/ يونيو 2019 والتي حصدت أرواح زهاء 130 شخص في أقل من ساعة واحدة، فإذا بالجماهير تزداد حماسة وضراوة وتنجح في انتزاع قسم كبير من السلطة من المجلس العسكري الذي شكله البرهان وقتها لتولي أمر حكم البلاد.

تسيل الدماء في شوارع مدن السودان الكبرى والبرهان بعد مجرد "مشروع ديكتاتور"، وهو يحسب ـ بسبب السذاجة السياسية ـ أن ذلك كفيل بردع الخصوم، بينما المواطن العادي يتساءل: إذا كان الرجل قد قتل 32 شخصا في الأيام الـ 23 الأولى من حكمه فما هو فاعل عندما يحكم لـ 23 أسبوعا أو شهرا ـ لا قدَّر الله؟

ومن المعلوم اليوم في السودان ومحيط السودان الجغرافي أن البرهان أقدم على الانقلاب بإيعاز ومباركة من كفلائه الإقليميين، ومعلوم أن المجهود الفردي الذي قام به لخطب ود إسرائيل وتعهده بتطبيع العلاقات معها كان في سياق "تقديم السبت لتلقى الأحد"، أي أن يفعل معروفا في إسرائيل كي ترد الجميل عندما يصبح صاحب الشأن الأول في السودان بالاعتراف بنظامه الانقلابي وتقديم ما يتيسر من عون له (كان لافتا انه ضم في مجلس السيادة الذي شكله قبل أيام قليلة لتوسيع قاعدة مشروعه الديكتاتوري شخصا حربائيا يدعى أبو القاسم برطم كان يجاهر مؤخرا بضرورة التطبيع مع إسرائيل، وهو عضو سابق في آخر برلمان في عهد عمر البشير، وكان في شبابه قذافي الهوى وذلك عندما كان يعيش في ليبيا وعضوا نشطا فيما كان يسمى باللجان الشعبية الثورية).

انتبه كثيرون إلى أن أقوى الأسباب التي حملت البرهان على الانقلاب هي تفادي المساءلة القضائية بشأن مجزرة 3 حزيران/ يونيو 2019، وعدم رغبته في النزول من كرسي رئاسة مجلس السيادة (كما كان مقررا في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري) لشخص مدني، ولكن يفوت على كثيرين أن الوثيقة الدستورية التي كانت تحكم الفترة الانتقالية التي انقلب عليها البرهان، تنص على أنه لا يحق لشاغلي المناصب الدستورية والتنفيذية العليا في الحكومة الانتقالية تقلد مثل تلك المناصب في الحكومات اللاحقة، وفي هذا قطع لطريق طموحات البرهان وخدنه الحميم محمد حمدان دقلو (حميدتي).

ومن ثم كان لا بد من الانقلاب وتمزيق تلك الوثيقة وتفصيل واحدة جديدة "على المقاسين".