هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
درج البشر، منذ عرفوا الفن، على أنه تمجيد للحرية، وكسر للقيود، وتحليق وانطلاق في فضاءات الكون وأحضان الطبيعة. تنوعت المدارس الفنية التي عرفها البشر، وتراوحت ما بين أعمال واقعية تتحرى هموم الفقراء والعمال، وأعمال رومانسية تركن إلى الاندياح في الطبيعة، وأعمال سيريالية تبحر في مكنونات النفس البشرية وغيرها من المدارس التي تختلف في كل شيء، لكن يكاد يجمعها ملمح وحيد: الانحياز للحرية والرغبة في تحرير الإنسان؛ كل مدرسة بطريقتها الخاصة.
لذا لا نكاد نجد في تاريخ الفن الإنساني عملا يمجد العبودية والأصفاد وجدران السجون، ربما جرّب ذلك بعض المبدعين الذين "استنفعوا" بذلك، ثم كنسهم التاريخ كما كنس أعمالهم تلك فلم يسمع بها أحد. رغم ذلك تبدو أغنية "فرصة للحياة" التي أطلقتها وزارة الداخلية المصرية وروّج لها الإعلام المصري الرسمي، تبدو حالة شديدة الغرابة. فمع شلال الاحتفاء الحكومي بأكبر مسجد وأطول برج ونحو ذلك من الأعاجيب.. يبدو الاحتفاء ببناء أكبر سجن في العالم (وفق مانشتات بعض الصحف المصرية كالمصري اليوم) مثيرا للأسى قبل السخرية، في ظل احتفال دول العالم المتقدم بتقليل سجونها وإغلاقها، أو على الأقل حرصها على افتتاح سجون متطورة دونما احتفال، وتحسين منظومة العمل داخلها.
يبدو أن الفن المصري على موعد مع التاريخ، بتسجيل أول أغنية تحتفي بافتتاح سجن.
كما يبدو أن الفن المصري يسعى لطرح رؤيته المعاصرة على أكثر من مستوى. فقد تداول المدونون لقطة مكبرة من الفيديو كليب يبدو فيها أحد السجناء يرسم صورة السيسي في المرسم الفاخر الكائن بالسجن! الأغرب أن اللقطة المكبرة تظهر أن السجين لم يكن يرسم أصلا، بل كان يلون بالريشة في مساحة فارغة من اللوحة بجوار وجه الرئيس، لمجرد إظهار حركة يده كأنه يرسم، ما يدل على أنه ليس رساما بالطبع!
في صورة سابقة نشرتها الصحف المصرية لمكتبة أحد السجون منذ سنوات، ظهر سجين يقرأ كتابا مع أن الكتاب مقلوب في يده! يحار المرؤ حقا؛ كم تدفع وزارة الداخلية (من أموال دافعي الضرائب) لمخرجي أغنية كهذه ولمصوريها ومنتجيها الفنيين حتى يغفلوا عن تفاصيل كهذه؟
يقودنا ذلك إلى مشكلة فنية أخرى؛ مشكلة "الصدق الفني" في الأعمال المصرية، خاصة ما يُعرض منها على شاشات التلفاز. منذ زمن بعيد يشكو متابعو الدراما المصرية بُعدها الغريب عن حياة المصريين العاديين، لا نكاد نجد في الدراما المصرية بيتا كبيوت المصريين الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة أو حتى الأحياء المتوسطة. لا نكاد نجد ممثلة مصرية لا تسرف في مكياجها حتى تصحو من النوم، مثلا، بمكياج كامل كأنها خارجة من مقابلة عمل رسمية..
يؤمن الكثيرون من صناع الدراما المصرية بأن المصريين هم صفوة الأثرياء فحسب، حتى الممثلات، نلاحظ كيف يلهث المنتجون خلف الشقراوات وفائقات الجمال منهن، مع أن المصريين شعب أفريقي أسمر البشرة في معظمه! بل حتى التاريخ المصري القديم لم يسلم من ذلك، فحين أراد صناع الدراما الرمضانية تقديم شخصية الملك أحمس، اختاروا لنا عمرو يوسف، الأشقر، الذي تشبه ملامحه ملامح الهكسوس لا المصريين!
بالطبع يندر أن يعالج مسلسل مصري في زمن السيسي قضية خارجة عن بطولات الشرطة والجيش وإنقاذهم الحاسم لمصر من أيدي الإرهابيين، الذين هم معارضون سياسيون لا أكثر. لا نجد مسلسلا مصريا يتناول حياة شاب فقير دهسه قطار التعويم وأرهقته الضرائب المتلاحقة والغلاء الجنوني الذي حل، ويحل، على المصريين جميعا.
ثمة مصر أخرى على شاشاتنا، تماما مثل تلك القاعات النظيفة والزنازين التي تكاد تبرق من شدة نظافتها فيما يموت السجناء، بل يُقتلون قتلا بالإهمال الطبي المتعمد، والتعذيب، والتصفية خارج إطار القانون... بالطبع ليس مجال المقال مناقشة حقوق الإنسان ولا منظومة السجون، بل يحاول المقال فقط أن يكتشف السبب في التناقض الصارخ بين ما تعرضه شاشاتنا وما نعايشه في مصر "التي نعرفها"!
وعلى ذكر إخراج الفيديو كليب، ثمة مخرج شاب اسمه شادي حبش، رحل عن دنيانا مسموما في يوم 2 مايو 2020 حيث يبدأ الربيع في العالم. كان شادي رحمه الله مخرجا شابا أخرج أغنية "بلحة" التي انتقدت السيسي بلقب كان الملايين يكتبونه على السوشيال ميديا. وحين اعتقل شادي، وتدهورت صحته (أعلنت الداخلية بعد ذلك أن سبب الوفاة تسمم)... ظل شادي يستغيث حتى عرض على أكثر من طبيب بالسجن فلم يعالجه أحد. وحين تدهورت صحته وغاب عن الوعي واستغاث زملاؤه لم يتم نقله من الزنزانة إلا ميتا!
ربما يحق لنا أن نسأل المخرج الشاب مازن المتجول، مخرج أغنية "فرصة للحياة"، دون أن يتردد في تصوير روعة مرافق السجن ومستشفاه وإضاءته الليلية التي تجعله شبيها بمنتجعات دبي، كما لم يتوانَ عن تصوير الزيارات التي يعانق فيها السجين أسرته وأطفاله... ربما يحق لنا أن نسأله عن آلاف السجناء المحرومين من زيارة عائلاتهم، وعن زميله المخرج شادي حبش الذي لم يعالجه أطباء كهؤلاء الذين عرضهم في مستشفى السجن، ولم يُحاسَب أحد على موته.
متى نشاهد مصر على شاشاتنا مثلما نعيشها في واقعنا؟