هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "الهوية الثقافية لموريسكيي تونس"
المؤلف: المنذر شريط
الناشر: مؤسسة مجمع الأطرش للتوزيع
الطبعة الأولى: 2021
عدد الصفحات: 200
على أهمية الدراسات التاريخية التونسية التي تناولت بالاهتمام والدرس مسألة الموريسكيين، الإثنية ذات الأغلبية المسلمة الممزوجة بأقلية يهودية في المدن الإسبانية التي أقاموا بها منذ وصول العرب إلى اسبانيا في بداية القرن الثامن للميلاد حتى طردهم منها قبل أربعمائة سنة ـ أي بعد بقائهم بها لأكثر من سبع قرون كاملة، إلا أنه لم تول القضايا الجزئية المتصلة بالموضوع الموريسكي المكانة التي تستحقها من حيث قيمتها التاريخية والإنسانية والثقافية.
في هذا الكتاب الذي يحمل عنوان: "الهوية الثقافية لموريسكيي تونس"، يحفر مؤلفه المنذر شريّط، الصحفي والباحث المتخصص في تاريخ العالم المتوسطي وحضارته، في "جزئية شديدة الحساسية، وتفاصيل بالغة الأهمية بل عسيرة تتعلق بمسألة الهوية الثقافية وطرائق مقاربتها. ويؤكد الدكتور رضا مامي، أستاذ الأدب الإسباني والتراث الموريسكي بالجامعة التونسية، والذي قدّم الكتاب الذي بين أيدينا، على أهمية المبحث المذكور وإن بدا في ظاهر الأمر بديهيا ومن تحصيل الحاصل.
سعى مؤلف "الهوية الثقافية لموريسكيي تونس" إلى بيان المسألة الثقافية عند الموريسكيين من خلال تسليط الضوء على نوعين من الباحثين: مثل المؤرخ الغربي النوع الأول منهما، فقد عالج قضيتهم بمقاربة أفرغتها أحيانا من مضامينها الجوهرية. فرغم غزارة أدبيات المدونة الغربية، لا يلمس الباحث فيها الموضوعية المطلوبة في مثل هذه الدراسات الثقافية التاريخية، فقد كانت تنزع إجمالا إلى طمس الهوية الموريسكية باختزالها في مجرد نزاع بين قوى خيرة تسعى إلى الحفاظ على وطنها في إسبانيا وقوة أخرى حولها شكوك كثيرة في خصوص ولائها لهذا الوطن، إسبانيا.
أما النوع الثاني من المؤرخين فقد مثله المؤرخ المغاربي بصفة عامة، وقد تميزت دراساته للظاهرة الموريسكية بالقلة مقارنة بجهود الغرب. ويبدو أن المنجز منها لا تتوفر فيه بصفة عامة الجدية المطلوبة إلا في ما ندر، أما الجاد منها فقليل رغم وفرة الوثائق التي من شأنها أن تيسر للباحث دراسة الوقائع التاريخية وإماطة اللثام عن الكثير من الحقائق المطموسة أو المنسية، ويحسب للمؤلف محاولته التأصيل لبعض مناهج البحث في مجال التاريخ. من ذلك مثلا حديثه عن المدرسة التونسية في الكتابة التاريخية من زاوية نظر روادها، مع محاولة إبراز أهم خصائصها، يؤكد الدكتور رضا مامي.
المسألة الثقافية تختزل مأساة الموريسكيين
حظيت المسألة الثقافية في تاريخ الموريسكيين وما برحت بعناية خاصة عند مختلف الباحثين، باعتبارها مسألة تختزل جوهر مأساتهم. ذلك أن الموريسكيين بعد الطرد الجماعي (بين عامي 1018ﮪ /1609م وسنة 1023ﮪ/1614م) لم يبق منهم باعتبارهم أمّة لها هويتها لغةً وحضارةً ودينًا أيّ أثر في أيّ جزء من أجزاء شبه الجزيرة الإيبيرية.
ويؤكد الدكتور رضا مامي أنّ شتاتهم وتشتيتهم قد ارتكز في حقيقة الأمر على دواع ثقافية. وقد فرض عليهم وضع الشتات هذا أن لا يعتمدوا في نقل تراثهم اللاّ مادّي على القنوات الشائعة كجمع الوثائق الأصلية للمحافظة على الأرشيف الجماعي، وإنما على استخدام وسائل أخرى تقوم على قواعد نقل مختلفة كالتقية والتمويه والسرية.. وقد فرضتها على الموريسكيين رقابة محاكم التفتيش التي أحكمت قبضتها عليهم، فنبشت في ضمائر الكثيرين منهم، واطلعت على سرائرهم، واستندت في إقصائهم وتشتيتهم على ما يسرون ويبطنون لا على ما يظهرون ويعلنون.
الهوية الموريسكية الأندلسية مثلت إشكالا في مستوى المعاناة الخاصّة بأصحابها وكذلك بالنسبة إلى المتعاملين معها سواء كانوا الإسبان المسيحيين أو التونسيين المسلمين.
ويضيف مامي بالقول إنّه يمكن اعتبار أن المسألة الثقافية عند الموريسكيين لم تتجسم في ما لحقهم من اضطهاد وتشتيت بسبب تلك الدواعي الثقافية فحسب، وإنّما بسبب انتقال محنتهم إلى مهاجرهم الجديدة، خاصّة في تونس التي احتضنت أغلبيتهم، واستمرارها طوال قرون امتدت إلى قرننا هذا حيث تواصل تهميش قضيتهم مقارنة بغيرهم من الأقليات.
طرح الإشكالية
يتعلق موضوع الكتاب بمسألة الهوية الثقافية للموريسكيين التونسيين من خلال قراءات متقاطعة في خطاب مؤرخين عبر المجلّة التاريخية المغالربية. وتطرح مسألة الهوية ضمن هذا المبحث من خلال إشكالية تصوّر / تمثل الهوية في الخطاب التاريخي بين الاستمرارية والانقطاع. ويتعلق السؤال المركزي في هذا المجال بتمثلات عدد من المؤرخين التونسيين من جهة والأجانب من جهة ثانية بموضوع الهوية الثقافية للموريسكيين التونسيين. كيف قارب كل طرف هذه القضية وكيف استعمل مصطلح "هوية موريسكية" وكيف حددها منهجيا؟ وأخيرا كيف تتقاطع الأفكار الحاصلة في مثل هذا الموضوع الشائك بين مختلف هؤلاء المؤرخين؟
وتطرح هذه الإشكالية، وفق المنذر شريط، في مستوى الخطاب التاريخي التساؤلات التالية:
ما مدى إمكانية المحافظة على الهوية تحت وطأة القمع؟ وبالتالي سيكون التمشي الاستدلالي ضمن هذا السياق منزاحا إلى معادلة جوهرية هي حدود مفهومي الهوية والحرية. فهل يمكن الحديث عن الهوية بمعزل عن الحريّة؟ أليس جوهر المأساة هو فقدان الحرية ومن ثم فناء أسس الهوية؟ وهل يفنى شعب مع فناء أسس هويته أم يبقى/ تبقى بعدها؟ يتساءل المؤلف.
التساؤل الثاني الذي يتولّد عن الإشكالية المطروحة أعلاه هو: ما هي حدود مساحة الهوية في علاقتها مع الكيان الاجتماعي؟ وما طبيعة العلاقة بينهما؟ قد ينطبق هذا على الموريسكيين في الأندلس طيلة سبعة قرون ثم في إسبانيا المسيحية طيلة قرنين من الإشعاع ثم وقع الانحدار فالمحاكمة والطرد. لقد ولّد احتكاكهم ثم تصادمهم مع المسيحيين الإسبان ثم محاولتهم المحافظة على عناصر عناصر من هويتهم سؤالا آخر مشروعا وهو التالي: هل يمكن أن تفتت الهوية أي أن يفقد هؤلاء الموريسكيون دينهم فأدبهم ثم ثقافتهم وأخيرا حضارتهم؟ هل أن ما عاشه الموريسكيون من محنة جعلهم يفقدون هوينهم نهائيا؟
أما التساؤل الثالث الذي طرحه المؤلف فيتمثل في كيفية تمظهر الهوية الثقافية للموريسكيين التونسيين قبل الطرد النهائي من إسبانيا الكاثوليكية وبعد التوطين ثم الإقامة في الإيالة التونسية وإلى حدود اليوم؟ ماهي الأسس الهامة التي تشكلت ضمنها هذه الهوية: الأرض، الكيان الاقتصادي والسياسي، الحضور السوسيو ـ ثقافي (اللغة والدين..)؟
الهوية الثقافية الموريسكية حقيقة تاريخية
يخلص الصحفي والباحث المنذر شريّط إلى أن الهوية الموريسكية الأندلسية مثلت إشكالا في مستوى المعاناة الخاصّة بأصحابها وكذلك بالنسبة إلى المتعاملين معها سواء كانوا الإسبان المسيحيين أو التونسيين المسلمين. لكن ذلك لم يمنع من أن تكون هذه الهوية حقيقة تاريخية لا مجرد أسطورة أو إيديولوجيا لا تصمد أمام أصالة الفكر التاريخي. معنى ذلك أنها ارتكزت على بنية سوسيو ـ ثقافية متماسكة في أبعادها المختلفة وانعكست على مستوى نمط الحياة كما على مستوى اللغة والعادات والمعتقدات والتديّن.
ويضيف شريّط بالقول إنّ الهجرة الموريسكية الأندلسية إلى المغرب العربي وخصوصا الإيالة التونسية ملحمة تاريخية كبرى. وقد حاول جاهدا طرق الأبواب الخلفية لهذه الملحمة من زاويتين متقابلتين، تمثلت الأولى في المعرفة التاريخية نفسها قراءة على المؤرخين من خلال نصوصهم الهامة، وتمثلت الزاوية المقابلة العاكسة لها مرآتيا في قراءته الناقدة المفككة والمحللة لخطاب هؤلاء المؤرخين الذي نسجوه وقدّموه جذابا مقنعا للقارئ.
بنية الكتاب
قسّم المؤلف كتاب "الهوية الثقافية لموريسكيي تونس" إلى ثلاث أبواب تحتها فصول. أمّا الباب الأول وعنوانه: المسألة الموريسكية في الدراسات التاريخية فيتألف من بابين تحتهما عدّة فصول. عرف المؤلف في الفصل الأول بالموريسكيين التونسيين وهجراتهم من الأندلس، واستيطانهم بتونس. وطرح في الفصل الثاني على نحو إشكالي المسألة الموريسكية في الدراسات التاريخية خاصّة المنجزة في المدرسة التاريخية التونسية باعتماد أنموذج المجلة التاريخية المغاربية. وقد عرّف المؤلف بهذه المدرسة وفلسفة التاريخ لدى روّادها، وبالمجلة التاريخية المغاربية معرّفا بأهدافها وإنجازاتها خلال خمس وثلاثين سنة. ولئن اعتنى بالحضور المغاربي في المجلة التاريخية فإن المسألة الموريسكية لم تكن غائبة في المدرسة التاريخية المغاربية.
كما اعتنى المؤلف بهذه المسألة في المدارس التاريخية الإسبانية، وذكر من أعلامها مدرسة أوفيادو الإسبانية والمؤرخ الإشبيلي رودريغو دي زياس، وكذلك المدرسة الفرنسية للكتابة التاريخية، ومن أبرز رموزها شارل أندري جوليان وغابرييل مارتينيز-غرو وميشال دي سارتو. هذا إضافة إلى المدرسة الأنقلو-سكسونية والمدرسة الأمريكية اللاتينية للكتابة التاريخية، دون إغفال المقاربة الثقافية الإيبرو ـ أمريكية. وصرف الفصل الثالث من هذا الباب لدراسة الهوية الثقافية الموريسكية في الدراسات التاريخية.
في الباب الثاني وعنوانه "طرح مسألة الهوية الثقافية الموريسكية من خلال نماذج هيستوريوغرافية مقارنة" فيتكون بدوره من ثلاثة فصول. خصص الفصل الأول لتقديم عينة مع ذكر معيار اختيارها. بعدها عرّف بالكتاب وتوجهاتهم الميستوريوغرافية. فمن المؤرخين التونسيين اختار الباحث عبد الجليل التميمي ومحمد ضيف الله وأحمد الحمروني. ومن المؤرخين الأجانب انتخب ميكال دي ايبالثا ونيكولا هوبكنز وجان فيدال، فقدّم مقالات هؤلاء المؤرخين ومقالاتهم في سياقاتها.
ودرس في الفصل الثاني تمثلات المؤرخين التونسيين والأجانب المتعلقة بمسألة الهوية الثقافية الموريسكية بتونس. فاعتنى بتمثلات المؤرخين التونسيين والأجانب المتعلقة بمسألة الهوية الثقافية الموريسكية بتونس، واعتبرها ممثلة للرؤية من الدّاخل.
أما تمثلات المؤرخين الأجانب فاعتبرها ممثلة للرؤية من الخارج. وقد مهد له ذلك ليدرس في الفصل الثالث "المرايا المتعاكسة في الخطاب الهيستوريوغرافي حول الهوية الموريسكية"، فاستخلص منها التباينات الظاهرة والالتقاءات الخفية في المواقف ووجهات النظر، والهوية المتصلة في خطاب المؤرخ التونسي، والهوية المنقطعة في خطاب المؤرخ الأجنبي.